وزير الأوقاف يكتب.. البنـــاء الثقافــي
![](https://www.doaah.com/wp-content/uploads/2016/11/ar.awkafonlin.jpg)
لا يمكن لعالم أو عاقل أو باحث أو سياسي أو مفكر أو مسئول أن ينكر أهمية البناء الثقافي الصلب القوي المتين المتنوع المنفتح المستنير في تمييز شخصية الأفراد والدول ، وأراني مفعمًا حتى النخاع بأهمية هذا البناء والتكوين الثقافي الذي يتسع معه أفق المثقف اتساع رحابة هذا العالم الزاخر بالعلوم والمعارف ، وتجارب الأمم وتاريخها وحضاراتها ، وجغرافية العالم وتضاريسها ، وانبساطاتها وانحناءاتها ، وسهولها وجبالها ووديانها، وبحارها وأنهارها ومحيطاتها ، وفضاءات الكون بآفاقها القريبة والبعيدة المنظورة وغير المنظورة ، ولغات العالم وثقافاته وعادات الأقوام وأعرافهم وتقاليدهم ، وثراء الحياة بآدابها وفنونها , وحدائقها ومنتزهاتها ، ومصايفها ومشاتيها ، وخريفها وربيعها ، وثلوجها وزمهريرها ، وأطر التعامل والتكيف بين البيئة وساكنيها من إنس وغير إنس ، مع الوقوف على آخر تطورات العلم ومستجداته ، في إطار الفهم الثقافي العام لعموميات الكون والحياة ، والفهم الخاص الدقيق لما تخصص الإنسان فيه .
ومع أن البناء الثقافي له تصنيفاته المتعددة والمتنوعة فإنني أقف على لون واحد من ألوان التصنيف الثقافي ، وهو الثقافة الرصينة ، والثقافة الهشة ، فالثقافة الرصينة هي التي تصقل صاحبها صقلاً متينًا سواء في مجال اختصاصه الدقيق أم في مجال معلوماته العامة ومشاركاته المجتمعية .
أما الثقافة الهشة فهي تلك التي تقف بصاحبها متفرجًا على شاطئ الثقافة غير قادر على الخوض في عبابه أو غماره أو عبوره أو حتى مجرد الخوض فيه ، هي تلك التي نرى صاحبها متشدقًا ببعض العبارات والألفاظ المستوردة أو غير المستوردة ، أو متفيهقًا ببعض العبارات المتقعرة يستر بها جهله الثقافي والعلمي وضآلة محصوله المعرفي .
مع تأكيدنا أننا لا يمكن أن نبني بناء ثقافيًّا رصينًا ما لم نبن الإنسان بناء علميًّا ومعرفيًّا متينا , من خلال التعلم المستمر ، وأن يكون الترقي إلى الدرجات الأعلى في كل ما يتصل بالجوانب العلمية ، والثقافية، والإدارية ، مرتبطًا بشكل ما بالترقي الثقافي العام والخاص ، إذ لا يمكن أن نقيم شخصية إنسان ما بمعزل عن محصوله ومخزونه الثقافي وحنكته في استخدام وتوظيف هذا المخزون في تصرفاته العامة والخاصة .
لقد صارت قضية الثقافة الرصينة أمرًا شاقًّا على كثير من أصحاب التكوين العلمي الهش ، وأصبح الصبر على القراءة الدقيقة والغوص في بطون أمهات الكتب وسبر أغوار النص والقدرة على التحليل والاستنباط أمرًا شبه عزيز إلا من رحم ربي ، وأرى أننا في حاجة ماسة إلى وضع معايير دقيقة يكون التكوين الثقافي الرصين أحد أهم أركانها عند اختيار القيادات العلمية والفكرية والثقافية والتعليمية والتربوية والإدارية وعند بناء مناهجنا التعليمية ، وأن يكون الانتقاء منهجًا أصيلا عند تعيين أو ترقية أي من العاملين بهذه المجالات ، وأن تنشأ بكل مؤسسة لجنة تقوم بعملية الفرز والاختيار والإعداد والتأهيل ، في سبيل تحديث نظم الإدارة من جهة ، والدفع بأكثر الناس علمًا وثقافة في مجال الوظيفة العامة من جهة أخرى , وبما ينعكس أثره في التكوين العلمي والثقافي والتربوي لدى النشء والشباب وسائر طبقات المجتمع.
غير أنه مما يؤلمنا كثيرًا ويأخذ من أنفسنا أننا أمة “اقرأ” , أمة دينها يقدس العلم ويعلي من شأن العلماء أن يكون هذا حالها الثقافي والمعرفي .
لقد رفع الإسلام من شأن العلم والعلماء ، حيث يقول الحق سبحانه : ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ” ، ويقول سبحانه : ” هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه “.