خطبة بعنوان: المسئولية المجتمعية وأثرها في صلاح الأمة بتاريخ : 5 ذو القعدة 1438هـ – 28 يوليو 2017م للدكتور خالد بدير
لتحميل الخطبة بصيغة word اضغط هنا
(1) لتحميل الخطبة بصيغة pdf اضغط هنا
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: مفهوم المسئولية وأهميتها في الإسلام
العنصر الثاني: أنواع المسئولية المجتمعية
العنصر الثالث: وسائل استشعار المسئولية
العنصر الرابع: واجبنا نحو المسئولية المجتمعية
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: مفهوم المسئولية وأهميتها في الإسلام
عباد الله: لقد خلق اله الإنسان وكرمه وفضله على سائر المخلوقات والكائنات قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا * يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا }.(الإسراء 70 – 72 ). فالفرق بين الإنسان وبين بقية المخلوقات أنه يتحمل المسئولية، لأن لديه العقل ولديه الإرادة والاختيار؛ لذلك تسطر عليه أعماله في كتاب يوضع في عنقه ليلقى الله به؛ ” قال معمر: تلا الحسن البصري هذه الآية فقال: يا ابن آدم، بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } قد عدل -والله – عليك من جعلك حسيب نفسك. وهذا من حسن كلام الحسن، رحمه الله.” ( تفسير ابن كثير).
والمسئولية في الإسلام تعني: أن المسلم مكلفٌ ومسئولٌ عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، أو قدرة على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه، سواء أكانت مسئولية شخصية فردية، أم مسئولية جماعية ، فإن أَحسن تَحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب.
أحبتي في الله: لقد جعل الإسلام الإنسان مسؤولاً منذ بلوغه سن التكليف؛ وهو الرابعة أو الثالثة عشرة، ويَستمرُّ ذلك التكليف ما دام القلب ينبض، والعقل يعمل، حتى يفارق هذه الدنيا ويرحل عنها؛ وهذه المسئولية التي تحملها الإنسان وأبي كل شيء حملها!! { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب: 72]، فتحمل الأمانة والمسئولية أمر ليس بالهين اللين كما يعتقده الكثيرون، ولخطورة التفريط في الأمانة أبت السماوات والأرض والجبال حملها، ” فعن الحسن أنه تلا هذه الآية:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ}(الأحزاب:72)، قال: عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جُزِيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد، التي شدت بالأوتاد، وذللت بالمهاد، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثم عرضها على الجبال الشوامخ الصعاب الصلاب، قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، قالت: لا. فقال لآدم: إني قد عرضتُ الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمَّلها، فذلك قوله: { وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا }أي: ظلم نفسه بحمله إياها، جاهلاً حق الله فيها.”( تفسير ابن كثير).
أحبتي في الله: إنَّ مَسؤولية حمل الأمانة والحفاظ عليها لا يقتصر على التكاليف الشرعية، والعبادات المفروضة، والشعائر التعبدية؛ كالصلاة والحج والصيام والزكاة، مع عِظَم شأنها ورفعةِ مَقامها، بل تشمل علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أيضًا، وتَعامُله مع الخلق أجمعين على أساس العدل والرحمة والهداية؛ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]، فالإنسان مسؤول عن تصرفاته وأعماله تجاه ربه وتجاه الآخرين.
ولابد أن يعلم كل إنسان أوكله الله أمر من أمور المسلمين أن الله تعالي وضع في عنقه أمانة ومسئولية؛ فهي ليست تشريف ولا وجاهة وإنما مسئولية وتكليف؛ بمعنى أن كل من تم توظيفه في عمل عام فهو المعني بهذا الكلام وهو مسئول وموقوف أمام الله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}. (الصافات: 24). وقال: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.( المؤمنون: 115). وقال تعالي: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.(الحجر: 92 ؛ 93).
ولا يقتصر السؤال على المرسل إليه فقط؛ بل يشمل المرسل والمرسل إليه؛ قال تعالى: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}.[ الأعراف: 6]. هذا الذي يتكلم له حساب عند الله، هذا الذي تقوله للناس هل أنت مطبق له؟! وهذا المستمع مسؤول، سمعت كل شيء، ماذا فعلت فيما سمعت؟! فالله عز وجل سيسأل المرسَل إليه والرسول.
العنصر الثاني: أنواع المسئولية المجتمعية
عباد الله: تنقسم المسئولية المجتمعية إلى قسمين: مسؤولية شخصية فردية ؛ ومسئولية جماعية تشمل جميع أفراد الأمة.
فأما المسؤولية الشخصية فهي مسؤولية كل فرد عن نفسه وجوارحه وبدنه، روحه وعقله، علمه وعملِه، عباداته ومعاملاته، مالِه وعُمره، أعمال قلبه وجوارحه، وهي مسؤولية لا يشاركه في حملها أحد غيره، فإن أحسن تحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب، قال تعالى: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الأنعام: 160)؛ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. (الزلزلة: 7 ؛ 8) .
وهذه المسئولية الشخصية إذا فرط فيها الإنسان وأهملها ولم يقم بحق الله فيها سئل عنها وعوقب في الآخرة ؛ روى الترمذي بسند حسن ؛ عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله قال: ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، ومن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه “.
فمسؤولية الفرد إذن تتشعب إلى شعبتين : مسؤولية تجاه نفسه وأخرى تجاه مجتمعه؛ ويمكن القول بأن مسؤولية الفرد نحو نفسه قد تتسع بحيث تصبح مسؤولية نحو مجتمعه، كما أن مسؤوليته نحو المجتمع قد تضيق بحيث تكون أيضا مسؤولية نحو شخصه بالذات؛ فطلب العلم وإن كان الفرد مسؤولا عنه لنفسه لما وراءه من مصلحة شخصية، إلا أنه أيضا مسؤول عنه تجاه مجتمعه لأن من مصلحة هذا المجتمع أن يكون الفرد فيه متعلما لا جاهلا.
والتعاون مع المجتمع وإن كان الفرد مسؤولا عنه اجتماعيا، إلا أنه أيضا مسؤول عنه لنفسه بالذات لما يترتب على تعاونه مع أبناء مجتمعه من حمل أبناء مجتمعه أيضا على التعاون معه؛ وقس على ذلك بقية مجالات الحياة.
ومن المسؤولية الشخصية مسئولية الإنسان تجاه ربه في مراقبتِه في سائر أعماله وأقواله وتصرُّفاته وأفعاله، وأن يعبدَ الله كأنه يراه حين تغيب عنه الأبصار، ويختفي عن الأنظار.
ومنها: مسؤولية الإنسان عن لسانه أن يلغ في أعراض البرآء، أو ينقل الأراجيف والشائعات ضد الصلحاء، وعن قلبه أن يحمل الضغينة والشحناء، والغل والحسد والبغضاء، {إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
وأما المسؤولية الجماعية فتتضمن صوراً عديدةً:
منها: المسؤولية الكبرى في الإمامة العظمى، في تحكيم شرع الله في أرض الله على عباده الله، وكذا القيام بالمسؤوليات في الوظائف العامة، عدلاً في الرعية، وقَسماً بالسوية، ومراقبةً لله وحده في كل قضية؛ وكذا الحفاظ على الأموال والممتلكات والمرافق العامة، فليست المسؤوليات غُنماً دون غرم، ولا زعماً دون دعم، وسيتولى حارّها من تولى قارَّها، في بُعدٍ عن الخلل الإداري والتلاعب المالي والتسيب الوظيفي، فلا تصان الحقوق إلا بتولية الأكفاء الأمناء، والأخذ على أيدي الخونة السفهاء، قياماً بالمسؤولية والأمانة كما شرع الله، وتحقيقاً لما يتطلّع إليه ولاة الأمر وفقهم الله، وهو ما يحقق مصالح البلاد والعباد.
ومنها: المسئولية عن إيجاد هيئة لإقامة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وهذه الهيئة هي التي يقال عنها الاحتساب أو المحتسب؛ وهذا المحتسب قد يكون واحدا وقد يكون متعدداً وقد يكون متطوعاً أو معيناً من قبل الدولة؛ فالمسلمون جميعاً مطالبون بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ}.( آل عمران: 110). فخيرية هذه الأمة لأنها تقيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ومنها: المسئولية عن إعداد والدعاة والخطباء: وتلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم المادية والمعنوية حتى يقوموا بتبليغ الدعوة على أكمل وجه؛ وحتى يتفرغوا لنشر صحيح الدين وقضاياه العصرية المتجددة؛ وكذلك نشر الفكر الوسطي المعتدل؛ وتطهير عقول الشباب من الأفكار المنحرفة المتطرفة؛ وكل هذا لا يتأتى إلا بالتقدير المادي والمعنوي للدعاة؛ فهم حصن وأمان الأمة؛ لأنهم يحملون أشرف رسالة حملها قبلهم رسولنا – صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين!!
ومنها: المسئولية عن توفير السكن لمن لا سكن له : وقد كان فى مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى الرغم من صغر مساحته مكان لمن لا مأوى لهم من المهاجرين والأنصار؛ حتى إنه من إيثاره لهم على أقاربه لما جاءته السيدة فاطمة رضى الله عنها تطلب منه خادماً يعينها على أعمال المنزل بعد أن شكت ما فعلت الرحا بيديها! قال لها: “لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوى بطونهم من الجوع” وهذا يعد نوعاً من أنواع التكافل الاجتماعي والإحساس بالمسئولية ونوعاً من إيواء من لا مأوى له.
ومنها: المسئولية عن اليتامى والمساكين والفقراء وسد احتياجاتهم: الذين لا عائل لهم ولا مأوى؛ والعجزة الذين لا يجدون سبيلاً من أسباب الكسب ؛ وسد الخلات، ودفع حاجات المحتاجين، وإغاثة الملهوفين، وإنقاذ الغرقى؛ وإن هذا المفهوم بلغة العصر، يشمل مؤسسات الإغاثة ومؤسسات الخدمة الاجتماعية والتنمية الاجتماعية، وتأهيل الفقراء علمياً وحرفياً، لتحقيق سد الخلة على الوجه الأكمل، ذلك أن المساعدات المؤقتة تحقق سداً لحاجة جزئية، ولا تدفع الحاجة على وجه الدوام والاستمرار.
بل إن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك في تفعيل المسئولية المجتمعية من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي مراعاة لأحوال الفقراء إذا لم تقم الزكوات بذلك؛ فيفرض على الأغنياء – مع الزكاة – ما يكفي حاجة الفقراء؛ قال ابن حزم:” وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، وإن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف ، والشمس وعيون المارة.” ( المحلى(
ومنها : المسئولية عن تزويج العزب والعانس: إذ أن حل مشكلة العنوسة فى المجتمع تدخل فى إطار المسئولية المجتمعية؛ لأن القرآن الكريم قال: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.( النور: 32). والخطاب فى الآية الكريمة موجه للأمة كلها؛ فلو عجز إنسان عن تزويج ابنه أو ابنته توجه الأمر إلى الأمة كلها حتى لا يكون فيها عزب ولا عانس. فمصر فيها أكثر من ثلاثة عشر مليون عانس؛ وأيضاً زيادة النسبة فى كثير من الدول الإسلامية إنما هو دليل على إغفال الأمة لفروض الكفاية.
ومنها: مسئولية تعلم العلوم الدنيوية: فكل العلوم تخدم الإسلام ما دامت هذه العلوم نافعة للإنسان فى دينه ودنياه؛ فلولا تعلم الطب ما تعلم الناس كيفية علاج الأبدان؛ وقد كان رسول الله يعالج وكانت امرأة فى عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – تسمى رفيدة صنع لها خيمة فى مسجده فى غزوة الخندق؛ وكانت تمرض فيها سعد بن معاذ سيد الأوس ..فمن المسئولية المجتمعية أن يكون فى الأمة الطبيب والمهندس والاقتصادي والزراعي والكيميائي والصيدلي؛ وما تتم به المعايش كتعلم أحكام البيع والشراء والحرث وتولى الإمامة والشهادة وأدائها والقضاء وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق والزراعة والتجارة وتعلم اللغات الأجنبية وتعلم الصنائع والحرف… كل هذه من المسئولية المجتمعية لأن الأمة لا تستطيع أن تحيا وتتقدم بدونها؛ لأنه لو خلت البلاد من أصحاب الحرف والصناعات لدخل الحرج على الجميع.
ومنها: المسئولية المجتمعية عن المقدسات الإسلامية: فلا يفوتنا ونحن في هذا المقام أن نتكلم عن المسئولية الجماعية تجاه المسجد الأقصى الأسير؛ فإن من أهم مسؤوليات الأمة العظمى التصدي لألوان الغزو السافر ضدَّ عقيدتنا ومقدساتنا، والإبانة عن الموقف الحق ضد الحملات التي تُشن ضد ديننا وقيمنا ومبادئنا، والتصدي القوي لما تقوم به الصهيونية العالمية في دعمٍ من القوى الدولية ضد مقدساتنا في فلسطين المسلمة، فمسؤولية مَن مواجهة هذه الغطرسة الصهيونية الآثمة وهذه الهجمة العدوانية العنصرية ضد أمتنا الإسلامية؟! إن كلاًّ منا على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبله.
وبالجملة: فإن كل أمر يهم الأمة وفيه صلاحها وقوتها فهو من المسئولية المجتمعية التي بها قوام الأمة ونهضتها ورقيها وتقدمها.
العنصر الثالث: وسائل استشعار المسئولية
عباد الله: تعالوا بنا في هذا العنصر نرصد لكم أهم الوسائل التي من خلالها يستشعر الفرد أمانة المسئولية وقدرها وما يترتب عليها من ثواب وعقاب دنيوي وأخروي؛ وهذه الوسائل تتمثل فيما يلي:
أولاً: تذكر المسئولية والموقف أمام الله يوم القيامة: والمسئولية التى تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم عن الدنايا لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت فى وجدان المرء ٬ ورست فى أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره٬ والمسئولية ضمير حى إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة؛ فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة ٬ فما يغنى عن المرء ترديد للآيات ٬ ولا دراسة للسنن ٬ وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أمناء؛ ولكن هيهات أن تستقر الأمانة والمسئولية فى قلب تنكر للحق. فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: ” أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ _ أصل _ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ”، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: ” يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ _ يعني يبقى في قلب الرجل أثراً يسيراً للأمانة _ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ _ أثر قليل جداً حتى وكأن الأمانة فقدت من القلوب _ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِراً، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِيناً، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ”، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِى أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِماً رَدَّهُ الإِسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلاَناً وَفُلاَناً “(متفق عليه)، والحديث يصور انتزاع الأمانة والمسئولية من القلوب الخائنة تصويرا محرجا فهى كذكريات الخير فى النفوس الشريرة ٬ تمر بها وليست منها ٬ وقد تترك من مرها أثرا لاذعا. بيد أنها لا تحيى ضميرا مات ٬وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته ٬ غير مكترث بكفر أو إيمان؟!
ثانياً: التعود والتنشئة على تحمل المسئولية وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أسامة بن زيد على يديه، ثم في سن السابعة عشرة يكلفه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش فيه أبو بكر وعمر، وينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه وينفذ أبو بكر بعث أسامة فيتحمل المسؤولية ويمضي في مهمته ويعود منها محققا الغاية التي من أجلها أرسل الجيش ؛ وتعجب حين تعلم أن الصحابة كانوا يقولون بعد ذلك: ما رأينا أسلم من بعث أسامة؛ ذلك أن الله تعالى قد حفظ أفراد الجيش حتى رجعوا سالمين!!
ويجلس عن يمينه – صلى الله عليه وسلم- يوما الغلام عبد الله بن عباس، وعن يساره أبو بكر فيشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم يستأذن ابنَ عباس أن يناول الإناء الصديق يقدمه عليه فيرفض ابن عباس أن يؤثر بنصيبه من رسول الله أحداً، وإن كان يكبره في السن والفضل، فيتربى الغلام على المسئولية والشجاعة الأدبية والجرأة في الحق، وهكذا حتى يصير حبر الأمة وترجمان القرآن.
وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان عمره إحدى عشرة سنة تقريبًا حين قَدِم النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – المدينة ، وكان يحضر مجالس الكِبار ويحضر مُناسبات المسلمين في المدينة، فلمَّا كبر أصبح علَمًا من أعلام المسلمين.
إذن تبدأ المسؤولية والأهمية من الأسرة، فالأسرة التي تربي أبناءها وتنمي قدراتهم وتغرس في نفوسهم حب الخير وحب الناس وحب العمل وحب الوطن والتمسك بالأخلاق والشمائل الإسلامية، والدفاع عن الوطن من الأعداء والحاسدين، إنما هي تقوم ببناء المجتمع.. أما تلك الأسرة التي لا تهتم بأبنائها ولا تنشئهم تنشئة اجتماعية سليمة، إنما هي تهدم المجتمع!!
ثالثاً: السعي لحسن الذكر في الدنيا, وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة ومنها الأمانة؛ فالرجل المسامح الهين اللين المشهور بحسن خلقه بين الناس؛ يحظى بشهادة الناس له عند موته ويكثر المصلون على جنازته فيكون ذلك سبباً في وجوب الجنة له. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ” مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ . قَالَ عُمَرُ: فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ!!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ” ( متفق عليه واللفظ لمسلم )
رابعاً: تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.
لأن الذى تولى أمراً من أمور المسلمين فخانهم فقد عرض نفسه لغضب الله وعقابه في الآخرة.
خامساً: الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع الأمانة.
سادساً: تبادل وجهات النظر والحوار وعقد الندوات، والتعريف بأهمية المسئوليات المناطة بكل فرد من أفراد الأمة؛ لأن هذا في شأنه أن يرفع مستوى الوعي السياسي والثقافي بين أبناء مجتمعنا.
هذه هي الوسائل التي يمكن من خلالها استشعار المسئولية والقيام بها على أكمل وجه كما أراد الشارع الحكيم .
العنصر الرابع: واجبنا نحو المسئولية المجتمعية
عباد الله: اعلموا أن المسئولية المجتمعية خطيرة؛ فاتقوا الله فيما أسند إليكم من مسئوليات؛ واعموا أنكم واقفون ومسئولون عن ذلك فماذا أنتم قائلون؟!! ” قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: أتعرف تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقى أُخِذت بما مضى وما بقي” . (حلية الأولياء ؛ وجامع العلوم والحكم)
فنحن مسؤولون أمام الله عن بيوتنا, وزوجاتنا, وأولادنا, وفتياتنا، فعلينا أن نعنى بهم، والأب عندما يعتني بأولاده وهم صغار, ينشؤون على طاعة الله، فإذا أهملهم صغاراً, لا يستطيع أن يقودهم كباراً، الأمر يخرج من يده وانتهى، والحسرة التي تملأ قلب الأب الذي أهمل ولده صغيراً فانحرف، ولا يقوى على تربيته كبيراً، هذه الحسرة لا يعرفها إلا من ذاقها .
الرجل مسؤول في بيته عن أهله في القوامة والنفقة والرعاية، وسيُسأل عنهم: هل أدَّى حقَّهم وقام بواجبهم أو لا؟
المرأة مسؤولة في بيت زوجها في الحفاظ على أمانة الزوج وأسراره، ورعاية البنين وتربيتهم التربية الصالحة.
المعلِّم مسؤول في مدرسته عن طلابه مِن خلال التوجيه الحسن، وبذل النُّصح والتعليم.
الموظف مسؤول في دائرته عن رعاية حقوق المراجعين، وعدم التفريط في وقته.
الإمام مسؤول تجاه رعيته ومَن يَحكُمُهم؛ بأن يقيمَ بينهم العدل، ويحكم بينهم بالسوية.
أيها المسلمون: والله إنكم مسئولون عن أسركم وأولادكم وأزواجكم وجميع أعمالكم يوم القيامة؛ وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” ( متفق عليه) وقال أيضاً : ” إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاهُ ، أحفظَ أم ضيَّعَ ؟ حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيتِه “( النسائي وابن حبان) ” قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه ، وما هو تحت نظره ، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه ، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته .” (شرح النووي).
ويقول ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة، قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق. وكما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] ، ويقول أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] ، فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم. فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً. كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال الولد: «يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً».
أحبتي في الله: عليكم إصلاح أولادكم؛ والقيام عليهم؛ والصبر والتصبر في تعليمهم وتعويدهم على الطاعة؛ واحفظوهم من الضياع مع الشباب الفاسد الطائش؛ يقول الإمام الغزالي رحمه الله في رسالته أنجع الرسائل: «الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه؛ نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدِّب، وإن عوِّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له». فأولادكم أمانة في أيديكم وستسألون عنهم فماذا أنتم قائلون؟!!!
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،،
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
جميل جدا اللهم بارك الله فيك