خطبة بعنوان: تذكير الأنام بمنزلة العلم وحرمة الغش في الإسلام، للدكتور خالد بدير
خطبة بعنوان: تذكير الأنام بمنزلة العلم وحرمة الغش في الإسلام، للدكتور خالد بدير.
لتحميل الخطبة أضغط هنا.
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منزلة العلم والحث عليه في الإسلام
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على طلب العلم (صور ونماذج مشرقة)
العنصر الثالث: بين العلم والعبادة
العنصر الرابع: العالم قدوة للآخرين
العنصر الخامس: حرمة الغش في التعليم والامتحانات
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منزلة العلم والحث عليه في الإسلام
اهتم الإسلام بقيمة العلم أيما اهتمام، ولقد بلغت عناية الله عز وجل بنا لرفع الجهل عنّا أن كان أول ما نزل من الوحي على نبينا أعظم كلمة هبط بها جبريل هي قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}(العلق:1) وقالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وانطلقت بعد ذلك لتصبح شعارا للمسلمين ليكونوا حملة المشعل، مشعل العلم الهادي وأمرُ الله عز وجل في أول آية نزلت من القرآن دليل واضح على أهمية العلم في تكوين عقل الإنسان وفي رفعه إلى المكانة السامية، فلا يستوي عند الله الذي يعلم والذي لا يعلم، فأهل العلم لهم مقام عظيم في شريعتنا الغراء، فهم من ورثة الأنبياء والمرسلين، يقول الله تبارك تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر: 9) ، فلا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، فالعلم نور يهتدي به صاحبه إلى الطريق السوي، ويخرج به من الظلمات إلى النور.
ويرفع الله الذي يطلب العلم والذي يعمل به كما يشاء، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) أي يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين بفضل علمهم وسابقتهم درجات أي على من سواهم في الجنة. قال القرطبي: “أي في الثواب في الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم” وقال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم (درجات) أي درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.
ولشرف العلم أباح الله لنا أكل الصيد الذي صاده الكلب المعلم، وإذا صاده كلب غير معلم لا يؤكل:{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلولا فضل العلم لكان فضل صيد الكلب المعلم والجاهل سواء، وقد علمه كيف يصيد، وكيف يمسك لصاحبه، هذا في عالم الكلاب، رفعه الله درجة عن أقرانه بالعلم فما بالك بمن تعلم الكتاب والسنة؟!
ويبلغ من فضل العلم أنه يرفع قدر أناس ليس لهم حسب ولا نسب فوق كثير من الأكابر ؛ كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل: أن نافع بن عبد الحارث أمير مكة خرج واستقبل عمر بن الخطاب بعسفان، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال عمر: ومن ابن أبزى فقال رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين.”
وكما قيل:
العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف
وقد لعن الرسول الدنيا بمن فيها إلا من انتسب لشرف العلم عالما كان أو متعلما، فعن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ ، وَهُوَ يَقُولُ :” الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلاَّ ذِكْرَ اللهِ ، وَمَا وَالاَهُ ، أَوْ عَالِمًا ، أَوْ مُتَعَلِّمًا.” ” (السلسلة الصحيحة للألباني)، وكما قيل: كن عالما أو متعلما ولا تكن الثالث فتهلك.
عباد الله.. ما هو أفضل من أن يستغفر لك الحوت في البحر والدواب وحتى النمل تستغفر لطالب العلم؟ ما هو أفضل من أن تضع الملائكة أجنحتها لك إذا سلكت سبيلاً في طلب العلم سواء كان في درس تذهب إليه أو في كتاب تشتريه لتفتحه وتقرأ فيه؟ أي فضل عظيم هو ذاك وفَّره الله عز وجل لطلبة العلم الشرعي الذين يتعلمون الكتاب والسنة، والأحاديث في ذلك كثيرة!!
فعَن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ يَقُولُ:”مَن سَلَكَ طَرِيْقَاَ يَبْتَغِي فِيْهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لهُ طَرِيْقَاً إلى الجَنَّة وإنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضَاً بِما يَصْنَعُ وَإنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغفِرُ لهُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ حَتَّى الحِيْتَانُ في المَاءِ وفَضْلُ العَالِمِ عَلى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ على سَائِرِ الكَوَاكِبِ وإنَّ العُلَماءِ وَرَثَةُ الأنبِيْاءِ وإنَّ الأنبِيْاءَ لمْ يُوَرَثُوا دِيْناراً ولا دِرْهَمَاً وَإنَّما وَرَّثُوا العِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ”( رواه أبو داود والترمذي)
ومع أن الإسلام حرم الحسد إلا أن الشارع أباحه في مجال العلم، فعَنْ ابنِ مَسْعودِ رضيَ الله ُ عنهُ قال: قالَ رسول اللهِ صلى اللهُ عليْهِ وسلَمَ:”لا حَسَدَ إلاَّ في اثنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاه اللهُ مَالاً فسَلَّطَهُ عَلى هَلَكتِهِ في الحَقَّ ورَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقضِي بِها وَيُعَلِمُّها”(متفق عليه)، وغير ذلك من الأحاديث التي لا يتسع المقام لذكرها وأنت بها خبير.
أحبتي في الله: إن الله لم يقصر الأجر على العلماء في حياتهم؛ بل امتد الأجر بعد موتهم وإلى قيام الساعة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ” (الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ )، وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:” أَرْبَعٌ مَنْ عَمَلِ الأَحْيَاءِ تَجْرِي لِلأَمْوَاتِ: رَجُلٌ تَرَكَ عَقِبًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ يَبْلُغُهُ دُعَاؤُهُمْ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ جَارِيَةٍ مِنْ بَعْدِهِ فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عَمَلِهِ شَيْئًا، وَرَجُلٌ مَاتَ مُرَابِطًا يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ ” (السلسلة الصحيحة للألباني)، وعن أبي هُريرةَ رَضيَ الله ُ عنهُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عليْه وسَلـَّمَ قال:”مَن دَعَا إلى هُدَى كانَ لـَهُ مِنَ الأجْرِ مِثلُ أُجُورِ مَنْ تبعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِم شَيئْاً”(رواه مسلم). قلت: الإمام البخاري – مثلا – مات من قرون، ومع ذلك عدَّادُ الحسنات يَعُدُّ له إلى قيام الساعة، فمن نحن بجانب البخاري؟!!
يحضرني قول الإمام الشافعي رحمه الله:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
نعم يا إمامنا الشافعي، فكل من يطعن أو يشكك في هؤلاء الأعلام فهو ميت حقيقة لا حكما، بل لا يستحق الحياة.
وما أجمل قول سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه:
ما الفخــــر إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه *** والجاهـلون لأهل العـلم أعداء
فـفـز بعلم تعش حيـاً به أبــدا *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
أحبتي في الله: لم يقتصر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على تعليم الإسلام, وتعلم أحكامه, وإنما أولى اهتمامه كذلك بتعليم الصحابة العلوم النافعة، فحرص على تعليمهم القراءة والكتابة, وتعليمهم الحرف والصناعات، وكذلك تكليفه صلى الله عليه وسلم بوظيفة تعليم الكتابة عددا من الصحابة الذين كانوا يحسنونها، كعبدالله بن سعيد بن العاص، فقد كلفه صلى الله عليه وسلم بتعليمها الناس في المدينة أول قدومه صلى الله عليه وسلم إليها, وتولى عبادة بن الصامت تعليم جماعة من أهل الصفة الكتابة والقرآن، فعنه رضي الله عنه قال: «علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن».
ومن الثابت هنا أنه صلى الله عليه وسلم جعل فداء كل أسير من أسرى بدر ممن يحسنون فن القراءة والكتابة، أن يعلم عشرة من أبناء الصحابة, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة».
ولم يقتصر اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالحث على تعليم اللغة العربية فحسب؛ بل أمر بتعلم اللغات الأخرى؛ وثبت أنه أمر زيد بن ثابت بتعلم اللغة السريانية ليتولى أعمال الترجمة والرد على الرسائل، وروي أنه تعلم بأمر منه صلى الله عليه وسلم العبرية والفارسية والرومية وغيرها، فعنه رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم لـه كلمات من كتاب يهود، قال: إني والله ما آمن يهود على كتابي, قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته لـه, فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم, وإذا كتبوا إليه قرأت لــه كتابهم» ( رواه أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح)، فأصبح الفَتَى زيدُ بنُ ثابتٍ تَرْجُمانَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وأصبحت اللغة سلاحا له يدافع به عن الإسلام والمسلمين، وكما قيل:( من تعلم لغة قوم أمن مكرهم )
ولم تقتصر عنايته صلى الله عليه وسلم بتعليم هذه الفنون والعلوم للرجال فحسب, إنما اعتنى أيضا بتعليم النساء العلم والكتابة, فعن الشفاء بنت عبدالله قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة» (أبوداود).
وجملة القول, فإن ما تقدم هو قليل من كثير ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عنايته بالمسألة العلمية, تعلما وتعليما, أقوالا وأعمالا, مما يبرز اهتمامه الفائق بولاية العلم والتعليم.
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على طلب العلم (صور ونماذج مشرقة)
عباد الله: أسوق لكم صورا ونماذج مشرقة من حرص السلف الصالح على طلب العلم، وسأترك لكم التعليق والتعقيب عليها، لتقارنوا بين حالهم والإمكانيات والأدوات الكتابية التي عندهم وبين ما نحن فيه من تقدم علمي وتكنولوجي!!
قيل لبعضهم: بما أدركت هذا العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.
ورئي مع الإمام أحمد العالم الجليل محبرة وقلم فقيل له: أنت إمام المسلمين ولا زلت تحمل المحبرة وتكتب؟! فقال الإمام أحمد: “مع المحبرة إلى المقبرة.”
وقيل للشافعي: “كيف حرصك علي العلم؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره”
وقيل لرجلٍ: من يؤنسُكَ ؟ فضرب بيده إلى الكتب، وقال: هذه ؛ فقيل: مِنَ النّاس؟ فقال: الّذين فيها.”
وكان الفتح بن خاقان وزير المتوكل، ناصر السنة، -رحمه الله- يحمل الكتاب في كُمه أو في مكان آخر من ثيابه، فإذا قام من بين يدي المتوكل لبعض حاجاته -لقضاء حاجة أو للصلاة- أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه، فإذا أراد المتوكل القيام لحاجة، أخرج الكتاب من كمه أو من موضعه الذي هو فيه، وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده.
وليس هذا فحسب؛ بل إن ساعات الأكل لقوام حياتهم ومعاشهم كانت ثقيلة عليهم، فقد سألوا الخليل بن أحمد الفراهيدي – رحمه الله -: ما هي أثقل الساعات عليك؟ قال: ساعة آكل فيها.
وكَانَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ يَشْرَبُ الْفَتِيتَ وَلَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيْنَ مَضْغِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْفَتِيتِ قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً «كتاب المجالسة وجواهر العلم»
وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري يقول:” أثقل الساعات عليَّ ساعة آكل فيها.” فالله أكبر ما أشد الفناء في العلم عنده؟! وما أوقد الغيرة على الوقت لديه؟!
قلت متعجباً: أثقل ساعات عليه ساعة الأكل؛ مع أنه مباح وواجب لقوام الحياة وحفظ النفس؛ وما يتوصل به إلى الواجب فهو واجب، فكيف حالنا ونحن نُضَيِّعُ أوقاتنا في الفراغ والحرام وأمام المسلسلات والأفلام وعلى القهاوي والطرقات، وعلى النت والمعاكسات؟!!
أعود إلى سلفنا الصالح فأقول: كان عبيد بن يعيش يقول: “أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث”
وعن ابن أبي حاتم صاحب الجرح والتعديل يقول: “كنا في مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناها فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس فلم يمكنا إصلاح هذه السمكة ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى على السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تتغير فأكلناها نيئة، لم يكن لنا فراغ أن نشوي السمك. ثم قال: “إن العلم لا يستطاع براحة الجسد”(سير أعلام النبلاء)
ويحدث أبو حاتم الرازي عن نفسه وجهاده في طلب العلم فيقول: “بقيت في البصرة ثمانية أشهر وكان في نفسي أن أقيم بها سنة كاملة، لكن انقطعت نفقتي فجعلت أبيع ثيابي حتى نفذت وبقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع إلى المساء، فانصرف رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد غدا عليَّ فقال: مر بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني. قال: فما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا. فقال: قد بقي معي دينار فنصفه لك ونجعل النصف الآخر في الكرى، فخرجنا من البصرة وأخذت منه نصف الدينار”. هكذا كان حرص العلماء على طلب العلم على الرغم من الشدة التي تقابلهم.
وعن أبي الوفاء ابن عقيل يتحدّث عن نفسه فيقول :” أنا أقصر بغاية جهدي أوقاتَ أكلي، حتّى أختار سَفَّ الكعك وتحسّيه مع الماء على الخبز ؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ ! توفُّراً على مطالعةٍ أو تسطير فائدةِ لم أدركها فيه !!”
وقال الشيخ فخر الدين : ” والله إني أتأسّف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل, فإنّ الوقت والزمان عزيز “
ويحكى أن الشيخ شمس الدين الأصبهاني من حرصه على العلم وشحّه بضياع أوقاته, أنه كان يمتنع كثيرا من الأكل, لئلا يحتاج إلى الشرب, فيحتاج إلى دخول الخلاء, فيضيّع عليه الزمان.
يااااااااالله!!!!!!!!!!! كم نضيع من الساعات في الحرام!! إذا كانوا حريصين على الوقت في طعامهم وشرابهم ويعتبرونه مضيعةً فكيف بنا؟!! ياااااالله؟!!! لطفك بنا يا رحمن.
يقول ابن عقيل الحنبلي تلميذ الحافظ الخطيب البغدادي:” إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في الثمانين، أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.” (ذيل طبقات الحنابلة) فانظر كيف يستغل وقت طعامه وراحته في إعمال فكره فيسطره بعد قضاء حوائجه الشخصية؟!!!
وهناك قصة طريفة للشيخ الألباني – رحمه الله – مع النجَّار وباب المكتبة، تبين مدى حرصهم على الوقت، فقد نادى النَجَّار-نَجَارًا من النَجَّاِرين ناداهُ مرةً- قال لهُ أريدُ أن تقلِبَ بابَ المكتبة, بَدَلْ من أن يَفتح على الجهة اليمين تجعله يفتح على الجهة الشِمال. نظر إليه النجار – يعني ما السِّر؟ قال يا شيخ يعني يمين أو شمال ما المشكلة؟ قال-يعني الشيخ الألباني-:تستطيع؟ قال-النجار- طبعا أستطيع لكن قل لي ما السبب؟ قال-الشيخ الألباني-أنا وضعت مكتبي هنا فإذا كان الباب يفتح هكذا سأضطر أن أمشي خمس خُطُوَات زَائِدَة كي أصِل إلى المكتب, فأنا أخرج من المكتب خمس صلوات في اليوم والليلة؛ وقد أخرج مشوارًا لأغراض البيت أو لمحاضرة أو كذا فهاذي سبع مرات كل مرة بين ذهاب وإيَّاب، هاذي حوالي ربع ساعة أو ثلث ساعة ضاعت مني، في الأسبوع كم سيضيع؟! في الشهر كم سيضيع؟! لكن إذا فعلنا هكذا تكون رجلٌ في الباب ورجلٌ على المكتب فلا أُضيع وقتي.
والوَقْتُ أنفَسُ ما عُنِيتُ بحفظهِ —— وأُرَاهُ أسْهَلَ مَا عَليَّ يَضِيعُ
يقول عبد الرحمن ابن الإمام أبي حاتم الرازي ” ربما كان أبي يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه ” فكانت ثمرة هذا المجهود وهذا الحرص على استغلال الوقت كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات وكتاب التفسير في مجلدات عدة وكتاب السند في ألف جزء.
لهذا فتح الله لهم قلوباً غلفا وأعيناً عمياً وآذاناً صماً!!! فإذا كنت تريد اللحاق بهم فاعمل عملهم ؛ فالله يسر لك سبل العلم والتقنيات الحديثة ما لم يصل إليه أحدهم، ومع كل ذلك أقول: لا يصل إليهم أحدكم!!! أليس كذلك؟!!!
على أن هذا الحرص ليس قاصراً على المسلمين فقط، بل اهتم الغربِيُّون به كذلك حتى نهضوا وتدموا به، فقد قرأتُ عن ألبرت إنشتاين، الفيزيائي الألماني الشّهير، أنّه من شدّة حرصه على العلم والوقت كان لا يلبس الأقمصة بأكمامٍ ذوات أزرار ، لأنّ غلقها وفتحها يضيع عليه وقتاً ثميناً في تحصيل العلم!
فيا أيها المعرضون عن طلب العلم ! ما هو عُذركم عند الله ، وأنتم في العافية تتمتعون !؟ وماذا يمنعكم منه وأنتم في أرزاق ربكم ترتعون !؟ أترضون لأنفسكم أن تكونوا كالبهائم السائمة !؟ أتختارون الهوى على الهدى والقلوب منكم ساهية هائمة !؟ أتسلكون طرق الجهل وهي الطرق الواهية ، وتَدَعُون سُبُل الهدى وهي السُّبُل الواضحة النافعة !؟
أترضى إذا قيل لك : مَن رَبُّكَ وما دينك ومَن نبيك لم تحر الجواب !؟ وإذا قيل : كيف تصلي وتتعبد أجبت بغير الصواب !؟ وكيف تبيع وتشتري وتعامل وأنت لم تعرف الحلال من الحرام !؟ أمَا والله إنها حالةٌ لا يرضاها إلا أشباه الأنعام . فكونوا – رحمكم الله – متعلمين ، فإن لم تفعلوا فاحضروا مجالس العلم مستمعين ومستفيدين ، واسألوا أهل العلم مسترشدين متبصرين ، فإن لم تفعلوا وأعرضتم عن العلم بالكلية فقد هلكتم وكنتم من الخاسرين .
أما علمتم : أنَّ الاشتغال بالعلم مِن أَجَّلِ العبادات، وأفضل الطاعات والقربات ، ومُوجِبٌ لِرِضَى رَب الأرض والسماوات . ومجلس علم تَجلِسُهُ خيرٌ لك مِن الدنيا وما فيها ، وفائدة تستفيدها وتنتفع بها لا شيء يزنها ويساويها !؟ فاتقوا الله عباد الله ، واشتغلوا بما خلقتم له من معرفة الله وعبادته.
العنصر الثالث: بين العلم والعبادة:
كثير من الناس يولى اهتمامه بالعبادة ويترك العلم ويهمله، وإذا كلمته يا فلان: تعلم أمور دينك وعبادتك لتعبد الله على حق يقول: ( بس صلي وربنا يتقبل)، وربما تكون صلاته وعبادته باطلة لأنه لا يحسن أركانها ولا قيامها وركوعها، لهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم العلم على العبادة، ورفع من شأنه فقال:” إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ” وفي رواية ” فضلُ العالمِ على العابِدِ ، كفَضْلِي علَى أدناكم ” ( حسنهما الألباني )، ومن هنا كان فضل العلم والدعوة إلى الله أعظم أجراً من الانقطاع إلى العبادة مرات ومرات، لذلك قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة، بخلاف المتفرغ للعلم، لأنه لا رهبانية في الإسلام، ولأن تفرغ المتعبد لنفسه، وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة ! ، فقدم العمل المتعدي نفعه إلى الغير؛ على العمل القاصر نفعه على صاحبه، فقيامه بتعليم الناس أولى من العبادة، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره، وهذا الذي جعل الشيطان يفرح بموت العلماء أكثر مما يفرح بموت العباد ، فروي أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العباد؟!!! فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق، لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بموت الواحد من العلماء. قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السماوات في جوف بيضة؟ قال العابد: لا. وهذا جهل كبير.ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السماوات في بيضة؟. قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسماوات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال الشيطان لجنوده: انظروا الفرق بين هذا وهذا. انظروا كيف كذب الأول بجهله، وكيف اعتصم الثاني بعلمه، وكيف اهتدى بكلمته أناس كثيرون.
فالذي يعبد الله على علم لا يُخشى عليه من وقوعه في حبائل الشيطان، وتكون عبادته مقبولة لأنها مكتملة الشروط والأركان، وإلا كانت باطلة، فقد روي- في الإسرائليات- أن عابداً من بني إسرائيل كان يعبد الله تعالي في صومعة فوق الجبل، وذات يوم خرج كعادته لكي يتجول متأملاً في ملكوت الله تعالي ، وبينما هو يتجول رأي في طريقه جثة آدمي تنبعث منها رائحة كريهة، فمال العبد وأعرض بوجهه لتفادي شم الرائحة الكريهة، عند ذلك ظهر له الشيطان في صورة رجل من الصالحين الناصحين وقال له: لقد تبخرت حسناتك. فقال له العابد: لمَ ؟ قال : لأنك أبيت أن تشم رائحة آدمي مثلك ، وعندما ظهر علي وجه العابد الحزن والألم قال له الشيطان مشفقاً: إذا أردت أن يغفر لك الله هذا الذنب يجب أن تصطاد فأراً جبلياً وتعلقه في رقبتك وتعبد الله به طوال حياتك، ونفذ العابد واصطاد الفأر وظل يعبد الله به ستين عاماً ؛ وهو حامل هذه النجاسة حتى مات فبطلت عبادته، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” مسألة علم – أو مجلس علم – خير من عبادة ستين سنة” ( رواه الديلمي في الفردوس )، فمسألة العلم التي جهلها هذا العابد من شروط صحة الصلاة التي لا تصح الصلاة ولا تقبل إلا بها؛ وهي طهارة البدن والثوب والمكان ، وهذا العابد بجهله بهذه المسألة ظل معلقاً النجاسة في رقبته وهو يصلي بها ستين عاماً، فكيف تصح هذه الصلاة مع النجاسات ؟!! فبطلت صلاة ستين عاماً بجهل مسألة علم واحدة، فما بالك لو كان جاهلاً بمسائل الفقه كلها، لذلك كان العلم أولى من العبادة.
وأما عن كيفية عبادة الله على علم وليس على جهل؛ فيكون ذلك بأن يتعلم المسلم ما يجب عليه فعله في كل عبادة، فيعرف الصلاة الصحيحة من غيرها، وكذا أحكام الطهارة وصيام رمضان، وإن كان من أهل الأموال يعرف حكم الزكاة وما يجب عليه في ماله من حق، وإن كان من أهل الاستطاعة على الحج فيعرف أن الحج واجب عليه ثم يعرف كيف يحج حجاً صحيحاً متقبلاً، وهكذا يلزمه أن يتعلم أحكام الحرفة التي يحترفها، فيعرف الحلال والحرام وينبغي له أن يجتهد في تعلم ما زاد على ذلك، وإذا لم يستطع المسلم التعلم فيسأل أهل العلم، ويستمع إلى دروسهم ومحاضراتهم حتى يعبد الله على بصيرة وتكون عبادته صحيحة مقبولة، وقبل كل هذا يتعرف على وحدانية الله وأسمائه وصفاته وأركان الإيمان، وهذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فعن التابعي الجليل أبي عبد الرحمن السلمي قال: “حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل، قالوا : فتعلمنا العلم والعمل جميعًا “.، قارن بين ذلك وبين حالنا اليوم، فكم من أناس في كسبهم للأموال وسعيهم علي الرزق يلتمسون طرقاً غير مشروعة ، معظمها من الربا والسحت وأكل أموال الناس بالباطل والنصب في الأسواق وإتباع أساليب اللؤم والخداع في البيع والشراء وغير ذلك من طرق أكل الحرام ، وهو يعتقد أن هذه الطرق ليس فيها ما يخالف الدين والشرع ويتبع طرق ملتوية في تحليل مثل هذه الطرق فيظل طوال عمره يأكل الحرام وهو لا يدري.
لذلك كان الجهل من علامات الساعة؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ الْقَتْلُ” (متفق عليه)، وما أكثر الجهلاء الذين يتصدرون للفتوى بغير علم في هذه الأيام. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”(متفق عليه)
العنصر الرابع: العالم قدوة للآخرين
يجب على العالِم أن يعمل بما يعلم أو يقول، حتى تؤتي الموعظة ثمارها، وإلا كانت هباءً منثوراً لا وزن لها ولا تأثير.
ولقد ذم الله هؤلاء بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ،كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}( الصف 2 ، 3)، قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره: ” أي: لِمَ تقولون الخير وتَحُثُّونَ عليه، وربما تَمَدَّحْتُم به وأنتم لا تفعلونه، وتَنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به، فالنفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة “.
وعن أسامة بن زيد قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ؛ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ؟! أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟! قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ” ( متفق عليه )
قال مالك بن دينار رحمه الله ” إن العالم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا”، وقال الحسن البصري – رحمه الله – : ” العالم الذي وافق علمه عمله ، ومن خالف علمه عمله فذلك راويه سمع شيئاً فقاله” . وقال الثوري : ” العلماء إذا علموا عملوا ، فإذا عملوا شُغِلوا … ) . وقال : ” العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل”، ويقول الشاطبي ” إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق”
أحبتي في الله: لقد فطن الغرب إلى أهمية القدوة في بناء الأفراد والأمم والحضارات، واعتبروا هدم القدوة هدما للحضارة كلها. يقول أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي:
1. اهدم الأسرة.
2. اهدم التعليم.
3. أسقط القدوات.
* لكي تهدم الأسرة: عليك بتغييب دور (الأم) اجعلها تخجل من وصفها بـ”ربة بيت”
* ولكي تهدم التعليم: عليك بـ (المعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه.
* ولكي تسقط القدوات: عليك بـ (العلماء والآباء) اطعن فيهم قلل من شأنهم، شكك فيهم حتى لا يسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد.
فإذا اختفت (الأم الواعية)، واختفى (المعلم والأب المخلص)، وسقطت (القدوة)؛ فمن يربي النشء على القيم؟!
عباد الله: يجب على العالم أن يحقق في نفسه ما يريد أن يحققه في الآخرين، فيتعهد نفسه بالرعاية ويمتاز بالشفافية، ويتحرى الصدق في المواقف، والإخلاص في النية، وما لم يستمد قادة الدعوة ومربوها نورهم من مشكاة النبوة، وأخلاقهم من أخلاق النبوة، ويصبحوا كالصحابة نجوما يهتدي بهم في ظلمات هذه الأيام فإن دعوتهم ستبقى ناقصة.
هذا المعلم أو هذا الأساس – القدوة – الذي هو من أهم أسس التربية والذي لن يفيدنا كثيرا إلا بعد أن نراه مطبقا بالفعل؛ ويفيدنا أكثر أن نراه مطبقا في أعلى صوره، لأن ذلك سوف يعطينا فكرة عملية عن المدى الذي يمكن أن يبلغ إليه هذا العنصر لنقيس به جهدنا إليه في كل مرة ونحاول المزيد.
وهناك حكمة تقول: فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل، ومعناها: أن الأفعال أقوى تأثيراً من الكلام. فلو أن رجلا فعل موقفا أخلاقيا يدل على الأمانة مثلاً سيكون أقوى بشدة في آلاف الناس من ألف محاضرة يلقيها إنسان عن الأمانة.
وأما حين يكون العالم هو أول الهادمين، بما يلحظه الناس من فرق بين ما يقوله وما يعمله ، وبما يرونه من مفارقات بين أوامره المثالية معلما ومربيا، وتصرفاته المغايرة لأقواله وأوامره، فهذا يدل فساد علاجه.
والمؤمن لا يخالف قوله فعله، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير والبر، ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن يدعوهم ، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم ، بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ ، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه ، ليروا فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله ، فيضيء الطريق للسالكين ، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب ، فيحمل الناس بذلك على التأسي والإتباع .. فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة ، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به ، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم .
وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه ؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول : انظروا إلى فلان .. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره ، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به ؟ فيتركون – عندئذ – الدين ، بسبب سلوكه ذاك !!
كيف يحافظ الناس على الصلاة وإمامهم لها من المهملين؟! كيف يحثهم على أداء صلاة الفجر مع الجماعة وهو عنها من المتكاسلين؟ متى يتعلم الناس الصدق في القول والوفاء بالوعد، وهو يكذب ويخلف؟ متى يعي الناس حرمة الغش ويغش في بيعه وشرائه ومعاملاته؟ ومن هذا الذي سيكرم جاره، وإمامه وجاره متلاحيان متخاصمان؟! كيف ينهى الناس عن الحرام وهو أول الآكلين؟!!
كم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك، إذ أنهم حملوهم على المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية السيئة، ولولاهم ما وقعوا في ذلك ، فهم الذين سنَّوا هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم فقد : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم : «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ».
وما أجمل الحكمة التي أجراها الله تعالى على لسان أبي الأسود الدؤلي، عندما قال :
يا أيها الرجل المعلم غيره … هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى … كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها … فإن انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم
ولله در ابن الجوزي وهو يقول كما في صيد الخاطر:” ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس؛ ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه، فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي إن قضيت عليَّ بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا عذَّب من دل عليه”.
فأعوذ بالله أن أذكركم وأنساه وان أكون جسراَ تعبرون به إلى الجنة واقع أنا في النار.
عباد الله: هناك مصيبة كبيرة – كما عبر أحد الشعراء – استشرت في المجتمع؛ وهي: أنك كما كلمت أحدا أو نصحته يقول: والله عارف، عارفين كل حاجة. يرد عليهم الشاعر بقوله:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة ولو كنت تدري فالمصيبة أعظم
ومن أجمل ما قيل في ذلك: الرجـــــــــال أ ربعــــــة:
فرجل يدري ويدري أنه يدري * * * * فذلك عالم فاعرفوه
ورجل يدري ولا يدري أنه يدري * * * * فذلك غافل فأيقظوه
ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري * * * * فذلك جاهل فعلموه
ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري * * * * فذلك أحمق فاجتنبوه
عباد الله: أقول للذي يعلم (وعارف كل حاجة)، كيف بك تتبجح وتعلم ثم تعاند وتجادل ولا تعمل؟!!! كيف بك حينما تقف أمام الله ويسألك: ماذا عملت بما علمت؟!! فيتساقط لحم وجهك حياءً من الله!
عن عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ َقَالَ:”مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا أَنَّ رَبَّهُ سَيَخْلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَيَقُولُ: ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي؟ ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي؟ ابْنَ آدَمَ، مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟” (الطبراني موقوفا على ابن مسعود)
ورَوى ابنُ حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “.
ويُسأَلُ عَنْ عِلْمِهِ ماذَا عملَ فيهِ؟! أي يُسألُ هل تعلّمتَ عِلْمَ الدِينِ الذي فَرضَهُ اللهُ عليكَ؟! فمنْ أهْملَ العملَ بعدَ أنْ تعلّمَ خَسِرَ وخابَ وهلكَ، وكذلكَ منْ لا يتعلّمُ فهوَ أيضًا من الهالكين
وورد في بعض الأحاديث:” وَيْلٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ عَلِمَ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ”.( ضعيف الجامع) والويلُ هو الهلاكُ الشّديدُ.
العنصر الخامس: حرمة الغش في التعليم والامتحانات
إن الغش ظاهرة خطيرة وسلوك مشين، والغش له صور متعددة، وأشكال متنوعة، ابتداء من غش الحاكم لرعيته، ومرورا بغش الأب لأهل بيته، وغش الخادم في عمله؛ و انتهاء بالغش في التعليم والامتحانات.
وحديثي سوف يكون فقط عن الغش في الامتحانات، والذي أصبح يشكو كثير من المدرسين والتربويين من انتشاره وفشوه؛ وهذا حق، فإن ظاهرة الغش بدأت تأخذ في الانتشار، ليس على مستوى المراحل الابتدائية فحسب، بل تجاوزتها إلى الثانوية والجامعة والدراسات العليا، فكم من طالب قدم بحثا ليس له فيه إلا أن اسمه على غلافه!! وكم من طالب قدم مشروعا ولا يعرف عما فيه شيئا!! وبل وقد تعجب من انتكاس الفطر عند بعض الطلاب، فيرمي من لم يغش بأنه مقعد ومتخلف وجامد الخ .. تلك الألقاب؛ ولربما تمادى أحدهم فاتهم الطالب الذي لا يساعده على الغش بأنه لا يعرف معنى الأخوة ولا التعاون. هذه الظاهرة التي أنتجها الفصام النكد الذي يعيشه كثير منا في مجالات شتى، نعم لما عاش كثير من طلابنا فصاما نكدا بين العلم و العمل، ترى كثيرا منهم يحاول أن يغش في الامتحانات، و هو قد قرأ حديث الرسول صلى الله عليه و سلم : (“من غش فليس منا ” (مسلم)، بل ربما أنه يقرأه على ورقة الأسئلة، و لكن ذلك لا يحرك فيه ساكنا، لأنه قد استقر في ذهنه أنه لا علاقة بين العلم الذي يتعلمه وبين العمل الذي يجب أن يأتي به بعد هذا العلم؛ ولا أبالغ إن قلت: إن ظاهرة الغش أصبحت في غش القرآن ولا سيما في المعاهد الأزهرية بل ويمزقون المصحف ويأخذون الجزء المقرر في دورات المياه وهناك يداس بالأقدام!!!
أسباب الغش:
للغش أسباب كثيرة التي تنتج هذا الخلق المشين منها:
1- ضعف الإيمان:
فإن القلوب إذا ملئت بالإيمان بالله لا يمكن أن تقدم على الغش وهي تعلم أن ذلك يسخط الله ؛ لا يمكن للقلوب التي امتلأت بحب الله أن تقدم على عمل وهي تعلم أنه يغضب الله.
2- ضعف التربية :
خاصة من قبل الوالدين أو غيرهما من المدرسين أو المرشدين؛ فلا نرى أبا يجلس مع ابنه لينصحه ويذكره بحرمة الغش، ويبين له أثاره وعواقبه، بل تعجب من بعض الآباء إذا قلت له ذلك أجابك مباشرة : لماذا، هل ابني غشاش؟ بل ربما لو وقع الابن في يد المراقب، لجاء ذلك الأب يدافع عنه بالباطل!!
3- تزين الشيطان :
فالشيطان يزين لكثير من الطلاب أن الأسئلة سوف تكون صعبة، ولا سبيل إلى حلها والنجاح في الامتحانات إلا بالبرشام والغش؛ فيصرف الأوقات الطويلة في كتابة البراشيم، و اختراع الحيل والطرق للغش؛ ما لو بذل عشر هذا الوقت في المذاكرة بتركيز لكان من الناجحين الأوائل!!
4- الكسل وضعف الشخصية:
فترى كثير من الطلاب يرى زملائه من بداية العام وهم يجدون ويذاكرون ويهيئون أنفسهم للامتحان الأخير ، وهو لا هم له إلا اللعب والمرح .
فإذا ما جاءت الامتحانات النهائية تراه يطلب المساعدة، ويطلب النجاح ولو كان على ظهور الآخرين ولو كان ذلك بالغش. إن الغش هو حيلة الكسول ، وهو طريق الفاشلين؛ وهو دليل على ضعف الشخصية حيث أن الذي يغش لا يجد الثقة في نفسه بأنه قادر على تجاوز الامتحانات بنفسه وجهده واستذكار دروسه لوحده، ومن ثم الإجابة معتمدا على مذاكرته.
5- الخوف من الرسوب:
فإن الخوف من الفشل و الخوف من الرسوب يسبب قلقا مستمرا لكثير من الطلاب مما يجعلهم يلجئون إلى الغش كسبيل للنجاة.
آثار الغش على الفرد والمجتمع:
للغش آثار كثيرة على الفرد والمجتمع ومن ذلك:
1- أنه سبب لتأخر الأمة، وعدم تقدمها وعدم رقيها، وذلك لأن الأمم لا تتقدم إلا بالعلم وبالشباب المتعلم، فإذا كان شبابها لا يحصل على الشهادات العلمية إلا بالغش، فقل لي بريك: ماذا سوف ينتج لنا هؤلاء الطلبة الغشاشون ؟! ما هو الهم الذي يحمله الواحد منهم ؟! ما هو الدور الذي سيقوم به في بناء الأمة ؟! لا شيء ، بل غاية همه؛ وظيفة بتلك الشهادة المزورة، لا هم له في تقديم شيء ينفع الأمة، أو حتى يفكر في ذلك؛ و هكذا تبقى الأمة لا تتقدم بسبب أولئك الغششة بينها؛ ونظرة تأمل للواقع : نرى ذلك واضحا جليا، فعدد الطلاب المتخرجين في كل عام بالآلاف ولكن قل بربك من منهم يخترع لنا؟! أو يكتشف؟! أو يقدم مشروعا نافعا للأمة؟! قلة قليلة لا تكاد تذكر!!
2- أن الغاش غدا سيتولى منصبا، أو يكون معلما وبالتالي سوف يمارس غشه للأمة، بل ربما علَّم طلابه الغش.
3- أن الذي يغش سوف يرتكب عدة مخالفات –إضافة إلى جريمة الغش – منها السرقة، والخداع ، و الكذب، و أعظمها الاستهانة بالله، و ترك الإخلاص، و ترك التوكل على الله …إلخ
4- أن الوظيفة التي يحصل عليها بهذه الشهادة المزورة، أو التي حصل عليها بالغش سوف يكون راتبها حراما، لأنه بني على حرام ،وأيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به.
علاج الغش:
لاشك أن خطبة واحدة، بل خطب لن تقاوم هذا المنكر العظيم؛
لذا كان لا بد من تعاون الجميع في مقاومة هذه الظاهرة ، كل بحسب استطاعته وجهده، فالأب في بيته ينصح أبنائه ويرشدهم ويحذرهم بين الحين والآخر ، والمعلم والمرشد في المدرسة والجامعة كل يقوم بالوعظ ، والإرشاد، وكذلك الداعية في خطبه ودروسه، والإعلام بوسائله المختلفة.
وأخيرا نداء للشباب، أخي الشاب: تذكر قول الرسول صلى الله عليه و سلم : (من غش ) ليشمل كل صور الغش ، كبيره وحقيره، في المواد الشرعية أو الأجنبية، فكل ذلك داخل في الحديث؛ فهل ترضي أن يتبرأ منك النبي صلى الله عليه وسلم؟! أي خير ترتجي إذا تخلى عنك الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن البراءة منك؟! تذكر أنك بمجرد أن تفكر في الغش فقد تخليت عن أهم صفة يجب أن تتحلى بها في هذا العلم؛ ألا وهي الإخلاص لله؛ وذلك لأنك بتفكيرك في الغش؛ يكون همك هو الدرجات والشهادة فقط، وهل تدري أي خطر في هذا؟! إن هذه العلوم التي تدرسها؛ إن كانت من علوم الدنيا فقد ضيعت على نفسك أعظم الأجر، وإن كان فيها بعض العلوم شرعية ( كالفقه والتوحيد ..) وهي مما يجب ابتغائها لوجه لله، ولو طلبها العبد لغير الله فيخشى عليه أن يكون من أصحاب هذا الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا ” [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ] ، يا لله ؛ لم يرح رائحة الجنة! وأعظم من ذلك كله، أنك جعلت الله أهون الناظرين إليك؛ نعم جعلت الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أهون من المراقب، كم من طالب لو وقف المراقب بجواره لأصبح قلبه يرتجف، وأوصاله تضطرب، والعرق يتحدر من جبينه؛ ولكن إذا ابتعد المراقب جاءت النظرات، وجاءت المحاولات للغش والخداع!!
أخي الشاب:
عليك أن تراقب الله قبل كل شيء، وأن تعلم أن روحك التي بين جنبيك بيد الله، أنفاسك التي تتردد في صدرك هي بيد الله، فاتق الله ولا تجعل الله ينظر إليك وأنت تعصيه؛ تذكر أن الأمانة سوف تنصب على جنب الصراط، و لن يجوز عليه إلا من كان أمينا، والغش ينافي الأمانة كل المنافاة.
أسأل الله أن يسهل على أبناءنا، وأن يحميهم من الغش والخيانة، وأن يأخذ بنواصيهم لما يحب ويرضى.
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي