خطبة بعنوان: مظاهر التيسير والرحمة في الحج بين النظرية والتطبيق، للدكتور خالد بدير، بتاريخ: 16 ذو القعدة 1437هـ – 19 / 8 / 2016م
خطبة بعنوان: مظاهر التيسير والرحمة في الحج بين النظرية والتطبيق، للدكتور خالد بدير، بتاريخ: 16 ذو القعدة 1437هـ – 19 / 8 / 2016م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: الإسلام دين اليسر والرحمة
العنصر الثاني: صور ومظاهر التيسير والرحمة في الحج
العنصر الثالث: الرحمة والتيسير في الحج بين النظرية والتطبيق
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: الإسلام دين اليسر والرحمة
عباد الله: إن ديننا الحنيف دين اليُسر والرحمة، فالنبي بُعث بالحنيفية السمحة، فأصل الدين قائم على اليسر وعدم المشقة، فالتيسير على العباد مراد لله، والمشقة لا يريدها الله لعباده: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185]، فالمسلم لا يثاب على المشقة؛ إلا إذا كان لا يمكن أن يأتي بالعبادة إلا بها، فيؤجر على المشقة إذا كانت وسيلة للعبادة، أما تقصُّد المشاقِّ وطلبها، فلا يؤجر عليها المسلم، وكيف يؤجر على شيء لا يريده الله منا ولا يرضاه؟!
ولأهمية اليسر في الشريعة الإسلامية عنون له الإمام البخاري باباً خاصاً في صحيحه وسماه: ” باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس .” وساق عدة وصايا وشواهد وأدلة ليسر النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته منها: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:” مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ.” (البخاري ومسلم واللفظ له). قال صاحب عون المعبود :” فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها .”
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:” يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا”. ( متفق عليه ). وأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الشئ وضده تأكيداً؛ فإنه كان يكفي قوله: ” يسِّرا ” ؛ وإنما ذكر الضد: ” ولا تعسرا ” تأكيداً للأمر. قال الإمام النووي:” إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده ؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين ، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات ، وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال ( ولا تعسروا ) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه ، وهذا هو المطلوب ، وكذا يقال في: ( وتطاوعا ولا تختلفا ) ، لأنهما قد يتطاوعا في وقت ويختلفان في وقت ، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء .”أ.ه
وفي مقابل التيسير في الدين نهى الشارع الحكيم عن التشدد والغلو فيه؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ “. ( البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ” معنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين ، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ” لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ” يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .”أ.هـ
ولأهمية التيسير في الشريعة الإسلامية جعلت له قاعدة جليلة في الفقه وأصوله وهي: ” المشقة تجلب التيسير ” ؛ والمراد بالقاعدة: أن الأحوال التي تحصل فيها مشقة أو عسر أو حرج على المكلف عند تطبيقه بعض الأحكام الشرعية، فإن الشريعة تأتي برفع هذا الحرج والمشقة، وذلك بتخفيف الحكم عليه؛ فالحرج مدفوع قبل وقوعه، وإذا وقع رُفع بأمر الشارع{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } [الحج: 78]، فهذه القاعدة العامة في الشريعة، وإذا كانت عبادة من العبادات، أو حالة من الحالات – مظِّنةَ الحرج والمشقة، جاء تخفيف خاص بها، زيادة على الأصل العام للشريعة، وهو اليسر؛ فلذا كان من كلام النبي في الحج: ” افعل ولا حرج “؛ لكن هذا التخفيف في الحج مضبوط بالنصوص الشرعية، وليس وفق الهوى، فمِن الخطأ حينما يفهم البعض أن: ” افعل ولا حرج “؛ تبيح كلَّ شيء، حتى ربما استدل بذلك مَن لا يملك آلية الاستدلال والاجتهاد.
ومن الأدلة الدالة على أن شعيرة الحج مبنية على التيسير، أنه في كثير من أعمال الحج تجد أنها مبنية على التخيير، والتخيير نوع من التيسير، فأنت مخير في الميقات بين ثلاثة أنساك وهذا أول التيسير، ثم إذا دخلت النسك فإنك إن أتيت محظوراً من محظورات الإحرام قيل لك: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}( البقرة: 196)؛ على التخيير، وهذا نوع من التيسير، ولو أنك قتلت الصيد وأنت محرم لقيل لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}( المائدة: 95)؛ فجزاء الصيد مبني على التخيير.
وهكذا نجد أن الشريعة عموماً وفريضة الحج خصوصاً مبنية على التيسير والرحمة بالعباد؛ وهذا التيسير له صوره ومظاهره في جميع مناسك الحج من وقت الإحرام حتى طواف الوداع؛ وهذا ما سنعرفه في عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.
العنصر الثاني: صور ومظاهر التيسير والرحمة في الحج
أحبتي في الله: للتيسير والرحمة في الحج صور ومظاهر عديدة وكثيرة تشمل جميع مناسك الحج ومن هذه المظاهر والصور:
أولاً: فرضية الحج مرة واحد في العمر: فالحج بخلاف جميع العبادات فرض مرة واحدة في العمر؛ بل يسقط عند عدم الاستطاعة؛ وهذا من يسر الإسلام ورحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد وقف صلى الله عليه وسلم يومًا يخطب في الناس قائلاً: “أَيُّهَا النَّاسُ, قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا”, فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ, ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ”[مسلم].
ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على الحج كل عام، بل من المؤكد أنه كان يشتاق لمثل هذه العبادة الجليلة, لكنه لا يريد أن يقيس الأمر على نفسه, بل يريد أن يقيس الأمر على عموم المسلمين, وذلك بمن فيهم من الضعفاء والكبار والنساء وغير المستطيعين وذوي الاحتياجات !!
والرجل يسأل ويكرر: أفي كل عام يا رسول الله ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم لن يجيب بنعم إلا إذا أراد الله عز وجل, ولكنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن الأمة إذا شدَّدت على نفسها شدَّد الله عليها, ولذلك ذكَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث مع الأمم السابقة التي كانت تُكْثِر من الأسئلة دون احتياج, والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يرحم وييسر على هذه الأمة, وينقذها من أي هَلَكَة..
ثانياً: الإذنُ للضَّعفة أن يدفعوا من مزدلفة إلى منى قبل الناس: حتى لا يضايقهم الأقوياء أثناء دفعهم إلى منى، فقد كان عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – يقدِّم ضعفةَ أهله، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل، فيَذكرون الله ما بدا لهم، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام، وقبل أن يدفع، فمنهم مَن يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رمَوا الجمرة، وكان ابن عمر – رضي الله عنه – يقول: ” أرخص في أولئك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -” . (البخاري ومسلم).
ثالثاً: جواز تقديم بعض أعمال يوم العيد على بعض: فالسُّنة يوم العيد رمي جمرة العقبة أولاً، ثم ذبح الهدي، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة، هذا فعل النبي؛ لكن مَن قدم بعض هذه الأشياء على بعض جاز، قال رجل للنبي – صلى الله عليه وسلم -: زرت قبل أن أرمي؟، قال: ” لا حرج” ، قال: حلقت قبل أن أذبح؟، قال: ” لا حرج “، قال: ذبحت قبل أن أرمي؟، قال: ” لا حرج”.(البخاري). وسيأتي تطبيق ذلك بين الواقع والمأمول في عنصرنا الثالث إن شاء الله تعالى .
رابعاً: النوم في المزدلفة: ومن مظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالحجاج أنه نام في المزدلفة من بعد وصوله وصلاته للمغرب والعشاء جمعاً, وذلك إلى صلاة الفجر[مسلم], ولم يَرِدْ عنه أنه صلى هذه الليلة قياماً ولا صلى وتراً, وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين, فهو يعلم مدى المشقة التي كانت في يوم عرفة والدفع من عرفة إلى المزدلفة, فأراد أن تكون سُنّته التي يقلده فيها مَن في المزدلفة هي النوم الهادئ المريح غير المقطوع باستيقاظ أو صلاة !!
خامساً: ترك المزدلفة قبل الفجر رحمة بالضعفاء: وأيضًا من دلائل رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أنه أَذِنَ للضعفاء أن يتركوا المزدلفة ليلاً قبل الفجر لكي يدركوا الجمرات قبل الازدحام, تقول عائشة رضي الله عنها: ” نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ, وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا, فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ, وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ “. [البخاري].
سادساً: رمي الجمرات بحصى صغير: ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرات بحصى مثل حصى الخذف[مسلم], وهو حصى صغير في حجم حبة الباقلَّا كما يقول الإمام النووي في شرح مسلم:” وهذا الحجم الصغير حتى لا يؤذي إنسانًا بطريق الخطأ..”
سابعاً: جوازُ تأخير رمي يوم الحادي عشر إلى يوم الثاني عشر لأهل الأعذار: فعن أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه – رضي الله عنه -: ” أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر”؛ ( موطأ مالك بإسناد صحيح)؛ فأذِنَ النبي لرعاة الإبل في جمع رمي يومين، فيقاس عليهم مَن عذرُهم مثلهم أو أشد منهم، فإذا كان يشق الرمي؛ لبُعد المكان، أو لضعف الحاج، أو لكبر سِنه، أو مرضه، وكذلك مَن يقدمون خدمةً للحجاج، سواء كانوا يعملون في القطاع الحكومي، أو في مؤسسات خاصة، فيجوز لهم أن يؤخر رمي يوم الحادي عشر إلى اليوم الثاني عشر، فيرمي المؤخر أولاً جمار الحادي عشر، فإذا فرغ من الجمار الثلاث، رمى جمار الثاني عشر، أمَّا إذا كان التأخير لغير عذر، فلا يجوز؛ لفعلِه – صلى الله عليه وسلم – حيث لم يؤخره النبي – صلى الله عليه وسلم – مع قوله – صلى الله عليه وسلم -: ” لتأخذوا مناسككم “، والرمي عبادة مؤقتة بوقت، فلا يجوز تقديمه أو تأخيره عن وقته إلا بدليل، والدليل ورد في حال العذر، فيقتصر عليه، والله أعلم.
ثامناً: ًومن التيسير في رمي الجمار أن وقتها موسع: فآخر وقت رمي جمرة العقبة ما لم يطلع فجر اليوم الحادي عشر، فقد حدَّ النبي – صلى الله عليه وسلم -بداية وقت رمي جمرة العقبة، ولم يحد نهايته.
أما أول وقت رمي الجمار في اليوم الحادي عشر وما بعده، فبعد زوال الشمس؛ فعن جابر – رضي الله عنه – قال: “رمى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعدُ فإذا زالت”؛ ( مسلم)، ولو كان الرمي مشروعًا قبل الزوال، لفَعَله النبي – صلى الله عليه وسلم – لما فيه من المبادرة في فعل العبادة في أول وقتها، وتطويل الوقت، إضافة إلى التيسير على الحجاج، وعن ابن عمر – رضي الله عنه – قال: “كنا نتحيَّن، فإذا زالت الشمس رمينا”. (البخاري)، فدل على أنَّه لو كان يشرع الرمي قبل الزوال، لما تحيَّنوا، ولرمَوْا قبل الزوال . ومع ذلك فقد أجاز بعض العلماء الرمي قبل الزوال أيام التشريق تخفيفاً وتيسيراً والأول أرجح !!
أما آخر وقت الرمي في أيام التشريق، فهو ما لم يطلع فجر اليوم الذي يليه، فقد حدَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بفعله أولَ وقت الرمي بعد الزوال، ولم يحد نهايته، فيجوز أن يرمي ليلة الثاني عشر عن اليوم الحادي عشر، ويرمي ليلة الثالث عشر عن اليوم الثاني عشر، أمَّا اليوم الثالث عشر فآخر وقت الرمي فيه، غروب شمس يومه؛ لإجماع أهل العلم على أنَّ وقت الرمي يفوت بغروب شمس اليوم الثالث عشر.
تاسعاً: سقوط المبيتُ بمنى أيام التشريق عند العجز: فإذا لم يكن للحاج خيمة في منى يبيت بها أيام التشريق، فليبتْ بمكانه الذي هو فيه، ولا يجب عليه أن يأتي لمنى ويبحث عن مكان، فما يفعله بعض الحجاج من المبيت في أماكنَ قذرةٍ، أو في الشوارع والطرقات، فهذا تنهى عنه الشريعة، فعن حذيفة بن أسيد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” مَن آذى المسلمين في طرقهم، وجبتْ عليه لعنتُهم”. ( الطبراني وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد )، فمن افترش الطرق والممرات، وضايق السيارات والمشاة، فهو معتدٍ، إذا دُعي عليه كانت مظنة إجابة الدعوة عليه، فكيف يكون متقربًا لله بأمر يستحق أن يذم ويدعى عليه بسببه؟!
عاشراً: جواز الجمع بين طواف الإفاضة والوداع: فمَن أخَّر طواف الإفاضة، وطافه قبل رجوعه إلى بلده، ولو سعى بعد الطواف، أجزأه عن طواف الوداع، كما تجزئ الفريضة عن تحية المسجد لمَن دخل والإمام يصلي.
حادي عشر: سقوطُ طواف الوداع عن الحائض والنفساء: فيجب على الحاج إذا فرغ من حجِّه أن يطوف طواف الوداع، ثم يرجع إلى أهله؛ لكن خُفِّف عن الحائض والنفساء، فلا يجب عليهما البقاء في مكة حتى تطهرا ثم تودعان، فعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: ” أُمِر الناسُ أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت؛ إلا أنه خفف عن الحائض ” . (البخاري ومسلم).
عباد الله: إن تتبع رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في حجته يصعب, لأن ذلك يتطلب منا أن يتناول الحجة بكاملها, فقد كانت كلها رحمة وتيسيراً, وهذا ليس مستغربًا مع كون الحج مشقة, لأن الله تعالى ما كلَّف أمرًا إلا ووضع في الإنسان من الطاقة والقدرة ما يمكِّنه من فعله, فإذا كان المُطَبِّق والمُعَلِّم مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحمته ورأفته صار الأمر ميسورًا وسهلاً ؛ وهذا ما نأمل تطبيقه في واقعنا المعاصر من خلال عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.
العنصر الثالث: الرحمة والتيسير في الحج بين النظرية والتطبيق
عباد الله: إن من ينظر إلى حجاج بيت الله وهم يؤدون مناسك الحج يجد انفصاماً وانفصالاً كبيراً بين النظرية والتطبيق؛ وإن شئت فقل بين الواقع والمأمول. وسأعرض لحضارتكم صوراً واقعيةً تطبيقيةً في أداء المناسك.
الصورة الأولى: التزاحم والتدافع من أجل تقبيل الحجر الأسود .
فالسنة أن تقبلَّه؛ أو تشير إليه إن لم تستطع الوصول إليه؛ ولكن للأسف تجد الشباب ذوي القوة والجلد يزاحمون العجزة والضعفاء وكبار السن؛ بل والنساء؛ من أجل تقبيل الحجر الأسود ؛ مما يجلب الضرر للآخرين؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء الآخرين بهذا التزاحم؛ فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ:” يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ؛ إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ”. (أحمد والبيهقي).
وبرغم حرصه – صلى الله عليه وسلم – على عمل السنة وفرحه بالعبادة؛ لكنه لم يغِبْ عنه – صلى الله عليه وسلم – ملاحظة الفروق الفردية في الأعمال التي يغلب عليها المشاحَّة، فإن تقبيل الحجر مطلب يسعى إليه الضعفاء والأقوياء، فرحمةً بالضعيف نهى عمر عن المزاحمة حتى لا يؤذي غيرَه من الضعفاء.
الصورة الثانية : نفرة عرفه
فنحن نعلم أن جميع الحجاج ينفرون من عرفة إلى مزدلفة بعد غروب الشمس مباشرة والجميع في وقت واحد ؛ ولكم أن تتخيلوا أكثر من ثلاثة ملايين حاج ينفرون من كان واحد إلى مكان واحد في وقت واحد؛ وهذه الصورة حدثت في حجة الوداع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهم آلاف معدودة وعاتبهم على هذا التدافع والازدحام ؛ فكيف لو رأى زماننا هذا ؟!! فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه دفع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة فسمع النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – وراءه زجراً شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه إليهم وقال: ” أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع .” (البخاري ومسلم) . والإيضاع: هو حمل الدابة على إسراعها في السير . فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم إرهاق الدواب والحيوانات مما يستدعي تزاحم الناس وإيذاءهم نهى عن هذا العنف، وأمر بالسكينة ورَبَطَ الأجر بها، حتى وإن بدى لبعض المجتهدين أن الأجر له علاقة بالمشقة.
الصورة الثالثة: في رمي الجمرات
فنحن نعلم أن رمي الجمرات يكون في صبيحة يوم العيد وبعد النفرة من المزدلفة؛ وكم نسمع في كل عام عن عدد كبير من الوفيات والشهداء جراء التدافع والتزاحم على رمي الجمرات؛ وخاصة أن الجميع يرمي في وقت واحد كالصورة السابقة !!!
ومن يسر الإسلام ورحمته بالحجاج أنه يجوز لك أن تبدأ بأحد أعمال يوم النحر الخمسة ( الرمي – الذبح – الحلق – الطواف – السعي ) ؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عن شئ قدم أو أخر في هذا اليوم إلا قال : ” افعل ولا حرج “
ومن هذا المنطلق حينما كنا في بعثة الحج أرشدنا الحجاج أن ينفروا من من مزدلفة إلى الحرم فيبدؤوا بالطواف والسعي ثم الذهاب إلى بقية مناسك اليوم ؛ وفعلاً ذهبنا مع الحجيج وقمنا بالطواف والسعي وانتهينا مع طلوع الشمس ثم أخذنا قسطا من الراحة ثم أكملنا المناسك في يسر ورحمة وطمأنينة بدون مشقة .
بينما اعترض البعض على ذلك وقالوا : نحن نقتدي به صلى الله عليه وسلم؛ ونفعل ما فعله ؛ فحدث ما حدث من التدافع والوفيات !!
عباد الله: إن الرسول صلى الله عليه أمر صحابته أن يقتدوا به في مناسك الحج فقال: ” خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ” ( مسلم والنسائي). ولما علم الرسول شدة اقتداء الصحابة به وخاصة في مناسك الحج خشي عليهم الازدحام والتقاتل في أداء المناسك – كما حدث في واقعنا المعاصر – فرفع عنهم الحرج؛ فعن جابر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:” قد نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة، فقال: قد وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة، فقال: قد وقفت هاهنا، والمزدلفة كلها موقف” . ( أبوداود )؛ تصورت هذا المشهد من ازدحام الناس عند جبل الرحمة في أرض عرفات وقلت: لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقفت ها هنا وهذا هو الموقف!! ونحرت ها هنا وهذا هو المنحر!! لتقاتل الناس وهلك الكثير ؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته !! وصدق الله حيث يقول { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 7 10 ].
أيها المسلمون: إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في كل مظهر، ولكنها في أوقات الزحام واختلاط الأمور وما يتعلق بالعامة تكون أظهر، ففي ذلك اليوم من الأعمال ما لا يخفى مما يكون سبباً في إحراج الناس، وهذا يقتضي اليسر والرحمة في هذا التشريع؛ ليتَّسع الأمر على المسلمين، وهو من معاني ومظاهر يسره ورحمته – صلى الله عليه وسلم – بأمته.
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي