واجبنا نحو الأشهر الحرم، للدكتور خالد بدير
واجبنا نحو الأشهر الحرم، للدكتور خالد بدير.
استقبلنا شهراً عزيزاً كريماً علينا من الأشهر الحرم ألا وهو شهر ذو القعدة؟ والأشهر الحرم – كما نعلم جميعاً- أربعة، هي : ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.وقد ذكرها الله تعالى إجمالاً في قوله: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة : 36) وبيَّنَها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفصيلاً في حجة الوداع فقال: ” أَلا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”(البخاري) وإنما قال – صلى الله عليه وسلم -: ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان؛ لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبًا، وكانت مضر تحرم رجبًا نفسه، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “الذي بين جمادى وشعبان” تأكيدًا وبيانًا ، وليرفع ما وقع في اسمه من الاختلال، ليبين صحة قول هذه القبيلة في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظن قبيلة ربيعة مِنْ أنَّ رجبَ المُحَرَّم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضانُ اليوم، فبين – صلى الله عليه وسلم – أنه رجب مضر لا رجب ربيعة.
ومعنى كلمة حرم أي أن هذه الأشهر الحرم لها حرمة ومكانة وقداسة وعظمة عند الله، فيحرم فيها القتال والسرقة وانتهاك الحرمات كلها، لذلك تضاعف فيها الحسنات كما تضاعف فيها السيئات، لحرمة هذه الأشهر، فيجب علي المسلم تعظيم هذه الحرمات في هذه الأشهر الحرم، و خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها وإن كان منهياً عنه في كل الزمان.
قال قتادة: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
ومن حكمة الله تعالى وتقديره لعباده أن عظّم لهم مواسم وأيامًا، تضاعف فيها الحسنات كما تضاعف فيها السيئات، فلا يستوي فيها من عمل صالحًا مع من عمل صالحًا في غيرها، ولا يستوي فيها عمل السيئات مع عملها في غيرها، فلها من المزايا في هذا الباب ما لا يقارن بسواها، حيث عظّم الله تعالى شأنها وعظم الحرمات والشعائر فيها.
لذلك كان ظلم النفس والغير في هذه الأيام من أعظم الذنوب والآثام؛ وذلك لما لها من حرمة كبيرة عند الله تعالى، ولأن القتال في هذه الأشهر قد يعرض مئات الآلاف من الحجاج وأهليهم الذين في ديارهم للهلاك والقتل بلا ذنب أو جريرة أو مشاركة في الحرب، لذلك أمّن الله تعالى هؤلاء الناس – بل والأرض جميعًا- على أنفسهم وأموالهم في هذه الأيام؛ لكي لا تمتد إليهم يد بقتل أو انتهاك للحقوق.
قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: “كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه”.
ولكن : لماذا كانت الأشهر المحرمة ثلاثة متوالية وواحد فرد؟!!
قال العلماء: وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحُرِّم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، فيذهبون إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وهم آمنون، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وهم آمنون، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً.
إن ديننا هو دين السلام والأمان، دين يحرّم القتال في ثلث العام، ليأمن الناس على حياتهم وعلى أموالهم وأعراضهم، ولا يجعل للقتال مبررًا في هذه الأيام إلا رد العدوان، أما ما دون ذلك فلا يجوز للمسلمين بدء القتال.
لقد عظم الإسلام الدم، وجعل سافكه مرتكبًا لإثم كبيرٍ، وفي هذه الأشهر تتضاعف تلك الجريمة، إنها رسالة للعالم وللإنسانية أن هذا الدين دين سلم وسلام، وأمن وأمان، فهلاَّ فقهت البشرية وانتبه عقلاء العالم إلى هذا الدين العظيم!!
إن ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات في هذه الأشهر ظلم بيِّن للنفس لذلك قال تعالى: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم، وقال قتادة في قوله: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
يقول الإمام القرطبي – رحمه الله – ” لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال” ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: { يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } (الأحزاب: 30)
وذلك لأن الفاحشة إذا وقعت من إحدى نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – يضاعف لها العذاب ضعفين بخلاف ما إذا وقعت من غيرهن من النساء.
ولكن ما موقف المشركين من هذه الأشهر الحرم؟!
نعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كتب معاهدات مع غير المسلمين أنه لا قتال في الأشهر الحرم ، وقد كان العرب قبل الإسلام يعظّمون الأشهر الحرم فيما يظهر للناس، ولكنهم يتلاعبون بها وفق أهوائهم، فإذا أرادوا قتالاً أو إغارة على قبيلة من القبائل أحلوا أحدها عامًا وحرموه عامًا، وسبب ذلك أن العرب كانت أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن، وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرم و الله، وهم يرون بذلك عملهم حسنًا، ولكنه تزيين الشيطان لهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم سبحانه وتعالى.
وفي هذا إشارة بليغة إلى أن الله -عز وجل- ينبغي أن يُعبد كيفما شرع هو -سبحانه وتعالى- لا كما يهوى الناس، فالأمر في العبادات توقيفي على الشريعة الغراء التي أنزلها الله على نبيه – صلى الله عليه وسلم – ، وهذا هو المقياس الحقيقي للطاعات والعبادات، أن تكون تبعًا لما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم – ، لا كما يبتغي الناس ويهوون، ولا كما تسيرهم شهواتهم ورغباتهم ونزواتهم، ولا كما يزين لهم شياطينهم أنه خير من شريعة الله التي نزلت من عنده غضةً على رسوله – صلى الله عليه وسلم – ، بل هدي نبيه أكمل هدي، وفعل رسوله أقوم فعل، ولا يزال يأتي الناس بعبادات لم يفعلها نبيهم فلا تزيدهم عن الله إلا بعدًا، ولا عن شريعته إلا انقطاعًا، فسبحان من أمر باتباع نبيه في جميع شأنه ونهى عن الابتداع ولو شيئًا قليلاً.
وقد صور الله فعلتهم الشنيعة هذه وتلاعبهم بالشهور في قوله تعالى: { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة: 37)، روي في ذلك: أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى “أبا ثُمَامة”، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب، ، ولا مَرَدّ لما أقول، ألا وإن صفر العام الأول حلال، فيحله للناس، فيحرم صفراً عاماً، ويحرم المحرم عاماً، فذلك قول الله: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله: { الكافرين } يقول: يتركون المحرم عاماً، وعاماً يحرمونه، وقال بعض العلماء: أنهم يزيدون شهراً فتصير السنة عندهم ثلاثة عشر شهراً، وقيل يزيدون شهرين، وقيل يزيدون نصف شهر، وقيل غير ذلك، وأياً ما كان الأمر فإن الغاية والهدف واحد وهو التلاعب بالشهور فيكون الشهر الحرام عندنا ، حلال عندهم حتى يغيروا على المسلمين ويقاتلونهم فيها بحجة أن هذه الأشهر حلال عندهم، وهذا النسئ المذكور في الآية معناه تأخير الشهور عن بعضها، {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ }، وهذا النسئ منع النبي – صلى الله عليه وسلم – من الحج في هذا العام لأن الأشهر كانت منسوئة من ناحية، وأن المشركين كانوا يطوفون بالبيت وهم عرايا من ناحية أخرى، فكره النبي – صلى الله عليه وسلم -أن تقع حجته في غير ذي الحجة أن يطوف بالبيت وهم عرايا فنزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}( التوبة: 28)، فأمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين، الذين هم نَجَس دينًا، عن المسجد الحرام، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية، وكان نزولها في سنة تسع؛ ولهذا بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علياً صحبة أبي بكر، رضي الله عنهما، عامئذٍ، وأمره أن ينادي في المشركين: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم الله ذلك، وحكم به شرعاً وقدراً، فقال الناس: لتنقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق، لأن الصحابة خافت على نفسها من الجوع والفقر لما كانون يكتسبونه من تجارات قريش، وقد منعت من دخول الحرم، فنزلت: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ } إلى قوله: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي: إن خفتم فقراً ، فهذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب، من الجزية، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } أي: بما يصلحكم، { حَكِيم } أي: فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره، تبارك وتعالى؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة.
وفي العام العاشر حج النبي – صلى الله عليه وسلم – فوافق أن اعتدلت الشهور دون زيادة أو نقصان أو نسيئة فقال في خطبة الوداع: ” أَلا إِنَّ الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”، فقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: ” إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض” ، تقرير منه، صَلَوَات الله وسلامه عليه، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل، وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث: إن المراد بقوله: “قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض” ، أنه اتفق أن حج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تلك السنة في ذي الحجة، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء، يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة ، ثم حج النبي – صلى الله عليه وسلم – حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبته: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض”، أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ.
وفي الختام: ما هو واجب المسلم تجاه الأشهر الحرم؟!
ينبغي على المسلم تجاه الأشهر الحرم عدة أمور نجملها فيما يلي:
أولاً: أن يعظم هذه الأشهر المباركة المحرمة بما فيها من شعائر ، لأنها اجتمعت فيها شعائر الإسلام كلها من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍ وغيرها، وتعظيم هذه الشعائر من تقوى القلوب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } (الحج: 32)
ثانياً: تعظيم الحرمات لأن أمرها جاء من الله، { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } (الحج: 30)، وإذا كان الفرد يقدس الأوامر البشرية والعسكرية ولا تسول له نفسه أن يقصر فيها ، فمن باب أولى أن يعظم الأوامر الإلهية لكونها صادرة من عظيم، كما قال قتادة: عَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
ثالثاً: أن تكون وقافاً عند حدود الله وفرائضه وحرماته، قال – صلى الله عليه وسلم -:« إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا فيها »( أخرجه الحاكم وصححه)
رابعاً: الإكثار من الصيام في هذه الأشهر الحرم: فعن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال يارسول الله أما تعرفني ؟ قال ” ومن أنت ؟ ” قال أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول قال ” فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة ؟ ” قال ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” لم عذبت نفسك ؟ ” ثم قال ” صم شهر الصبر ويوما من كل شهر ” قال زدني فإن بي قوة قال ” صم يومين ” قال زدني قال ” صم ثلاثة أيام ” قال زدني قال ” صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك ” وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها .( سنن أبي داوود)
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل”( صحيح مسلم)
خامساً: التنبيه على أن انتهاك الحرمات زوال لكل حسناتك ولو كانت كالجبال: فَعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – أَنَّهُ قَالَ : لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا.( صحيح الترغيب والترهيب للألباني)
سادساً: تحري فعل الخيرات في هذه الأشهر لاشتمالها على فضائل وعبادات ليست في غيرها، وهي مشهورة :
أ- فتشمل الحج، فأفعال الحج كلها تقع في ذي الحجة، والحج شعيرة من أعظم شعائر الدين، والتي تحتوي على جميع أنواع العبادات البدنية والمالية والقلبية والقولية والاعتقادية.
ب- كما تشمل ذو الحجة وفيه الليالي العشر التي أقسم الله بها، وتسمى عشر ذي الحجة.
جـ – كما تشمل يوم عرفة، وهو أفضل أيام العشر، ويشرع لغير الحاج صيامه.
د- كما تشمل العشر وعلى عيد الأضحى، ويشرع فيه الأضحية.
سابعاً: المسارعة إلى كثرة الحسنات والبعد عن السيئات ، وذلك لتضاعف الحسنات والسيئات بسبب شرف الزمان والمكان، فكل سيئة يقترفها العبد تكتب سيئة من غير مضاعفة لكن تعظم أي تكبر بسبب شرف الزمان أو المكان أو الفاعل كما ذكر في حق نساء النبي، فالسيئة أعظم تحريمًا عند الله في الأشهر الحرم، وفي عشر ذي الحجة لشرفها عند الله، والخطيئة في الحرم أعظم لشرف المكان؛ قال ابن القيم رحمه الله: تضاعف مقادير السيئات لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤها السيئة، لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها وصغيرة وجزاؤها مثلها، فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد منها في طرف من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه. اهـ.
والسيئة من بعض عباد الله أعظم؛ لشرف فاعلها وقوة معرفته بالله وقربه منه سبحانه وتعالى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثامناً: الابتعاد عن الظلم في هذه الأشهر لقوله تعالى: { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }
والظلم ثلاثة أقسام :
• ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى وأعظمه الشرك بالله .
• ظلم بينه وبين الناس.
• ظلم بينه و بين نفسه .
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس ، فإن الإنسان أول ما يَهُمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ، فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ الله، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ، وَظُلْمٌ لا يَتْرُكُهُ، فَأَما الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ، قَالَ الله: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ فَظُلْمُ العِباَدِ أَنْفُسَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَتْرُكُهُ الله فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يُدَبِّرُ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ”.( الصحيحة للألباني)
تاسعاً: حسن استغلال هذه الأشهر وذلك من خلال الأمور التالية :
•بعقد العزم الصادق بالتوبة و الإنابة إلى الله والهمة العالية على تعمير هذه الأشهر بالأعمال الصالحة ، فمن صدق الله صدقه، على الطاعة و يسر له سبل الخير.
•باغتنام هذه الفرصة لتزكية نفسك و تعوديها على الطاعة.
•باستشعار رقابة الله عز وجل و التفكير في معاني أسمائه الحسنى ( السميع، البصير، الشهيد، المحيط، الرقيب……..)
•بالمسارعة في تصحيح مسيرك إلى الله و تحمل الصعاب و المشاق و الصبر على ذلك ومن ثم تصحيح سلوكك و خلقك مع الناس (أهلك _ أرحامك_ جيرانك_ أصحابك ….) و سلامة صدرك نحوهم.
وفقتا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي