خطبة بعنوان : غياب الضمائر! يؤدي إلي احتكار الدولار وغلاء الأسعار. للشيخ عبد الناصر بليح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين وبعد :
فيقول الله تعالي :” ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون”(الأعراف).
روى أصحاب السنن بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:”إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق.وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني مظلمة في دم ولا مال.”(أبو داود).
وهذا الهدي النبوي أصل معنا اليوم في هذه الخطبة فنأخذ منه أن الـأسعار قد غلت علي عهد الرسول صلي الله عليه وسلم وجاء الناس يقولون سعر لنا يا رسول الله ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم يرجع الأمور لله عز وجل وأن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق بيده مقاليد الأمور وإليه يرجع الأمر كله.
ولم يتدخل الرسول صلي الله عليه وسلم في التسعير وسبب ذلك أنه خشي أن يطالبه أحد بمظلمة يوم القيامة إذا تدخل في الأسعار فربما يظلم البائع أو المشتري .. وإنما أراد أن يعلمنا أنه تتعرض الشعوب والأمم لحالات من الشدة والرخاء والسّراء والضّراء, وهذا كله بقدر الله تعالى ليعلم من ذلك من صبر ومن شكر, فما يقع من شدائد ومصائب وارتفاع الأسعار كله بقدر الله وقد يكون مرتبط بالذنوب والآثام التي يرتكبها البشر, قال تعالى “ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين”( البقرة/155).
وإذا تتبعنا تاريخ الغلاء نجد أن الغلاء قد حدث أيضاً في زمن أبي بكر قحط الناس فقدمت لعثمان -رضي الله عنه- قافلة من ألف راحلة من البر والطعام. فغدا التجار عليه، فخرج إليهم فقال: ماذا تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة. فقال لهم: ادخلوا فدخلوا. فقال: كم تربحوني على شرائي؟ قالوا: العشرة اثنا عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشر خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟. قال: زادني بكل درهم عشرة عندكم زيادة؟. قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.
هكذا كان عثمان -رضي الله عنه- وابن عوف، وغيرهم من أغنياء التجار، يجودون على فقراء المسلمين، ولا يستغلّون مثل هذه الفرص؛ لكي يرفعوا الأسعار، ويحتكروا الأطعمة؛ ليبيعوا على الناس بالغلاء، إن الرفق بالمسلمين أمرٌ جدّ طيب، وإن الحرص على مصلحتهم أمرٌ جد حسن.
و حدث غلاء علي عهد عمر بن الخطاب في عام الرمادة أو المجاعة وحصل قحطٌ شديد وقل الطعام، ودام تسعة أشهر. وسمي عام الرمادة؛ لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد، وقيل: لأن الأرض كانت سوداء مثل الرماد.
وحدث غلاء في عهد علي بن أبي طالب للزبيب وقال أرخصوه بالتمر ..
*وباء الغلاء تاريخ له قدم وله أثاره السيئة:
أخوة الإيمان والإسلام :
إن غلاء الأسعار مما عم به البلاء، وما يقع في الناس أولاً بسبب ذنوبهم، :”وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ “( النساء/79).
ولكن هذا الداء لا بد من النظر إليه من منظار الشريعة؛ لأن مثل هذه الظواهر الخطيرة، إذا لم تُعالج أدت إلى كوارث ونتائج سيئة ومن هذه الأثار: انتشار الفقر في المجتمعات، وظهور الأمراض الخطيرة الاجتماعية من البطالة والسرقة والإجرام، وكثرة المتضرّرين، واتساع الطبقة الفقيرة، وإلحاق كثير من أفراد الطبقة المتوسطة بالفقراء، أن يشيع العنت، و يحدث التأثر المباشر لتمس الظاهرة دخول الأسر، وهذا الدخل المسكين، الذي ينتف من هنا ويؤخذ من هنا إذا حصل لحوق الضرر به، عم الغم والهم والحزن. والغني ربما لا يشعر، فيقول لمن يرسله لشراء شيء له: اشتره بأي ثمن كان!
إن غلاء الأسعار له نتائج غير مباشرة من تحول نسبة كبيرة من الطبقة متوسطة الدخل إلى قسم الطبقة الفقيرة وسعي بعض الناس للحصول على المال بطرق غير شرعية كالسرقة والرشوة.
* والغلاء فناء كما يقولون وإن معالجة المشكلة تحمي من التدهور، الذي قد يقترب بنا من حالات تاريخية نتعجب حين نقرأ عنها من مثل ما رواه المقريزي في وصف حال زمانه زمن الدولة المستنصرية العبيدية في مصر في منتصف القرن الخامس الهجري، حيث قال: “وأُكلت الكلاب والقطط حتى قلت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً. وتحرز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سلب وحبال في كلاليب.
فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه، ثم آل الأمر إلى أن باع المستنصر كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وغيره. وصار يجلس على الحصير. وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره. (…) وجاءه الوزير يوماً على بغلته، فأكلها الناس، فشنق طائفة منهم فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم”.
وقد كان غلاء الأسعار في تاريخ هذه الأمة حاصلاً في بعض مراحلها، فقد حكي صاحب “النجوم الزاهرة” في أواخر عهد بني العباس عظم الغلاء ببغداد في شعبان، حتى أكلوا الجيف والروث، وماتوا على الطرق، وأكلت الكلاب، وبيع العقار بالرغفان -أرغفة الخبز-، وهرب الناس إلى بلدان أخرى، فماتوا في الطريق. وضرب الغلاء أيضاً في القرن الخامس بعض بلدان المسلمين كمصر، وحصل بذلك هلاك كثير، وأُكلت الدواب التي لا تؤكل، وكانت الأقوات في غاية القلة والغلاء، ومات كثير من الناس حتى مات في شهر صفر وحده مائة وثلاثون ألفاً.
وهكذا من المصائب التي تبتلى بها هذه الأمة، وهي أمة مرحومة، “جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء” وفتنة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أخوة الإيمان والإسلام :
في حقيقة الأمر أن الغلاء له أثاره السيئة ..
*أسباب الغلاء:
الغالب في المشكلات الكبيرة أنها لا ترجع إلى سبب واحد بل إلى أسباب عدة ولكل سبب نسبة معينة في حدوث تلك المشكلة، وتحديد هذه الأسباب بدقة هو نصف حل هذه المشكلة، لذا فأسباب مشكلة الغلاء تتلخص في ما يأتي:
*البعد عن منهج الله:
– الذنوب والمعاصي كما قال الله عز وجل “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ”( الشُّورى/30).وقال تعالي :” ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمي ..”(طه/124). .وقال تعالي :” “فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم” ( النور/63).
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – : ” إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه …” ( ماجة والحاكم ).
وعن العباس بن عبد المطلب :” ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة”
وفي حديث بعض أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم “”(أحمد وأبو داود ). وفي رواية :” حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم
وعن جبير بن نفير – رضي الله عنه – قال: لما فتحت مدائن قبرص وقع الناس يقتسمون السبي ويفرقون بينهم ويبكي بعضهم على بعض فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بخمائل سيفه، فجعل يبكي فأتيته، فقلت: ما يبكيك يا أبا الدرداء؟! أتبكي في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟!! فضرب على منكبيه، ثم قال: ثكلتك أمُّك يا جبير ابن نفير!! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره!!! بينما هي أمّةُ قاهرة ظاهرة على الناس، لهم الملك، حتى تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى، وإنه إذا سلط السباء على قوم فقد خرجوا من عين الله، وليست لله بهم حاجة” ( أحمد).
وقد حذرنا الرسول صلي الله عليه وسلم من أمور تكون سبباً في الغلاء والجدب والقحط وكثرة الأمراض ومنها إشاعة الفاحشة والإعلان بها وعدم إخراج الزكاة وبخس الكيل والميزان والبعد منهج الله .. ينتج عن ذلك تفشي الأمراض والسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ومنع المطر والغيث وشدة الكراهية والبغضاء بين أفراد المجتمع ..
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله بأن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله يتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم”(ابن ماجة واللفظ له ورواه البزار والبيهقي ).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً)، يعني: أهل المدينة والأنصار رضوان عليهم قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتعاملون في البيع والشراء وكانوا أخبث الناس كيلاً أو من أخبث الناس في الكيل يعني: يطففون في الكيل والميزان ويبخسون الناس أشياءهم في ذلك.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم من القرآن فكان مما نزل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (المطففين:1-3).
فتلى النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك فكانوا من أحسن الناس وزناً بعد ذلك.
*التبذير والإسراف:”
قال تعالى: “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” [الأعراف: 31].
الحذر من إنفاق المال في المحرمات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبرنا أن السؤال من أين اكتسبه وفيم أنفقه، والإنفاق في الحرام تبذير. وقد قال الله:”إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ “(الإسراء/27). الاقتصاد في المعيشة والتوسط في النفقة والتخلي عن النمط الاستهلاكي المتأثر بالدعايات التجارية، يقول الله جل وعز:”وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا” (الإسراء: 29). فكثرة الطلب على السلع :وتهافت الناس على الشراء بأي سعر كان، نتيجة لتعودهم على أنماط استهلاكية معينة عامل من أساسي وسبب رئيسي من أسباب الغلاء.
أخوة الإيمان والإسلام :
* غياب الضمير يؤدي إلي احتكار الدولار وغلاء الأسعار
وفي الحقيقة أن الضمير الييقظ الحي يحمي صاحبه ويحمي المجتمع من كافة الشرور وأشد ما نعانيه اليوم هو تبلد الضمائر.حيث إن المُجتمعات المُسلِمة عانت في هذا العصر من غيابِ الضمير الحيِّ الواعِي، ذلك الضمير الذي عوّدَهم في غابرِ الأزمان أنه إذا عطسَ أحدٌ منهم في المشرقِ شمَّتَه من بالمغرب، وإذا استغاثَ من بالشمال لامسَت استِغاثتُه أسماعَ من بالجَنوب، ولكن أين نحن اليوم من هذا السلوك الذي نهض بالأمة لأن تسود العالم في أيام كان الضمير فيها يقظًا.
و الدهشة كل الدهشة ما أصابَ الأمةَ في هذا العصر؛ حيث يصرخُ من هو بجانبِك ويئِنُّ فلا يُسمَع، ويُشيرُ بيدَيه: الغوثَ الغوثَ، فلا يُرى! “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ .فالذي يحتكر العملة التي بها يتداول الناس وتقضي بها حوائجهم بالطبع قد تبلد ضميره وغاب عن الوعي وله أن يضع نفسه في غرفة الانعاش المحمدية
فلن يستيقظَ ضميرُ الأمة إلا بيقَظَة ضمائر أفرادِها؛ إذ كيف يستقيمُ الظلُّ والعُودُ أعوجُ؟! وكيف يلبَسُ الخاتمَ امرؤٌ أكتَعُ اليَدَيْن، وكلما ضعُف الضمير كلما تأخَّرت ساعةُ الوعي، وكأنما على ضمائرٍ أقالُها، فأصبحَت عقْرَى حلْقَى.
و يجب أن نعطي لضمائرنا مصل من صيدلية الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم ينشطها ويقويها حتى يكف المرتشي عن الرشوة والمختلس عن الغلول من المال العام.. والكسول عن كسله فينشط من اجل بلده ووطنه.. والمتبلد الذي أعماه الطمع عن النظر لحاجة الآخرين فييحاول أن يشعر بحاجة المحتاج وعوز الفقراء والمحتاجين.وهذا الذي يسرق العملة ويحتكرها نسي كل تعاليم الإسلام عن الاحتكار واتبع تعاليم المرابيين والمرتشين ..
أخوة الإيمان والإسلام :
*الاحتكار: ومن أسباب الغلاء ممارسة بعض التجار للاحتكار و الاحتكار هو شراء الشيء وحبسه ليقل بين الناس فيعلوا سعره ويصيبهم بسبب ذلك الضرر أو حبس العملة التي يجلب بها السلعة فيزيد ثمنها ويقل الجلب والتداول ..
: عن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من احتكر فهو خاطئ”( مسلم). فالاحتكار حرام، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحتكر خاطئاً، أي آثم.
أما أسباب تحريم الاحتكار ؟
1- فالاحتكار يقوم على استغلال آثم لأن المحتكر يقوم بحبس السلعة المطلوبة لوقت الاضطرار إليها فكان الكسب فيه بطريق الانتظار الزمني غير مشروع .
2- فالاحتكار يعتمد على الكسل والبطالة رجل معه مبلغ من المال يقوم بشراء كمية كبيرة من الأرز وهو في موعد الحصاد حتى إذا ما علا ثمنه عندما يشح ويغل ينتهز هذه الفرصة ويبيعه بثمن مرتفع وينام طوال العام شأنه في ذلك شأن المرابي الذي وضع نقوده في البنك ويأخذ مبلغ عليها ليأكل منه.
* حكم الاحتكار والنصوص الواردة في ذلك:
والاحتكار حرمه الشارع ونهى عنه لما فيه من الطمع والجشع وسوء الخلق والتضييق على الناس لذلك الرسول صلي الله عليه وسلم يقول عن المحتكر خاطئ ” ( أبو داود والترمذي ومسلم ).ومن احتكر فهو خاطئ أي آثم فكسبه يكون خبيثاً.
وعن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال :” الجالب مرزوق والمحتكر ملعون ومن احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله بالإفلاس والجذام ” (ابن ماجه). والجالب هو الذي يأتي بالطعام ويبيعه برزقه ويربح بسيط وله بذلك أجر لذلك الرسول صلي الله عليه وسلم :” يقول من اشترى طعاما وباعه بسعر يومه كان له صدقة ” أي كأنما تصدق به .
وكذلك يقول :” من احتكر الطعام أربعين ليلة ” أي من احتكر أرزا أو قمحا أو دقيقا أو أي طعام يقصد غلاءه مدة أربعين ليلة ” فقد برئ من الله وبرئ الله منه وفي رواية أخرى فقد برأت منه ذمة الله أو في رواية أخرى فقد برئ منه الله ورسوله .ويقول :”” بئس العبد المحتكر إن سمع برخص ساءه وإن سمع بغلاء فرح ” ذم الرسول :” العبد المحتكر الذي يشتري الطعام رخيصاً ليبيعه في الغلاء وقال بئس العبد المحتكر إن سمع برخص ساءه هناك من إذا سمع بأن الحالة قد رخصت اسود وجهه و إن سمع بغلاء فرح لأنه يريد أن يمتص دماء الناس.
ويقول صلي الله عليه وسلم من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة ”
*الاحتكار في كل شيء
ذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء على أن الاحتكار لا يكون إلا في الطعام لأنه قوت الناس ؛ ومنهم من وسعها كالإمام الشوكاني : وظاهر الاحتكار يحرم من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وغير ذلك وقال من وسع السلعة المحتكرة .كذلك يرى بعضهم : أنه إذا احتكر زرع أو صنعة يده فلا بأس أن تحتكرها طالما فائض عن حاجتك .
**المعاملات المحرمة – ولوغ كثير من الناس في المعاملات المحرمة وعلى رأسها الربا عبر الأسهم الربوية وغيرها من البيوع الفاسدة.
أخوة الإيمان والإسلام :
** غياب الرقابة علي الأسواق واختفاء دور المحتسب الذي كان يراقب الأسعار والسلع والمتمثل اليوم في وزارة التموين وغيرها من الأجهزة..
ولكن هناك فرق بين وزارة التموين واجهزة الرقابة اليوم والمحتسب في الدولة الإسلامية ونعطيك أخي المسلم نبذة عن المحتسب tقد نشأت وظيفة الحسبة إلى جانب وظيفة القاضي؛ نتيجة تضخُّم ظروف الحياة في الخلافة الإسلامية، وهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يُعَيِّنُ لذلك مَنْ يراه أهلاً له، فيتعيَّن فَرْضُه عليه بحُكْمِ الولاية، وإن كان على غيره من فروض الكفاية( ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/225.). قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [ آل عمران: 104].
وفي تطوُّرها فقد تَعَدَّتِ الحسبة هذا المعنى الديني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى واجبات عملية مادِّيَّة تتَّفق مع المصالح العامَّة للمسلمين؛ فقد تناولت أمورًا اجتماعية متعدِّدة؛ مثل: المحافظة على النظافة في الطرق، والرأفة بالحيوان بأن لا يُحَمَّل ما لا يطيق، ورعاية الصحَّة بتغطية الروايا، ومنع معلِّمِي الصبيان من ضرب الأطفال ضربًا مبرحًا، ومراقبة الحانات وشاربي الخمر، وتبرُّج النساء، وبعبارة عامَّة كل ما يَتَعَلَّق بالمجتمع وأخلاقه، والظهور فيه بالمظهر اللائق، كما تناولت أمورًا اقتصادية؛ وذلك لتضخُّم المدن الإسلامية بأرباب الحرف والتجارات، فكان عمل المحتسب الأساسي منع الغش في الصناعة والمعاملات، وبخاصة الإشراف على الموازين والمكاييل وصحَّتها ونسبها)الماوردي: الأحكام السلطانية ص 211 وما بعدها).
ولم تعرف الأمم والحضارات السابقة وكذا اللاحقة هذه الوظيفة في مجتمعاتها وأعرافها، والحق أن هذه الوظيفة في غاية الأهمية؛ لأنها تمثِّل المراقبة الأخلاقية على الشعوب، فمن المعلوم أن الحضارة الإسلامية اهتمت بعاملين مهمين؛ فالأول: العامل المادي. والثاني: العامل الروحي، ومن ثَمَّ كانت وظيفة الحسبة بمنزلة التطبيق الرائع لأخلاقيات الإسلام وأوامره السلوكية.
الحسبة في عهد النبي
وأول من احتسب في تاريخ الحضارة الإسلامية، هو رسول الله ، فعن أبي هريرة أن رسول الله مرَّ على صُبْرة طعامٍ، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: “مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟”. قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: “أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي”(مسلم واحمد وغيرهما).
وحينما بدأت الدولة الإسلامية الأولى تأخذ في التشكل والاستقلال، رأينا رسول الله يُعيّن أول محتسب في الإسلام، حيث استعمل سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح، على سوق مَكَّةَ(ابن عبد البر: الاستيعاب 1/185 ). مما يُدلل على أهمية هذه الوظيفة منذ فجر الإسلام.
ومن اللافت للنظر أن بعض النساء من الصحابيات قد استُعْمِلْنَ في هذه الوظيفة منذ عهد النبي ، فقد ذكر ابن عبد البر أن سمراء بنت نهيك الأسدية رضي الله عنها “أدركت رسول الله وعُمِّرَتْ، وكانت تمرُّ في الأسواق، وتأمرُ بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها”[المصدر السابق]، بل الأعجب أن عمر بن الخطاب أبقاها محتسبة على السوق، وهذا ما يؤكده ابن الجوزي بقوله: “وكان عمر إذا دخل السوق، دخل عليها”[ ابن الجوزي: سيرة عمر بن الخطاب ص41.]. أي يدخل عليها مكان عملها لا بيتها، كما قد يُتَوَهَّم.
بل كان أمير المؤمنين عمر يقوم بوظيفة المحتسب بنفسه، فكان يتولَّى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُوَجِّه الناس إلى الحقِّ والصراط السوي، ويمنع الغشَّ، ويحذر منه، وكان يمرُّ في السوق ومعه الدِّرَّة فيزجر بها غلاة الأسعار والغشاشين(الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/578).
وظل نظام المراقبة والحسبة موجودًا طوال العهد الراشدي والأموي، وإن لم يحمل صاحبه لقب المحتسب؛ إذ عُرِف هذا المسمَّى في العصر العباسي، وقد عَيَّن زياد بن أبيه عاملاً على سوق البصرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان[ الصلابي: الدولة الأموية 1/315.)
*الغش:و “الغش ما يخلط من الرديء بالجيد”.و حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعّد فاعله، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال: ” ما هذا يا صاحب الطعام؟ ” قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: ” أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني “وفي رواية ” من غشنا فليس منا ” وفي رواية « ليس منا من غشنا”(مسلم).
ومن هذا الغش
1- بعض البائعين للفاكهة يضع في نهاية القفص المعد لبيعه الفاكهة أوراقاً كثيرة، ثم يضع أفضل هذه الفاكهة أعلى القفص، وبذلك يكون قد خدع المشتري وغشه من جهة أن المشتري يظن أن القفص مليء عن آخره، ومن جهة أنه يظن أن كل القفص بنفس درجة الجودة التي رآها في أعلاه.
2- وبعضهم يأتي بزيت الطعام ويخلطه ببعض العطور على أن تكون كمية الزيت هي الغالبة وبعضها في عبوات زجاجية ويخرج منها ريح العطر ويبيعه بثمن قليل.
3- وبعض التجار يشتري سلعة في ظرف خفيف جداً ثم يجعلها في ظرف ثقيل نحو خمسة أضعاف الأول، ثم يبيع ذلك الظرف وما فيه، ويوزن جملة الكل، فيكون الثمن مقابلاً للظرف والمظروف.
4- وبعض التجار وأصحاب المحلات يسعى إلى إظلام محله إظلاماً كثيراً باستخدام الإضاءة الملونة أو القاتمة، حتى يعيد الغليظ من السلع والملابس- خصوصاً- رقيقاً، والقبيح حسناً، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم.
5- وبعض الصائغين يخلط مع الذهب نحاساً ونحوه، ثم يبيعه على أنه كله ذهب.
6- وبعض أصحاب بهيمة الأنعام يعمد إلى صرِّ- أي شد وربط- ضرع ذات اللبن من بهيمة الأنعام قبل بيعها بأيام ليظهر أنها حليب. وهي ليست كذلك فلا ينطق لها ضَرْعٌ إلا بعد تَضَرُّع!!
** العلاج
أخوة الإيمان والإسلام :
وارتفاع الأسعار حالة صعبة يجب بحثها ودراستها من حيث الأسباب والعلاج ولم يترك الإسلام هذه المشكلة دون حل بكونه جاء لحل كل مشاكل الإنسان, وقد بيّن الله سبحانه وتعالى الحكم الشرعي في قضية ارتفاع الأسعار من حيث الأسباب ومن حيث العلاج ومن حيث ما ينتج عنها لأن ذلك يترتب عليه آثار سلبية على الناس ويترتب على ذلك حالات غير مرغوب فيها في المجتمع, ولم يترك الشرع مسألة ارتفاع الأسعار للعقل أو اجتهادات غير شرعية أو اخذ علاجها من المبادئ الأخرى, فقد ينتج عن ذلك آثار سلبيه كبيرة على الناس خاصة وان الظلم الاقتصادي يشمل جميع أبناء المجتمع بخلاف الظلم السياسي الذي يقتصر على الواعين من أبناء الأمة.
وينبغي علي المسلمين أن بلجأوا إلي الله عز وجل في مثل هذه الحالات ..
* التوبة والرجوع إلى الله :” وتوبوا إلي الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”
*الاستغفار “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يُرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً”( نوح /12).
* إخراج الزكاة والصدقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال”( مسلم )أي: إن نقصت الصدقة المال عددياً فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل، بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله ووجد الكثير من الناس أثراً عجيباً للصدقة في بركة المال وزيادته.
*صلة الرحم قال صلى الله عليه وسلم:”من سره أن يبسط له في رزقه فليصل رحمه”(أبو داود).
*العناية بطلب البركة في المال قبل العناية بالكثرة، قال الله تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ”. الأعراف:96، والتقوى والدعاء بطلب البركة سبب لحصولها، وكذا الإكثار من قراءة سورة البقرة، وقال صلى الله عليه وسلم عنها: «اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة”( مسلم).
” أثار من أثر الصحابة عالجت غلاء الأسعار”
جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟
فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم.
بل إن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس، قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.
لقد كان في تاريخنا المشرق من أنواع إدارة الأزمات قبل أن يعرفه أهل الإدارة في العصر الحديث، ولما قامت الأزمة في عهد عمر -رضي الله عنه- في عام الرمادة، وحصل قحطٌ شديد وقل الطعام، ودام 9 أشهر. وسمي عام الرمادة؛ لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد، وقيل: لأن الأرض كانت سوداء مثل الرماد.
فقام عمر بعمل هذه التدابير :
أولاً: حث الناس على كثرة الصلاة والدعاء واللجوء إلى الله، وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب –أطراف المدينة – فيطوف عليها ويقول في السحر: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي.
ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين –يعني القحط- وارفع عنا البلاء، يردد هذه الكلمة.
ثانياً: كتب إلى عماله على الأمصار طالباً الإغاثة، وفي رسالته إلى عمرو بن العاص -والي مصر-، بعث إليه: “يا غوثاه! يا غوثاه! أنت ومن معك ومن قبلك فيما أنت فيه، ونحن فيما نحن فيه”. فأرسل إليه عمرو بألف بعير تحمل الدقيق، وبعث في البحر بعشرين سفينة تحمل الدقيق والدهن، وبعث إليه بخمسة آلاف كساء. وهكذا أرسل إلى سعد بن أبي وقاص، فأرسل له بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة. وإلى والي الشام، فأرسل إليه بألفي بعير تحمل الدقيق، ونحو ذلك مما حصل من مواساة المسلمين لبعضهم؛ لأن هذه الأمة واحدة. فإذا مسّ بعضها شدّة، تداعى الباقي لها، جسدٌ واحد.
ثالثاً: أحس عمر بمعاناة الناس، قال أنس -رضي الله عنه-: كان بطن عمر يقرقر عام الرمادة، وكان يأكل الزيت، ولا يأكل السمن. فقرقر بطنه فنقرها بأصبعيه، وقال: تقرقر، إنه ليس لكِ عندنا غيره حتى يُحيا الناس -أي: يأتي الله بالحياة والمطر الذي يغيث به الأرض-.
وقال أسلم: كنا نقول: لو لم يرفع الله المَحْلَ عام الرمادة؛ لظننّا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين. ثم يقوم -رضي الله عنه- بوعظ الناس وينادي: أيها الناس، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وسلوه من فضله، واستسقوا سقيا رحمة.
وطلب الناس من العباس عم النبي عليه -الصلاة والسلام- الرجل الصالح، وأقرب الحاضرين إلى النبي عليه -الصلاة والسلام- أن يخرج؛ ليستسقي لهم؛ استشفاعاً بدعاء الرجل الصالح من آل البيت، وكان العباس حياً، فلم يطلبوا من ميت ولم يطلبوا شيئاً لا يقدر عليه الحي، وخرج العباس يدعو الله، فدعا ودعا، وبكى، فاستجاب الله ونزل الغيث.
*الموقف الشرعي من تحديد الأسعار
لا بد أن يكون في مجتمعات المسلمين العمل على زيادة الإنتاج، وتوفير السلع بأنسب الأثمان، ودعم السلع للمواد الأساسية، وانتشار المؤسسات الخيرية، والقضاء على الربا الذي هو السبب الرئيس للتضخم المؤدي إلى غلاء الأسعار. ثم منع الاحتكار، فهذه عدة إجراءات لمن ولاه الله أمر المسلمين أن يقوم بها. فيجوز له أن يسعّر للناس إذا دعت الحاجة كما بين الفقهاء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قالوا له: سعّر لنا. -غلا السعر في عهده عليه الصلاة والسلام-. فقال:(إن الله هو المسعّر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال).هذا الترك للتسعير؛ لأن المسألة لم تصل إلى حد الضرورة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرجو التفريج وهذا ما حصل.
وأما إذا وصلت القضية إلى تواطؤٍ من التجار، وتلاعب بالأسعار، وحبس للمواد حتى يرتفع سعرها، ويكثر الطلب، والعرض قليل عن مؤامرة، فلا بد من فك هذا الظلم كما قال العلماء. ويكون في هذه الحالة التسعير جائزاً. وإن طبيعة الاستغلال والجشع التي تدفع إلى رفع أسعار الأدوية التي يحتاجها المرضى من غير اهتمام ولا نظر في حالهم. والأصل أنه لا يحدد سعرٌ للبيع، والسوق يحدد السعر بنفسه.
وعليه فإذا كان الغلاء ناتجاً عن مؤامرةٍ واتفاقٍ وحبسٍ؛ فإن التدخل بالتسعير صحيحٌ تماماً من الجهة الشرعية. وأما إذا ارتفعت الأسعار؛ نتيجةً لقلة العرض، وكثرة الطلب، دون أن يكون للتجار دخل في ذلك فلا يجوز التسعير حينئذ. وكذلك إذا كانت السلعة ليست من ضرورات الناس فلا يجوز التسعير أيضاً، وإذا كان للسلعة بدائل يمكن اللجوء إليها بدون ضرر، فلا يُتَحكَّم بالسعر ويفرض أيضاً. ولكن إذا صارت السلع مما يحتاجه الناس حاجةً ماسة، وحصل الاتفاق والاستغلال من التجار وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس، فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة، وإن ما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله تعالى”.
وجماع الأمر :أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل ، لا وَكْس فيه ولا شطط –لا نقصان ولا زيادة – وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.
علاج مؤقت :وبحق أن التسعير علاج مؤقت فلابد أن يكون معه الجلب واستيراد البضائع وسوقها إلى الأسواق من أماكن مختلفة وكذلك يطرق من حديد على أيدي المحتكر وإذا كان هذا موقف الحاكم من الاحتكار والمحتكرين لكل تاجر من المسلمين أن يبذل وسعه من جهد ومال ليمنع جشع المحتكر كما فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما اشترى بئر ماء عذب من رجل يهودي كان يبيع ماءه للمسلمين فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة :” فأتى عثمان إلى اليهودي فساومه فأبى اليهودي فاشترى عثمان نصفها باثنتي عشر ألف درهم فجعله للمسلمين فقال له عثمان إن شئت جعلت لنصيبي قرنين أي مكانين للسقي وإن شئت فلي يوم ولك يوم فقال بل لك يوم ولي يوم فكان إذا كان يوم عثمان استسقى المسلمين ما يكفيهم فلما رأى اليهودي ذلك قال: أفسدت علي بئري فاشتري النصف الآخر فاشتراه بثماني آلاف درهم (صحيح).
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .