خطبة بعنوان: النظام وأثره في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 21 من ذي الحجة 1437هـ – 23 سبتمبر 2016م
خطبة بعنوان: النظام وأثره في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 21 من ذي الحجة 1437هـ – 23 سبتمبر 2016م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: أهمية النظام في الإسلام
العنصر الثاني : مظاهر النظام وصوره
العنصر الثالث: النظام في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: أهمية النظام في الإسلام
عباد الله: لقد خلق الله – عز وجل – هذا الكون كله بما فيه بقدر ونظام وتدبير محكم؛ وإن نظرة متفحصة مدققة في هذا الكون، يدرك بها المرء مدى تنظيم الله جل وعلا لهذا الكون، فالله جل وعلا يقول: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، أي أن كل شيء خلقه الله بقدر، قدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته ومقداره، وزمانه ومكانه، وهذا كله من بديع صنع الله تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7]. يقول الطاهر بن عاشور في تفسيره: ” إذا تأملت الأشياء رأيتها مصنوعة على ما ينبغي؛ فصلابة الأرض مثلا للسير عليها، ورقة الهواء ليسهل انتشاقه للتنفس، وتوجه لهيب النار إلى فوق لأنها لو كانت مثل الماء تلتهب يمينا وشمالا لكثرت الحرائق؛ فأما الهواء فلا يقبل الاحتراق.”(التحرير والتنوير )
ولو تأملنا في ملكوت الله في هذا الكون الفسيح لوجدنا الشمس والقمر والنجوم وجميع الكواكب تسير بنظام دقيق لا يصطدم أحدها بالآخر؛ وتصور – أخي المسلم- ما الذي يحدث لو خرج كوكب عن مساره، أو اصطدم نجم بآخر، أو طَغى بحرٌ على يابسةٍ أو غار فجأةً، تصور فساد المعايش واختلال الحياة؛ ولكنها الله سيرها بنظام دقيق يدل على قدرته وحكمته في هذا الكون. قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ( يس : 37 – 40)
يقول ابن كثير:” ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا . وقوله: { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ } : قال مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا. والمعنى في هذا: أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ؛ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثِيثًا. ” أ.هـ ( تفسير ابن كثير بتصرف )
فكل شيء في الحياة والكون مقدر وموزون ومحسوب، قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)
وقد نقلت إحدى الصحف مقابلة مع أحد العلماء المتخصصين في هذا العلم، وهو عالم مصري ومدرّس في جامعة إلينوي في أمريكا، قوله: إن كل الظواهر التي يراها الناس عشوائية ومفاجئة حتى في مجال الطب كاضطرابات عمل القلب والسكتة القلبية المفاجئة، وما يحصل من الكوارث الطبيعية، بل حتى تأرجح أسعار الأسهم في أسواقها.. كلها لها نظام؛ فليس هناك شيء في هذا الكون خارج النظام والتدبير.
وهذا النظام الكوني العام يدلنا على وجود الخالق المدبر، وصفاته وأسمائه الحسنى؛ فحينما نرى هذا الوجود ونتأمل هذا الكون يدلنا على أن هناك موجد، وأن هذا الموجد عنده هذه القدرة، بل منتهى القدرة، والحكمة والعظمة والعلم، وإلا لما أمكن أن يكون هذا الكون بهذا الشكل.
وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ………………. تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ
أيها المسلمون: جاء الإسلام سراجاً وهّاجاً إلى قيام الساعة ينظم للإنسان دقائق حياته، بما يُصلح دنياه وآخرته، في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالإنسان لم يُخلق سُدى، ولم يُترك بلا هُدى، قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} ( المؤمنون: 115)
يقول هنري سيروي وهو أحد مفكري النصارى إن “محمداً – صلى الله عليه وسلم- لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضاً المدنية والأدب والنظام”.
ولو نظرنا إلى الشريعة الغراء لوجدنا أنها لم تترك شاردة ولا واردة إلا تكلمت فيها ووضعت لها القواعد والمبادئ والأسس المنظمة لحياة البشر في هذا الكون .
وهذا ما لفت انتباه المشركين وأدهشهم وأثار إعجابهم. فعن سلمانَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه: ” قيل له: قد علَّمَكم نبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلَّ شيءٍ حتى الخِراءةَ! قال: فقال: أجَلْ، لقدْ نهانا أن نَستقبلَ القِبلةَ لغائطٍ أو بولٍ، أو أنْ نستنجيَ باليَمينِ، أو أنْ نستنجيَ بأقلَّ مِن ثلاثةِ أحجارٍ…” ( مسلم )
ويحضرني قصة وموقف نبيل مع أحد علمائنا الأجلاء حينما سافر إلى بلاد الغرب فسأله أحدهم: أنتم تقولون أن كل شئ مذكور في القرآن. قال: نعم. قال: ائتني بدليل من القرآن أن هذا الشوال من الدقيق يصنع منه كم رغيف من الخبز ؟! قال له العالم: ائتني بخبّاز . فأتاه الرجل بالخباز فسأله العالم. فأجابه الخباز . فقال: أنت سألت الخباز ولم تأت بدليل من القرآن؛ قال: أتيت بدليل من القرآن. ألم تقرأ قوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ؛ وهذا أهل الذكر في مجاله؛ فسكت الخصم ولم يرد .
أحبتي في الله: ومما يدل على أن ديننا الحنيف دين النظام؛ أننا درسنا في كليات الدعوة وأصول الدين؛ النظمَ الإسلاميةَ التي تشتمل على جميع جوانب الحياة كالنظام الاجتماعي؛ والنظام الاقتصادي؛ والنظام القضائي؛ والنظام السياسي….إلخ وهذه النظم كلها تضع القواعد والمبادئ والأسس التي يسير عليها الأفراد في جميع مناحي الحياة؛ وفق الضوابط الشرعية المستقاة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل .
العنصر الثاني : مظاهر النظام وصوره
عباد الله: علمنا فيما سبق أن النظام في الإسلام يشمل جميع مجالات الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقضائية وغيرها .
ولو طوفنا مع هذه المجالات لوجدناها شرعت بنظام دقيق وتدبير محكم يتوافق وحاجات البشرية !!
فالعبادات – مثلاً – شرعت بنظام دقيق يحكم الزمان والمكان والحال والأشخاص.
فالصلاة نظام كامل، وتتألّف من أجزاء وشروط وأركان وعدد ركعات وحركات محدّدة، وهي أيضاً ترتبط بالزمان، بالليل والنهار، بالفجر وطلوع الشمس وزوالها، وبمغيب الشمس ومنتصف الليل. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103). والرسول صلى الله عليه وسلم غرس في نفوس الصحابة القدوة والنظام والترتيب بين أركان الصلاة وسننها القولية والفعلية فقال: ” صلُّوا كما رأيتُموني أصلِّي ” (رواه البخاري)، فلو قدم المصلي ركنا على ركن وخالف النظام والترتيب بطلت صلاته!!
عباد الله: إن اصطفاف المصلين عند إقامة الصلاة ووقوفهم متحاذين متساوين ليدل دلالة واضحة على أهمية النظام في العبادات!! وهذه قصة وموقف جميل يؤيد هذا الكلام:
عرض بعض المسلمين على رجل أمريكي مشهداً للحرم وهو يعجّ بالمصلين والطائفين قبل إقامة الصلاة في المسجد الحرام، ثم سألوه: كم من الوقت يحتاج هؤلاء لكي يكونوا في صفوف منظمة متحلقة حول الكعبة؟ فقال ساعتين إلى ثلاث ساعات، فقالوا له: إن الحرم أربعة أدوار!! فقال: إذاً اثنتي عشرة ساعة. فقالوا: إنهم مختلفو اللغات وحتى اللهجات ومن بلدان شتى!! فقال الخواجة: هؤلاء لا يمكن اصطفافهم أبداً. ثم حان وقت الصلاة.. فتقدم إمام الحرم بعد الإقامة.. وقال: استووا واعتدلوا.. سووا صفوفكم.. فوقف الجميع في صفوف متراصة حول الكعبة المشرفة في دقيقتين لا أكثر.
وهذا النظام والاصطفاف وقولهم آمين أغضب اليهود وحملهم على الحقد والحسد للمسلمين؛ وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال: ” إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا ، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ ” (مسند أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر).
والصوم أيضاً نظام كامل وهو يرتبط بالزمان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ فعن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ – عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا؛ وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا؛ وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ”. (متفق عليه ). ومما يدل على النظام في الصوم أن الشارع الحكيم حرم الجماع في نهار رمضان وغلّظ فيه العقوبة؛ مع أنه حلال في ليله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } ( البقرة: 187 ).
والحجّ نظام وتنظيم كامل يرتبط بالزمان، فالحج أشهر معلومات، ومناسك وشعائر، يتنقل العباد من بعضها لبعض في نظام لا يخرجون عنه ولا يتجاوزونه؛ وفي الحج علمنا النبي – صلى الله عليه وسلم- النظام والترتيب والإتباع حيث قال: ”خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ” (رواه مسلم والنسائي).
وأذكر أن أحد الصحفيين العرب عند باب المسجد الحرام رأى الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز – يرحمه الله – خارجاً فأراد أن يشكره على حسن تنظيم هذه الوفود أثناء موسم الحج وفي كل الشعائر، فقاطعه الملك قائلاً: يا أخي لا تشكرني ولا تشكر أحداً.. بل اشكر الله وحده، فهذه الجموع البشرية الهائلة لا يمكن لبشر أن ينظم مسيرتها، ولكنها حكمة الله وحده القادرة على ذلك.
وفي مجال الجهاد نجد أننا مأمورون بالنظام حتى في أشد حالات الخوف، وهو وقت الحرب، لم يقبل الإسلام فيه حياة الفوضى، بل أمر بتنظيم الصفوف والتخطيط والترتيب، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} ( الصف: 4)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعدّل صفوف المقاتلين بنفسه يوم بدر، ووضع لهم نظاماً معيناً لكيفية أداء الصلاة جماعةً في أرض المعركة؛ فشرعت صلاة الخوف منظمةً بكيفيات متعددة كما ذكرها المفسرون. قال تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (النساء: 102)
وفي مجال الحياة الاجتماعية والأُسرية نظّم الإسلام السلوك والمعاملات، وسنّ القوانين والتشريعات في البيع والشراء والميراث؛ والزواج والطلاق والعلاقة بين الأزواج، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم، وعلاقته بغير المسلم؛ وحث الإسلام على التزام الأدب واحترام القوانين والمحافظة على الذوق العام. ونحن نجد أن الله – عز وجل – بعد ذكر هذه القوانين والتشريعات يعقبها بالوعيد والتهديد لمن يخالف هذا النظام وتلك القوانين والتشريعات ( تلك حدود الله ) ؛ ( وتلك حدود الله )؛ كما جاء في سور البقرة والنساء والمجادلة والطلاق وغيرها.
وفي باب الآداب الاجتماعية وضع الشارع الحكيم القواعد والأحكام والضوابط التي تنظم ذلك كآداب الطعام والشراب واللباس وغيرها؛ فعن عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي:” يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ؛ وَكُلْ بِيَمِينِكَ؛ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ”. (متفق عليه)
كما أمرنا بأدب الاستئذان حتى على الأم؛ فعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟! قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا.” (مالك والبيهقي مرسلاً)
وهكذا – أيها المسلمون- يسير الكون في جميع مجالاته طبقاً لنظام دقيق لا توجد فيه فوضى أو عبثية أو تضارب واختلاف، لأن الذي وضعه وأتقنه هو الخالق – جلّ في علاه – .
العنصر الثالث: النظام في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول
عباد الله: إن من ينظر في حياتنا المعاصرة يجد انفصالاً وانفصاماً كبيراً بين النظرية والتطبيق في قيمة النظام؛ فكما عرفنا في العنصرين السابقين أن الإسلام وضع قواعد تشريعية منظمة لكل مجالات الحياة؛ ولكن معظم الأفراد – إلا من رحم الله – لا يتبعون هذه النظم ؛ ولا يطبقونها على أرض الواقع؛ فانظر – مثلاً – إلى حال الناس في التزاحم والتدافع في الأسواق والمحلات والمؤسسات الحكومية ومكاتب البريد والتموين؛ وعلى المخابز والأفران؛ وغيرها من أماكن الخدمات المختلفة في الدولة.
وللأسف الشديد تجد الغربيين – مع عدم إسلامهم- يتبعون هذه النظم ويطبقونها في حياتهم العملية.
يقول الشيخ علي طنطاوي -رحمه الله – : حدثني رجل كبير القدر صادق اللهجة قال: كنت في لندن، فرأيت صفا طويلا من الناس يمشي الواحد منهم على عقب الآخر ممتداً من وسط الشارع إلى آخره. فسألت فقالوا: أن هنا مركز توزيع؛ وأن الناس يمشون إليه صفاً كلما جاء واحد أخذ آخر الصف؛ فلا يكون تزاحم ولا تدافع ولا يتقدم أحد دوره ولو كان الوزير؛ ولو كان أمامه الكنَّاس؛ وتلك عادتهم في كل مكان على مدخل الكنيسة؛ وعلى السينما؛ وأمام بائع الجرائد؛ وعند ركوب الترام أو صعود القطار. قال: ونظرت فرأيت في الصف كلبا في فمه سلة؛ وهو يمشي مع الناس كلما خطو خطوة..خطا خطوة؛ لا يحاول أن يتعدى دوره أو يسبق من أمامه ولا يسعى من وراءه ليسبقه؛ ولا يجد غضاضة أن يمشي وراء كلب مادام قد سبقه الكلب. فقلت ما هذا؟ قالوا: كلب يرسله صاحبه بهذه السلة وفيها الثمن والبطاقة فيأتيه بنصيبه من الإعاشة.
لما سمعت هذه القصة خجلت من نفسي أن يكون الكلب قد دخل النظام وتعلم آداب المجتمع ونحن لا نزال نبصر أناسا في أكمل هيئة وأفخم زي تراهم فتحسبهم من الأكابر يزاحمونك ليصعدوا الترام قبلك بعدما وضعت رجلك على درجته…أو يمدون أيديهم من فوق رأسك إلى شباك البريد وأنت جئت قبلهم وأنت صاحب الدور دونهم… أو يقفزون ليدخلوا قبلك على الطبيب وأنت تنتظر متألما لساعتين…وهم إنما وثبوا من الباب إلى المحراب …خجلت من رجال لم يتعلموا الانتظام الذي تعلمته الكلاب !!
أحبتي في الله: إنني أتألم كثيراً حينما أجلس مع زملائي وأصدقائي الذين سافروا إلى بلاد أوروبا ويحكون لي ما رأوا هناك من النظام والترتيب في جميع شئون الحياة !!!
وهذا يذكرني بالشيخ محمد عبده – رحمه الله – عندما زار أوروبا فذكر قولته المشهورة والتي لا يزال يرددها الكثير من المسلمين إلى يومنا هذا : “رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام”.
أيها المسلمون: والله الذي لا إله غيره؛ لو اتبعنا النظام في حياتنا وعباداتنا ومعاملاتنا وفي جميع شئون حياتنا؛ لعشنا عيشة كريمة آمنة مطمئنة؛ في رغدٍ ورخاءٍ؛ ولكن :{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ }.(هود: 101)؛ { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (النحل: 118) .
أختم هذا العنصر بهذه القصة الجميلة التي حدثت في عهد سلفنا الصالح؛ ومدى تطبيقهم للنظام؛ ومعرفة كل واحد منهم حقه فلا يأخذ سواه؛ وواجبه فلا يقصر فيه؛ فاستقامت لهم الدنيا؛ وفتحوا البلاد؛ وسادوا وقدوا !!
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصديق إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟!!
قارن بين ذلك وبين المحاكم – في هذا العصر – التي تعج بالقضايا المختلفة والجنايات المتنوعة؛ والجرائم البشعة التي لا تراعي في حق الله وحق عباده إلا ولا ذمة!!
نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينه مرداً جميلاً ؛ وأن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ وأن يجعل ما قلناه حجة لنا لا علينا يوم القيامة ؛؛؛؛
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
جزاكم الله خيرا وارجو من فضيلتكم لو قمتم بجمع الخطب فى كتاب واحد الكترونى كما فعلت الوزارة حيث جمعت خطبها فى كتاب مائة خطبة وخطبة ليستفيد منة الجميع واكرر جزيتم خيرا