خطبة بعنوان: “ظاهرة التطرف الفكري والانحراف الأخلاقي وأثرها على الفرد والمجتمع”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 6 من صفر 1439هـ الموافق 27 من أكتوبر 2017م
خطبة بعنوان: “ظاهرة التطرف الفكري والانحراف الأخلاقي وأثرها على الفرد والمجتمع“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 6 من صفر 1439هـ الموافق 27 من أكتوبر 2017م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا.
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: الإسلام دين الوسطية والاعتدال واليسر
العنصر الثاني: مظاهر وآثار التطرف الفكري
العنصر الثالث: علاج ظاهرة التطرف الفكري
العنصر الرابع: أثر الانحراف الأخلاقي على الفرد والمجتمع
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: الإسلام دين الوسطية والاعتدال واليسر
عباد الله: لقد اختص الله – عز وجل – أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – بالوسطية والاعتدال؛ قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }[ البقرة : 143]. وهنا إعجاز عددي في هذه الآية الكريمة ، فعدد آيات سورة البقرة 286 ÷ 2 = 143 ، هذا هو رقم هذه الآية ، فكأن الآية نفسَها جاءت وسطاً ، وكفى بها رسالة للأمة لتكون وسطاً في كل شيء.
والوسطية هنا تعني الأفضلية والخيرية والرفعة؛ فالأمة وسط في كل شيء، وسطية شاملة .. فهي وسط في الاعتقاد والتصور، وسط في العلاقات والارتباطات ، وسط في أنظمتها ونظمها وتشريعاتها ، وسط في الإنفاق؛ وسط في كل شيء؛ وحري بالمسلمين أن يعودوا إلى وسطيتهم التي شرفهم الله بها من أول يوم ..نعم ، أمة وسطاً : مجانبة للغلو والتقصير ، وقد رُي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :” خير الأمور أوسطها”، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ : “عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل” .. فحري بمن تشددوا في الدين أن يعودوا إلى وسطية الإسلام ؛ وحري بمن كفّروا المسلمين وفسّقوا المصلحين أن ينهلوا من وسطية الإسلام .
وكما أن الإسلام دين الوسطية والاعتدال؛ فهو كذلك دين اليُسر والرحمة، فالنبي بُعث بالحنيفية السمحة، فأصل الدين قائم على اليسر وعدم المشقة، فالتيسير على العباد مراد لله، والمشقة لا يريدها الله لعباده: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }[البقرة: 185]، فالمسلم لا يثاب على المشقة؛ إلا إذا كان لا يمكن أن يأتي بالعبادة إلا بها، فيؤجر على المشقة إذا كانت وسيلة للعبادة، أما تقصُّد المشاقِّ وطلبها، فلا يؤجر عليها المسلم، وكيف يؤجر على شيء لا يريده الله منا ولا يرضاه؟!
ولأهمية اليسر في الشريعة الإسلامية عنون له الإمام البخاري باباً خاصاً في صحيحه وسماه: ” باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس .” وساق عدة وصايا وشواهد وأدلة ليسر النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته منها: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:” مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ.” (البخاري ومسلم واللفظ له). قال صاحب عون المعبود :” فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراما أو مكروها .”
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:” يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا”. ( متفق عليه ). وأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الشئ وضده تأكيداً؛ فإنه كان يكفي قوله: ” يسِّرا ” ؛ وإنما ذكر الضد: ” ولا تعسرا ” تأكيداً للأمر. قال الإمام النووي:” إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده ؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين ، فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات ، وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال ( ولا تعسروا ) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه ، وهذا هو المطلوب ، وكذا يقال في: ( وتطاوعا ولا تختلفا ) ، لأنهما قد يتطاوعا في وقت ويختلفان في وقت ، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء .”أ.ه
وفي مقابل التيسير في الدين نهى الشارع الحكيم عن التشدد والغلو فيه؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ “. ( البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ” معنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين ، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ” لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ” يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .”أ.هـ
العنصر الثاني: مظاهر وآثار التطرف الفكري
عباد الله: لظاهرة التطرف الفكري أسباب ومظاهر وآثار على الفرد والمجتمع تتمثل فيما يلي:
أولاً: الجهل المركب بمسائل الشريعة: ولا سيما المسائل الدقيقة التي لا يحسنها إلا العلماء، فهم بجهلهم يكفِّرون من شاءوا ولا يفرقون بين كفر أصغر أو أكبر ؛ أو كبيرة وصغيرة؛ ولعل الجهل بأحكام الشريعة من أهم صفات الخوارج الذين كانوا أول من تولى وزر التكفير في هذه الأمة، حين كفروا أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقد وصفهم صلى الله عليه وسلم بقوله:” يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ؛ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ؛ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ”. (متفق عليه). يقول الإمام القرطبي مندداً بضلالة الخوارج وقلة فهمهم وتكفيرهم الناس: “ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل الجنة”. وهل هناك جهل مركب بعد هذا الجهل ؟!!!
ثانياً: التعصب والولاء والانتماء إلى جماعة أو حزب معين: مع الاقتناع بأفكارهم وجعل التكفير وسيلة في الانتقام من المخالفين، وإشهاره سيفاً مسلطاً على رقابهم، وهو ما اشتهر في هذا الزمان من أن كل فرقة أو جماعة تكفر مخالفيها؛ يقول ابن تيمية: “ومن البدع المنكرة تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم … وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضاً … وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (الأنعام: 159) “. ويقول رحمه الله: ” من ادعى دعوى وأطلق فيها عنان الجهل مخالفاً فيها لجميع أهل العلم، ثم مع مخالفتهم يريد أن يكفر ويضلل من لم يوافقه، فهذا من أعظم ما يفعله كل جهول مغياق”.(مجموع الفتاوى). ومعنى المغياق المختلط المتحير في الرأي يقال: غَيَّقَ الرجل في رأيه تغييقاً: إذا اختلط فلم يثبت على رأيٍ واحدٍ، فهو يموج.(تهذيب اللغة للأزهري)؛ وهذا ما نراه في وقعنا المعاصر من تفرق الأمة إلى أحزاب وفرق وجماعات؛ وكل حزب بما لديهم فرحون؛ والغير يكفرون !!
ثالثاً: حداثة السن وقلة التجارب: وهذا شائع وكثير من شبابنا الطائش الذين تشبعوا بالفكر التكفيري المتطرف؛ وهؤلاء يقول عنهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “.(البخاري). قال السندي: ” قوله: (أحداث الأسنان) أي صغار الأسنان، فإنّ حداثة السّنّ محلٌّ للفساد عادة. (سفهاء الأحلام): ضعاف العقول”. (حاشية السندي).
رابعاً: اتباع الفتاوى المضللة: فالفتوى بغير علم من أخطر المصائب والمحن التي ابتليت بها الأمة في عصرنا هذا ؛ فهي تسوغ لصاحبها فعل كل منكر وقبيح؛ وارتكاب أبشع الجرائم والموبقات بسبب هذه الفتاوي المضللة. ولقد بكى سلفنا الصالح بكاءً مريراً من التصدى للفتوى بغير علم !! يقول الإمام مالك – رحمه الله تعالى: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له!!
أيها المسلمون: اعلموا أن للتطرف الفكري عواقبه الوخيمة وأضراره الجسيمة على الفرد والمجتمع؛ فالتطرف الفكري ذريعة ومسوغ لاستباحة الدماء وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصّة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت، وزرع العداوات والأحقاد والفرقة بين أفراد المجتمع؛ فهذه الأعمال وأمثالها محرَّمة شرعًا بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغُدوِّهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى عنها للناس في حياتهم؛ وكل هذه الجرائم من آثار التطرف الفكري !!
ألا فاحذروا من هذه الفتنة التي فتحت أبواب الشر والإفساد في الأرض، وعرضت الأنفس المعصومة والأموال المحترمة للخطر، وعملت على زعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع .
العنصر الثالث: علاج ظاهرة التطرف الفكري
أيها المسلمون: علينا أن نقاوم ونعالج ظاهرة التطرف الفكري وذلك من خلال الوسائل التالية:
أولاً: تطهير العقول من الأفكار المتطرفة: فمن أهم وسائل علاج ظاهرة التطرف الفكري مواجهة الإرهاب وتطهير عُقول الشباب من الأفكار المتطرفة؛ لأنَّ الناس لو استقامتْ عقولهم، صاروا يُفكِّرون فيما ينفَعُهم ويبتَعِدون عمَّا يضرُّهم، إذًا هناك علاقةٌ كبيرة بين المحافظة على عقول الناس وبين استقرار الأمن عندهم؛ لأن مما يذهب بأمن الناس انتشار المفاهيم الخاطئة حيال نصوص القرآن والسنة، وعدم فهمهما بفهم السلف الصالح، وهل كُفِّر الناس وأريقت الدماء وقُتل الأبرياء وخُفرت الذمم بقتل المستأمنين وفُجِّرت البقاع إلا بهذه المفاهيم المنكوسة؛ والأفكار المتطرفة المعكوسة؟!!
فعلينا أن نحافظ على أولادنا من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والانجراف في الفكر التكفيري المنحرف، ونقول للغلاة أهل الغلظة والجفاء، الخارجين على إجماع الأمة، نقول لكل مشترك في هذه الجرائم البشعة سواء بجلب هذه المتفجرات أو الإعانة على نقلها أو التواطؤ في تهريبها أو السكوت على أصحابها: توبوا إلى الله توبة نصوحًا، واعترفوا بأخطائكم، وعودوا إلى رشدكم، اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في دماء المسلمين، اتقوا الله في الأبرياء، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، وفي ذممكم دماء لأرواح بريئة، فماذا أنتم قائلون ؟! وما هي حجتكم إذا وقفتم حافية أقدامكم؛ عارية أجسامكم؛ شاخصة أبصاركم؛ بين يدي الله أحْكَمِ الحاكمين؟!!
يا شباب الإسلام: إياكم وهذه الدعوات الخطيرة التي تدعو إلى التكفير والتفجير، واعلموا أن من أعظم الواجبات الرجوع لأهل العلم الموثوق بعلمهم فيما يُشكل عليكم لأن الله جعلهم هداة مهتدين؛ ونسأل الله أن يجتث هذه الأفكار الدخيلة من بيننا!!
ثانياً: معاقبة المتطرفين والمفسدين
فعلى الجهات المعنية الضرب بيد من حديد ومعاقبة المتطرفين والمفسدين والمخربين؛ وليكن الهدف من العقاب هو ردع كل مَنْ تُسَوِّل له نفسه أن يخرب أو يدمر أو يقتل أو يفسد أو يقدم على أي نوعٍ من أنواع الفساد بكل صوره، لأنه لا يفعل ذلك إلا كل متجرد من القيم والخلق والوازع الديني؛ لهذا قال عثمان -رضي الله عنه-:” إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، أي: يمنع بالسلطان باقتراف المحارم، أكثر ما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن؛ لكن متى علموا أن هناك عقوبة من السلطان، ارتدعوا، وخافوا من عقوبة السلطان لئلا يفتنهم، أو يضربهم، أو ينفيهم من البلاد، فهم يخافون ذلك!!
ثالثاً: اختيار الصحبة الصالحة للأولاد
فعلى الأسرة أن تحسن اختيار الرفقة الصالحة لأبنائها؛ لأن الصاحب يتشبع بفكر صاحبه؛ فلو كان أصدقاؤه صالحين من ذوي الفكر الوسطي أوفياء لوطنهم فإنه يكون أداة بناء ؛ أما إن كانوا ممن يحملون أفكاراً متطرفة هدامة فإنه يتشبع بفكرهم ويكون معول هدم وتخريب وتدمير وإفساد !! فينبغي على المرء أن يحسن اختيار الصاحب، لأنه يكون على هديه وطريقته ويتأثر به، كما قيل: الصاحب ساحب، حتى لو أردت أن تعرف أخلاق شخصٍ فسأل عن أصحابه. قال الشاعر:
عَنِ المَرءِ لا تَسأَل وَسَل عَن قَرينَهُ ………….فَكُلُّ قَرينٍ بِالمُقارِنِ يَقتَدي
وقال آخر: واحـذرْ مُصاحبـةَ اللئيـم فـإنّـهُ………..يُعدي كما يُعدي الصحيـحَ الأجـربُ
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ” [ أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ] . قال العلماء: يعني لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضياً في دينه ومذهبه.
رابعاً: نشر وسطية الإسلام والفكر الوسطي في الإعلام ووسائل الاتصال
لأن آفة الانحراف عن الوسطية أو الشذوذ عنها يقود إلى التطرف والجهل والاستبداد والإفساد والقتل والتخريب والإرهاب والتقليد الأعمى، والتصرفات المرتجلة دون رؤية وتشاور وتقدير هادئ لعواقب الأمور، ولذلك تعاني بعض المجتمعات الإسلامية من تفشي الغلو والتطرف في الدين بين صفوف المراهقين فكرياً، وذلك من خلال تطبيق ممارسات خاطئة بحجة التمسك بالدين، وفي الواقع هم أبعد ما يكونون عن الدين الإسلامي الحنيف دين الوسطية والاعتدال؛ كما أن المبتعدين عن وسطية الإسلام يسلكون في حياتهم مسالك وعرة، منهجهم القهر والإكراه، وسفك الدماء والتخريب ومصادمة المشاعر، ونشر الذعر والخوف، واستباحة الدماء والأعراض والأموال، لاتصافهم بصفتين شاذتين وخطيرتين هما:
1 – الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية المقررة في القرآن والسنة، ولاسيما الأحكام العامة التي تمس الآخرين .
2 – التورط بتكفير المخالفين لهم لأدنى تهمة أو شبهة، واستباحة دمائهم، وهذا ظلم عظيم .
عباد الله: إن حلَّ ظاهرة التطرف الفكري وعلاجَها لا يقتصر على فئةٍ معينةٍ، وإنما يشمل جميعَ أفراد المجتمع: شباباً وأسرةً ودعاةً ومؤسساتٍ وحكومةً؛ فإذا كان الطبيب يعطى المريض جرعة متكاملة حتى يشفى من سَقمه – إن قصر فى نوع منها لا يتم شفاؤه – فكذلك علاج هذه الظاهرة يكون مع تكاتف المجتمع بجميع فئاته، فكل فئة لها دور ، وباكتمال الأدوار يرتفع البنيان، وإلا كما قيل:
ومتى يبلغ البنيان يوماً تمامَه إذا كنت تبنى وغيرك يهدم
أيها المسلمون: نحن في سفينة واحدة ؛ ولابد أن نتضامن جميعا من أجل نجاة هذه السفينة ؛ كما علينا أن نأخذ على أيدي العابثين بهذه السفينة؛ وإلا غرقت بنا جميعا ؛ فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا ” ( البخاري ) .
إننا إن فعلنا ذلك وأصبحنا متضامنين متعاونين متكافلين يداً واحدة في الضرب بيد من حديد على كل متربص ببلدنا أو وطننا أو ديننا أو مقدساتنا أو أفراد مجتمعنا أو مؤسساتنا ؛ مع نشر تعاليم الإسلام السمحة ؛ فإننا بحق نستطيع القضاء على التطرف الفكري والإرهاب بكل صوره وأشكاله؛ ونعيش آمنين مطمئنين متحدين متعاونين متراحمين كما أراد لنا ديننا الحنيف!!!
العنصر الرابع: أثر الانحراف الأخلاقي على الفرد والمجتمع
عباد الله: إن الأزمة في حياتنا المعاصرة أزمة انحراف أخلاقي؛ ونحن نعلم أن الإنسان إذا تجرد من إنسانيته وأخلاقه فإنه يفعل ما يشاء دون رادع من خلق أو دين أو إنسانية !!
فقوام الأمم بالأخلاق وضياعها بفقدانها لأخلاقها، قال الشاعر أحمد شوقي:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت …………فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقال: وَإِذا أُصـــيــبَ الـــقَــومُ فـــــي أَخــلاقِــهِـم……… فَـــــأَقِـــــم عَـــلَـــيــهِــم مَــــأتَـــمـــاً وَعَـــــويــــلا
وقال: صَـلاحُ أَمْـرِكَ لِلأَخْـلاقِ مَرْجِعُـهُ…………… فَقَـوِّمِ النَّفْـسَ بِالأَخْـلاقِ تَسْتَقِـمِ
أيها المسلمون: إن الأزمة الأخلاقية تولَّدت واستفحلَتْ بسببِ عدم الخوف مِن الآخرة ونسيان الموت وما بعْدَه مِن عذاب القبْر أو ثوابه، ونسيان الحِساب والجنَّة والنار، فصار أكثرُ الناس لا يخافون الله ولا يستحيون منه، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ”(البخاري)؛ فاستطاع هؤلاء أن يَخدَعوا الناس ويتلاعَبون بهم بكلِّ سُهولة؛ ممَّا شجَّعهم على ممارسةِ المزيد مِن أصناف الأخلاق السيِّئة من قتل وإفساد وتخريب، وهم يظنُّون أنهم يحقِّقون إنجازاتٍ كبيرة، يستحقُّون الاحترام والتقدير عليها، خاصَّة في ظل سكوت الصالحين، وتشجيع المنتفِعين.
وإننا لو نظرنا إلى حياتنا المعاصرة لوجدنا انفصالا بين ما نقرأه ونتعلمه ونتعبد به ؛ وبين ما نطبقه على أرض الواقع؛ وسأحكي لكم قصة تدل على مدى الانفصام والانفصال بين النظرية والتطبيق: شاب يعمل في دولة أجنبية، فأعجبته فتاة أجنبية فتقدم لخطبتها وكانت غير مسلمة، فرفض أبوه لأنها غير مسلمة، فأخذ الشاب مجموعة من الكتب تظهر سماحة الإسلام وروحه وسلوكياته وأخلاقه ثم أعطاها لها، طمعاً في إسلامها والزواج منها، فطلبت منه مهلة شهرين تقرأ الكتب وتتعرف على الإسلام وروحه وأخلاقه وسماحته، وبعد انتهاء المدة تقدم لها فرفضته قائلة: لست أنت الشخص الذي يحمل تلك الصفات التي في الكتب، ولكني أريد شخصاً بهذه الصفات!!
فكلنا نقرأ في الأخلاق!! وكلنا نحفظ آيات وأحاديث في الأخلاق!! وكلنا نسمع صورا مشرقة من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين!! ولكن هل طبقنا ذلك عمليا؟!!
أحبتي في الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الهدف من بعثته هو غرس مكارم الأخلاق في أفراد المجتمع حيث قال:” إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمَّمَ صالحَ الأخلاقِ” [البخاري في الأدب المفرد وأحمد والبيهقي والحاكم وصححه ووافق الذهبي ]. قال المناوي: “أي أُرسلت لأجل أن أكمل الأخلاق بعد ما كانت ناقصة، وأجمعها بعد التفرقة.”
وقد وقف العلماء عند هذا الحديث قائلين: لماذا حصر النبي بعثته في مكارم الأخلاق مع أنه بعث بالتوحيد والعبادات وهي أرفع منزلة وأهم من الأخلاق؟!!
والجواب: أن التوحيد والعبادات شرعت من أجل ترسيخ مكارم الأخلاق بين أفراد المجتمع، فالغاية والحكمة الجليلة من تشريع العبادات هي غرس الأخلاق الفاضة وتهذيب النفوس؛ كما هو معلوم في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها.
ولأهمية الأخلاق أصبحت شعاراً للدين ( الدين المعاملة ) فلم يكن الدين صلاة ولا زكاة ولا صوما فحسب.
قال الفيروز آبادي -رحمه الله تعالى-: “اعلم أن الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق؛ زاد عليك في الدين”.
لذلك عد حسن الخلق من كمال الإيمان ؛ فعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ؛ وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِكُمْ “. ( أحمد وأبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح). قال المباركفوري: ” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا “: لأن كمال الإيمان يوجب حسن الخلق والإحسان إلى كافة الإنسان، ” وخياركم خياركم لنسائهم “: لأنهن محل الرحمة لضعفهن.
أيها المسلمون: إن صلاح الأخلاق عامل رئيس في قوام المجتمع وبنائه وصلاحه؛ فإذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح أمن الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وقلت الرذيلة وزادت الفضيلة وقويت شوكة الإسلام ، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وضعفت الشريعة في نفوس أهلها وانقلبت الموازين؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ؛ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ؛ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ؛ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ؛ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ؛ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ “. ( أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه).
أيها المسلمون: إن العامل الأكبر في انتشار الإسلام في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والسلف الصالح إنما هو مكارم الأخلاق الكريمة التي لمسها المدعون في هذا الجيل الفذ من المسلمين، سواء كانت هذه الأخلاق في مجال التجارة من البيع والشراء، مثل الصدق والأمانة؛ أو في مجال الحروب والمعارك، وفي عرض الإسلام عليهم وتخييرهم بين الإسلام أو الجزية أو المعركة، أو في حسن معاملة الأسرى، أو عدم قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان، هذه الأخلاق وغيرها دفعت هؤلاء الناس يفكرون في هذا الدين الجديد الذى يحمله هؤلاء، وغالبًا كان ينتهي بهم المطاف إلى الدخول في هذا الدين وحب تعاليمه، ومؤاخاة المسلمين الفاتحين في الدين والعقيدة!!
هذه الأخلاق أثارت إعجاب الباحث الفرنسي كليمان هوارت حيث يقول : “لم يكن محمدٌ نبياً عادياً ، بل استحق بجدارة أن يكون خاتم الأنبياء ، لأنه قابل كل الصعاب التي قابلت كل الأنبياء الذين سبقوه مضاعفة من بني قومه … نبي ليس عادياً من يقسم أنه “لو سرقت فاطمة ابنته لقطع يدها” ! ولو أن المسلمين اتخذوا رسولهم قدوة في مكارم الأخلاق لأصبح العالم مسلماً”
هذه هي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو المثل الأعلى في الأخلاق؛ شهد له ربه في علاه: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)؛ ولما سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن أخلاقه قالت: ” كان خلقه القرآن” ( مسلم ) ؛ فالإنسان لا يكسب قلوب الناس واستمالتهم بالغلبة أو القوة أو المنصب والجاه؛ وإنما بمكارم الأخلاق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إنَّكم لن تسَعوا النَّاسَ بأموالِكم؛ ولكن يسعُهم منكم بَسْطُ الوجهِ وحُسنُ الخُلُقِ.” [أبو يعلى والبزار بسند جيد].
أيها المسلمون: إننا في حاجة إلى أن نقف وقفة مع أنفسنا وأولادنا وأهلينا في غرس مكارم الأخلاق والتحلي بها ؛ نحتاج إلى نولد من جديد بالأخلاق الفاضلة؛ نحتاج إلى نغير ما في أنفسنا من غل وحقد وكره وبخل وشح وظلم وقهر ودفن للقدرات والمواهب إلى حب وتعاون وإيثار وعدل ومساواة ورفع الكفاءات؛ إذا كنا نريد حضارة ومجتمع وبناء دولة !!! فهل لذلك أذن واعية ؟!!
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت؛ واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ؛ اللهم اجعل هذا البلد أمناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين !!
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي