خطبة جمعه بعنوان: تقديم الكفاءات وأثره في نهضة الأمم، للدكتور خالد بدير
خطبة جمعه بعنوان: تقديم الكفاءات وأثره في نهضة الأمم، للدكتور خالد بدير.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الكفاءات
العنصر الثاني: معايير اختيار الكفاءات في الإسلام وأثرها في نهضة الأمم
العنصر الثالث: بين المساواة وتقديم الكفاءات في الآخرة
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الكفاءات
إن من يطالع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه راعى تقديم الكفاءات في جميع مجالات الحياة وفق المصلحة العامة والقدرات والمواهب التي اختص بها بعض الصحابة دون البعض؛ وشواهد ذلك كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا عبدالله بن زيد لما رأى رؤيا الأذان في منامه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى فقال له صلى الله عليه وسلم: ” إنها لرؤيا حق إن شاء الله؛ فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا منك ” قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فلله الحمد”(أبوداود وأحمد وابن ماجة)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم الكفاءة في حسن الصوت ومنفعة المسلمين؛ ولم يعطها عبدالله مع أنه هو الذي رأى الرؤيا وهو أحق بها ولكنه تقديمٌ للكفاءات؛ وهكذا ينبغي أن يراعى ذلك في اختيار العمال والمؤذنين والخطباء والدعاة.
وفي طريق الهجرة نجد لتقديم الكفاءات أثرا بالغا في نجاح خطته صلى الله عليه وسلم؛ فتوزيع الأدوار جاء مرتباً مخططاً منظماً وفق خطة علمية كفائية مدروسة، فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ( مع أنه غير مسلم)، والمكان المؤقت : غار ثور ، وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي.
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم في تقديم الكفاءات كلٌ في تخصصه، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب وتقديم الكفاءات مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
وأنت حينما تدرس غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم تجد لتقديم الكفاءات أثرا بالغا في انتصاره صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته؛ وذلك بحسن ترتيبه في اختيار الكفاءات سواء في ولاية الصحابة على الجيوش واختيار القادة وحاملي الرايات؛ أو من خلَّفَهم على المدائن حتى العودة من الحروب؛ وأنت بكل ذلك خبير!!
وهذا مثال آخر في اختيار الولاة حينما طلبها منه أبو ذر؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ؛ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ ؛ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ؛ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا” ( مسلم )
فالنبي وهو قائد المسلمين، يعلم مَنْ يقدر على أعباء هذه المهمة ومن لا يقدر، ولقد أيقن رسول الله أن أبا ذر لا يصلح لهذا الأمر، فنصحه بالابتعاد عنها؛ خشية ضياعها، وعدم الاعتناء بها، ولا شكَّ أن هذا منهجٌ نبويٌّ كريمٌ، وقاعدة إسلامية حضارية في تولية الأمراء والولاة أصحاب الكفاءة، والبعد كل البعد عمن لا يصلحون لهذه المهمة، وإن كانوا من ذوي القربى والصحبة؛ لأن مصلحة المسلمين مقدمة على المصالح الشخصية أو مصالح ذوي القربى والصحبة.
ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للصحابة في قضية تأبير النخل لما علم خبرتهم وكفاءتهم في ذلك؛ فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ. فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا؛ فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟! قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ” ( مسلم )
وعلى أساس القواعد والمصالح العامة للدولة الإسلامية صنف الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة حسب تخصصاتهم ومواهبهم واتجاهاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم في كل مجالات الحياة. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ : أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.” (سنن ابن ماجة)
عباد الله: شواهد تقديم الكفاءات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته وسنته كثيرة وعديدة لا يتسع المقام لاستقرائها ويكفي القلادة ما أحاط بالعنق.
لذلك شدد صلى الله عليه وسلم في أمر تقديم الكفاءات أيما تشديد؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ» ( الحاكم وصححه )؛ وقَالَ أيضا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ” ( أحمد والحاكم)
العنصر الثاني: معايير اختيار الكفاءات في الإسلام وأثرها في نهضة الأمم
من خلال استقراء نصوص القرآن والسنة وسيرة سلف الأمة يمكن استخراج المعايير والشروط والضوابط التي بها يتم اختيار الكفاءات والتي تتلخص فيما يلي:
أولاً: القوة والأمانة
هاتان الصفتان تتصدران هذه المعايير لأهميتهما في اختيار الكفاءات؛ وهذا الذي دفع المرأتين إلى اختيار موسى عليه السلام:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(القصص: 26)؛ وقد أخذ العلماء ـ رحمهم الله ـ هذه الآية مأخذ القاعدة فيمن يلي أمراً من الأمور، وأن الأحق به هو من توفرت فيه هاتان الصفتان، وكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم، كان التشدد في تحقق هاتين الصفتين أكثر وأكبر؛ وهذه القوة بها ينال العبد محبة الله تعالى؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ( مسلم)؛ وقد لوحظ وصف القوة والأمانة، في قول يوسف عليه السلام للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. “أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه”( تفسير السعدي).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}…، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر…، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]… إلى أن قال: “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:” اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة”، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوةً، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر…”(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية).
ثانيا: الحزم والشدة
فالرجل الحازم يستطيع أن يمسك زمام الأمور بقبضته؛ لأنه يجد شرودا ممن تحته؛ والناس ليسوا على وتيرة واحدة في الانقياد والطاعة؛ وكما قيل: العبد يقرع بالعصا ..والحر تكفيه الإشارة؛ ونجد أن عمر بن الخطاب يضع طرقًا وشروطًا فيمن يتولَّى الإمارة فيقول: “لا يصلح الوالي إلا بأربع خصال، إن نقصت واحدة لم يصلح له أمر: قوة على جمع المال من أبواب حلِّه، ووضعه في حقِّه، وشدة لا جبروت فيها، ولين لا وهن فيه” ( سراج الملوك ؛ الطرطوشي)
ثالثا: اجتياز الاختبار
على أن يعقد اختبارٌ لصاحب الكفاءة في علمه وعمله وسلوكه وأخلاقه؛ ومن ثَمَّ كان عمر بن الخطاب يُمعن في اختيار الولاة والعمال، فلم يُعيِّن واليًا أو عاملاً إلا بعد اختبارات علنية وسرية، وبعد أن يسأل عنه ويتأكَّد من أهليته وصلاحيته لهذا المنصب، وكان يشترط عليه ألا يُغلق بابه دون حوائج الناس.
رابعا: الرحمة والشفقة على الرعية:
فالرحمة والشفقة بالرعية من أهم معايير تقديم الكفاءات في الحضارة الإسلامية؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه يُشدِّد على ضرورة اتصاف الوالي بالرحمة واللين، ومن كان غير مُتَّصف بذلك فإنه ينزع الولاية منه؛ فقد أمر بكتابة عهد لرجل قد اختبره وأراد أن يُعَيِّنه، فبينما الكاتب يكتب، جاءه صبي، فجلس في حِجر عمر فلاطفه، فقال الرجل: “يا أمير المؤمنين، لي عشرة أولاد مثله، ما دنا أحد منهم مني. قال عمر: فما ذنبي إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. ثم قال: مَزِّق الكتاب؛ فإنه إذا لم يرحم أولاده، فكيف يرحم الرعية؟!” (تاريخ عمر؛ لابن الجوزي)
لذلك قال عمر رضوان الله عليه: والله لقد لان قلبي حتى هو ألين من الزبد، و لقد اشتد قلبي حتى هو أشد من الحجر. وقد استمد عمر رضي الله عنه هذا المبدأ الأصيل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:” اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ؛ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ” ( مسلم)
خامسا: المعرفة بأهل الوبر وأهل المَدَر
فينبغي عند تقديم واختيار الكفاءات؛ المعرفة بالرعية وظروفهم وأحوالهم؛ ومعرفة أهل الريف والحضر؛ لذلك كان عمر رضي الله عنه ينظر حين تعيينه أحد عماله، إلى بعض الخصائص والطباع والعادات والأعراف، فلقد عُرف أنه كان ينهى عن استعمال رجل من أهل الوبر على أهل المدر، وأهل الوبر هم ساكنوا الخيام، وأهل المدر هم ساكنوا المدن؛ وهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن معاً، في اختيار الموظفين، فلكل من أهل الوبر والمدر طبائع وخصائص وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة، ومن الطبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسية الرعية، وليس من العدل أن يتولى أمرها رجلٌ جاهل بها، فقد يرى العُرف نُكراً وقد يرى الطبيعي غريباً، فيؤدي ذلك إلى غير ما يتوخاه المجتمع من أهداف يسعى إلى تحقيقها[نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي؛ ظافر القاسمي].
سادسا: وضع الشخص المناسب للمكان المناسب
هذه مقولة شائعة تتردد على ألسنة الكثيرين ( الشخص المناسب للمكان المناسب ) ، وهذا بلا شك له أثره الفعال على العاملين فمن المعلوم أن كل شخص يرغب في عمل لا يرغب فيه آخر ، أو يتناسب عمل مع قدراته وفي الوقت ذاته لا يتناسب مع الآخر ، وهذا أساس يجب أن تبذل عناية كبيرة لكي يكون الاختيار صحيحاً ، وذلك لصالح العمل والعمال، اختياراً صحيحاً هدفه وضع العامل في الحرفة التى يستطيع أداءها وينسجم معها؛ وتجد الميل في نفسه ، وتتفق مع ميوله الشخصية؛ وبذلك ينتظم العمل ويعم النماء والرخاء البلاد والعباد.
سابعا: إنزال الناس منازلهم
ومن تنزيل الناس منازلهم أن تُجعل الوظائف الدينية والدنيوية والممتزجة منهما للأكفاء المتميزين، الذين يفضُلون غيرهم في ولاية تلك الوظيفة، وكذلك ولاية القضاء؛ يختار لها الأعلم بالشرع وبالواقع، والأفضل في دينه وعقله وصفاته الحميدة.
وبذلك تستقيم القلوب والأبدان؛ ويعلو البنيان؛ وترتفع الأركان؛ ونسعد برضا الرحمن!!
ثامنا: التعفف عن المال العام وعزل من تثبت إدانته
فينبغي على ذي الكفاءة أن يتعفف عن المال العام؛ وأن لا يستخدم نفوذه وسلطانه لمصالحه الشخصية أو شهرته؛ أو جعله وسيلة للحصول على عقارات وأطيان وممتلكات!! وقد تضافرت النصوص القرآنية والنبوية عن حرمة المال العام؛ وذكرناها مرارا في خطبٍ سابقةٍ ؛ لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعزل من تثبت إدانته في سرقته للمال العام؛ وتبعه الخلفاء الراشدون من بعده؛ والروايات في أكثر من أن تحصى؛ منها:
عن عاصم بن بهدله قال: كان عمر بن الخطاب جالساً مع أصحابه فمرّ به رجل فقال له: ويل لك يا عمر من النار؛ فقال رجل: يا عمر ألا ضربته! فقال له رجل أظنه علياً (رضي الله عنه) ألا سألته فقال: عليّ بالرجل فقال له: ولم ؟ قال: تستعمل العامل وتشترط عليه شروطاً فلا تنظر في شروطه. قال: وما ذاك؟ قال: عاملك على مصر اشترطت عليه شروطاً فترك ما أمرته به وانتهك ما نهيته عنه.
وكان عمر إذا استعمل عاملاً اشترط عليه أن لا يركب دابة ولا يلبس رقيقاً ولا يأكل نقياً ولا يغلق بابه عن حوائج الناس وما يصلحهم. قال: فأرسل إليه رجلين، فقال: سلا عنه فإن كان كذب عليه فأعلماني؛ وإن كان صدق فلا تملكا من أمره شيئاً حتى تأتياني به؛ فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه. فاستأذنا ببابه فقال: إنّه ليس عليه إذن. فقالا: ليخرجن إلينا أو لنحرقنّ بابه؛ وجاء أحدهما بشعلة من نار؛ فلما رأى ذلك آذنه فخرج إليهما فقالا: إنا رسولا عمر لتأتيه، فقال: إنّ لنا حاجة نتزود؛ قالا: ما أنت بالذي تأتي أهلك؛ فاحتملاه فأتيا به عمر فسلّم عليه فقال: من أنت ويلك؟ قال: عاملك على مصر؛ وكان رجلاً بدوياً؛ فلما أصاب من ريف مصر ابيضّ وسمن. فقال: استعملتك وشرطت عليك شروطاً فتركت ما أمرت به وانتهكت ما نهيتك عنه. أما والله لأعاقبنّك عقوبة أبلغ إليك فيها؛ إيتوني بدرّاعة من كساء وعصا وثلثمائة شاة من شياه الصدقة؛ فقال: البس هذه الدراعة فقد رأيت أباك وهذه خير من درّاعته؛ وهذه خير من عصاه؛ واذهب بهذه الشاة فارعها في مكان كذا وكذا وذلك في يوم صائف؛ ولا تمنع سائلا من ألبانها شيئاً؛ واعلم أنّا آل عمر لم نصب من شياه الصدقة ومن ألبانها ولحومها شيئاً؛ فلما أمعن ردّه فقال: أفهمت ما قلت لك؟! وردد عليه الكلام ثلاثاً! فلما كان في الثالثة ضرب بنفسه الأرض بين يديه وقال: ما أستطيع ذلك فإن شئت فاضرب عنقي. قال: فإن رددتك فأيّ رجل تكون؟!! قال: لا ترى إلاّ ما تحب؛ فكان خير عامل”(مناقب عمر لابن الجوزي) .
وعن هلال بن أمية: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم على الشام، فبلغه أنه اتخذ حمَّاما، واتخذ نوابا، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثا، ثم أذن له، ودعا بجبة صوف فقال: البس هذه، وأعطاه كنف الراعي وثلاثمائة شاة، وقال: انعق بها، فنعق بها، فلما جاوز هنيهة قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بها كذا وكذا، اذهب. فذهب حتى إذا تباعد ناداه يا عياض أقبل، فلم يزل يردده حتى عرقه في جبته، قال: أوردها عليَّ يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه إليه فقال: انزع عليها.
فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها، ثم قال، انعق بها فإذا كان يوم كذا فأوردها، فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران، قال: فاندس إلى امرأة عمر رضي الله عنها وكان بينه وبينها قرابة، فقال: سلي أمير المؤمنين فيم وجد عليَّ ؟ فلما دخل عليها قالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت على عياض ؟ قال: يا عدوة الله، وفيم أنت وهذا، ومتى كنت تدخلين بيني وبين المسلمين؟ إنما أنت لعبة يلعب بك، ثم تتركين. قال: فأرسل إليها عياض: ما صنعت؟ فقالت: وددت أني لم أعرفك ما زال يوبخني حتى تمنيت أن الأرض انشقت فدخلت فيها، قال: فمكث ما شاء الله ثم اندس إلى عثمان رضي الله عنه فقال: سله فيم وجد عليَّ ؟ فقال: يا أمير المؤمنين فيم وجدت على عياض؟ فقال: إنه مر إليك عياض فقال: شيخ من شيوخ قريش، قال فتركه بعد ذلك شهرين أو ثلاثة ثم دعاه، فقال: هيه، اتخذت نوابا، واتخذت حمَّاما، أتعود؟! قال: لا، قال: ارجع إلى عملك!! (تاريخ المدينة – ابن شبة النميري)
قلت: إذا كان عامله اتخذ حمَّاما ونوابا وعاقبه بذلك؛ فكيف بمن يأكل ثروات الأمة وينهب خيراتها؟!!
وهذه القصة لها قصص أخرى متشابهة مع ولاة آخرين منهم عبد الله بن قرط والي حمص وغيره؛ وحدث معهم مثلما حدث مع صاحبيهم!! وقد جمع هذه المعايير في اختيار الكفاءات الحسن رضي الله عنه في قوله:« من علامات المسلم قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحلم في علم، وكيس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة ، وتورع في رغبة ، وتعفف في جهد، وصبر في شدة، لا ترديه رغبته، ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يغلبه فرجه، ولا يميل هواه، ولا يفضحه بطنه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته»(اليقين لابن أبي الدنيا)
عباد الله: هذه معايير تقديم الكفاءات في الشريعة الإسلامية؛ ولا شك أن لذلك أثره الفعال على نهضة وتقدم ورقي المجتمع الذي نعيش فيه؛ أما إذا أعدمت الكفاءات؛ ودفنت المواهب والقدرات؛ وقرب الجهلاء ورفعت لهم علامات؛ فحدث ولا حرج عن مجتمع حل فيه الفقر والمجاعات؛ وماتت فيه القيم والمبادئ وانتهكت فيه الحرمات!!
العنصر الثالث: بين المساواة وتقديم الكفاءات في الآخرة
أحبتي في الله: تكلمنا في العنصرين السابقين عن تقديم الكفاءات وأثره في نهضة الأمة ورقيها؛ وفي هذا العنصر نتكلم مع حضراتكم عن تقديم الكفاءات في الآخرة.
فالله عز وجل خلق الناس من أجل التعارف، يقول جل وعلا :{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات: 13). فكلنا أبناء آدم وحواء متساوون من حيث النسب لأب واحد وأم واحدة، وقد جعلنا الله الخالق جل وعلا مختلفين من حيث العنصر واللون والثقافة لكي نتعارف لا لكي نتحارب؛ وجعلنا متساوين أيضا في اختيار الطاعة أو المعصية، ومع هذه المساواة فلا يمكن أن يتساوى العاصي المجرم بالمتقى المؤمن، وهذا ما سيحدده الله جل وعلا وحده وهو العليم الخبير يوم القيامة، فالأكرم بيننا هو من سيكون يوم القيامة متقيا حسب عمله وإيمانه وحسب كفاءاته في العمل سواء كان عملا دنيويا أو أخرويا.
وتبعا للمساواة في التكاليف الشرعية وإتقان العمل والكفاءة فيه؛ والمساءلة عنه يأتي الجزاء لكل فرد طبقا للعمل، فمن يعمل صالحا فلنفسه، ومن يعمل شرا فعلى نفسه:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) ؛ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (الجاثية: 15)؛ وطبقا لتكافؤ الفرص وتفاوت الكفاءات فلا يمكن أن يتساوى الصالح بالمجرم:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم 35؛ 36 )؛{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ }(ص: 28)؛ { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21 )؛ {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}(النجم: 31).
هذا بين المسلم وغير المسلم؛ أما بين المسلمين أنفسهم فهناك أيضا تفاوت في الجزاء حسب العمل والكفاءات، كالإنفاق في سبيل الله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}( الحديد: 10 )، وفى القتال الدفاعي فلا يستوي القاعد بالمقاتل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}( النساء: 95 )
عباد الله: إن كل إنسان منا في عمله يأخذ نسبته المئوية عند الله على قدر إتقانه وكفاءته في أدائه؛ وبالمثال يتضح المقال: إننا لو صلينا الجمعة – مثلا – جماعة في هذا المسجد؛ فإن النسبة التي حصل عليها كل واحد منا تختلف عن الآخر تبعا لخشوعه وتقواه وكفاءته؛ فعن عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا؛ إِلَّا عُشْرُهَا؛ تُسْعُهَا؛ ثُمُنُهَا؛ سُبُعُهَا؛ سُدُسُهَا؛ خُمُسُهَا؛ رُبُعُهَا؛ ثُلُثُهَا؛ نِصْفُهَا” ( أحمد وأبوداود والبيهقي)
وأختم بهذه القصة التي تدل على أن تشييد وبناء بيتك في الجنة يرجع إلى كفاءتك في عملك في الدنيا؛ فبعملك الصالح تبني بيتك في الجنة؛ وكل عمل صالح تعمله فهو لبنة لبناء بيتك في الجنة، فإذا أكثرت من الأعمال الصالحة في سنوات عمرك فإن قصرك في الجنة سيشيد عاليا، فعلى قدر العمل يرتفع القصر والبنيان.
يُحكى عن رجل رأى في المنام أنه مات ، وصعد إلى السماء ولما وصل ..كانت دهشته كبيرة , لما شاهد من الجمال والحدائق الرائعة ، والمنازل والقصور, فسأل عن أصحابها ..فأجابه أحد الملائكة:” هذه المنازل والقصور للصاعدين من الأرض”. ابتهج الرجل كثيراً وطلب من الملاك أن يرشده إلى مكان سكنه , فسار به الملاك إلى مكان حيث أصبحت المنازل متواضعة وفقيرة , فسأل الرجل الملاك أين منزلي؟ فأشار الملاك إلى غرفة فقيرة صنعت من بعض الأخشاب وقال له: هذا هو منزلك . غضب الرجل وقال للملاك: لماذا لا أسكن في أحد القصور التي مررنا بها؟ ولماذا أنا هنا والبقية في الأماكن الأكثر رفاهية؟ أجابه الملاك: في السماء لا يوجد مواد أولية للبناء فكل ما ترسلونه لنا من الأرض من أعمال صالحة نستعمله لبناء منازل لكم، وأنت هذا كل ما أرسلته لنا!!
وقتها يندم الإنسان لأنه لم يكثر من العمل الصالح ولم يحقق الكفاءة في حياته ولا ينفعه الندم!!
وهكذا تتقدم الكفاءات عند الله تعالي في الجزاء الأخروي؛ تبعا لأعمالهم التي قدموها في الدنيا؛ فمن قدم خيرا فهذا هو الفوز العظيم؛ ومن قدم شرا فذلك هو الخسران المبين!!
الدعاء،،،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي