خطبة بعنوان ” الإسراف والتبذير ” بقلم : د . أسامة فخري الجندي
الإسراف والتبذير
بقلم : د. أسامة فخري الجندي
إن القارئ المتعمق في كلام الله عز وجل ، والذي يحاول بما أوتي من تأمل وتدبر أن يفهم مراد الله عز وجل من كلامه ، سيدرك ان الله سبحانه قد وضع لنا قائمتين ، بيّن لنا من خلالهما من يحبهم ومن لا يحبهم ، فهناك قائمة تحت عنوان هؤلاء يحبهم الله ، بيّن الله لنا من خلالها وفي ثنايا الآيات من يحبهم ، فهو سبحانه يحب المتقين ، ويحب المتوكلين ، ويحب المحسنين ، ويحب التوابين … وهكذا …
وفي القائمة الثانية التي تأتي تحت عنوان هؤلاء لا يحبهم الله ، بيّن الله لنا من خلالها ومن ثنايا الآيات من لا يحبهم ، فهو سبحانه لا يحب الظالمين ، ولا يحب المفسدين ، ولا يحب المسرفين ، وهكذا …..
ونحن اليوم على لقاء مع واحد من قائمة من لا يحبهم الله وهم المسرفون ، وغايتنا أن نصل إلى واحد ممن يحبهم الله كالمتقين والمحسنين والتوابين …
قد يرد على الذهن أن الإسراف والتبذير بمعنى واحد ، إلا أن لكل واحد منهما معنى يختلف عن الآخر ، وحتى نضع ضابطًا عامًّا نقول : إن الإسراف يكون في المباحات ، والتبذير يكون في المحرمات .
وحتى يصل معنى الإسراف نضرب هذا المثال : تخيل أن رجلا تتكون أسرته من خمسة أفراد ، وأراد أن يأتي لهم بكيس من الفاكهة ، هو يعلم أن الحاجة التي تكفي كل واحد منهم من الفاكهة ثمرتان ، فأتى بكيس من الفاكهة به عشرة ثمرات ، إذن الاعتدال هنا أن يأخذ كل فرد ثمرتين ، فإذا وجدنا أحد أفراد الأسرة أخذ ثلاثة ، فهو أولا أخذ ما يزيد على حاجته ، وحرم غيره من حقه …هذا هو الإسراف .
فالإسراف تجاوز وزيادة وأخذ حاجة ليست ضرورية لقوام حياتك ، فكل أمر زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة يسمى (( إسراف )) .
إن المتأمل لكلام نبيّنا صلى الله عليه وسلم يجده يعطينا السمت العام للنبوة ، ولست أقصد نبوة سيدنا رسول الله على وجه الخصوص ، وإنما السمت العام لسائر الأنبياء والمرسلين ، حين يقول صلى الله عليه وسلم : ” “السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة” أخرجه الترمذي في سننه
يعني : من أروع ما في حياة المسلم الاقتصاد ، يأكل أكل معتدل ، يلبس لبس معتدل ، يستهلك المواد استهلاك معتدل ، إنه إن استهلك الأمور استهلاكاً معتدلاً ، أتاح لغيره أن يأكل ، أتاح لغيره أن يشرب.
السمت الحسن -يعني: هيئة مقبولة.
المؤمن سفير الإسلام ، كل سفير دولة يعتني بهندامه ، يعتني بشعره ، يعتني بمظهره ، يعتني برائحته ، يكثر الاغتسال حتى يبدو في صورة بهية ، المسلم الحقيقي سفير الإسلام .
والتؤدة: الاعتدال، والتوازن: عدم التسرع، الهدوء.
وأما الاقتصاد فإليك النماذج النبوية التي تبين ذلك :
1- يُروى: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- توضأ من قعب، –قعب يعني إناء-، ففضلت فضلة، فقال عليه الصلاة والسلام: “ردوها في الماء، ردوها في النهر، ينفع الله بها قوماً آخرين“
ولاحظ هنا ان الذي يتوضأ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي أنه الوضوء الذي يتسم بالكمال والتمام ، فحاشا لرسول الله أن يسرع في وضوءه ، أو أن يسرق في وضوءه ، أو ألا يتم غسل أو مسح عضو من أعضاء الوضوء ، فهو الوضوء الذي يتسم بالكمال والتمام والشمول ، ومع ذلك يتوضأ في إناء صلى الله عليه وسلم ، ويتبق بعض الماء ، فكيف فكر رسول الله فيما تبقى من ماء ؟ هل قام بإراقة ما تبقى على الأرض ؟! هل قال في نفسه لا أريد أن أبقي شيء واستخدمه استخدامًأ آخر ؟!
لا ، إن رسول الله قال : ” ردوها في النهر، ينفع الله بها قوماً آخرين ”
نحن نلمح الآن أناساً كثيرين، من أجل أن يكتب رقم هاتف، يأخذ ورقة بحجم كبير، يكتب رقم هاتف عليها، ثم يرميها بالمهملات، هذه ورقة لها ثمنها ، فهذا استهلاك المواد بشكل غير مُرشَّد ، هذا ليس من الدين. فما بالنا بالمياه ونحن نعاني ما نعانيه الآن ؟؟؟!!!
إننا نرى اليوم طعاماً يلقى في القمامة ، أشعر أننا ننتظر من الله الغضب ؛ لأن الناس جائعون، تلقي الطعام في القمامة ؟ وهناك جائعون ، وهناك محتاجون … أين نحن منهم ؟ ولم الإسراف في الطعام إلى حد أن نلقي الفائض في القمامة ؟؟!!
نعم لقد وضع الإسلام لنا منهجًا في الطعام ، يرسم لنا الطريق المعتدل الذي يحفظ للمرء سلامته وصحته، ويحميه من أمراض الطعام والتُّخْمة ، قال تعالى:{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأعراف: 31]
فقد علَّمنا الإسلام أن الإنسان إذا أكل وشرب على قَدْر طاقة الوقود الذي يحتاجه جسمه لا يشتكي ما يشتكيه أصحاب الإسراف في المأكل والمشرب.
والمتأمل في حال هؤلاء الذين يأكلون كلّ مَا لَذَّل وطاب، ولا يَحْرمون أنفسهم مما تشتهيه، حتى وإن كان ضاراً، نرى هؤلاء عند كِبَرهم وتقدُّم السِّنِّ بهم يُحْرمون بأمر الطبيب من تناول هذه الملذّات، فترى في بيوت الأعيان الخادم يأكل أطيب الطعام ويتمتع بخير سيده، في حين يأكل سيده أنواعاً محددة لا يتجاوزها، ونقول له: لأنك أكلتها وأسرفتَ فيها في بداية الأمر، فلا بُدَّ أنْ تُحرَم منها الآن.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ” كُلُوا واشربوا وتصدقوا، والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة”
وأيضاً من أسباب السلامة التي رسمها لنا المنهج القرآني، ألاَّ يأكل الإنسان إلا على جوع، فالطعام على الطعام يرهق المعدة، ويجرُّ على صاحبه العطب والأمراض، ونلاحظ أن الإنسان يجد لذة الطعام وحلاوته إذا أكل بعد جوع، فمع الجوع يستطيب كل شيء ولو كان الخبز الجاف.
2- يروى: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جاءه سائل، فدله على أحد أصحابه، هذا السائل ذهب إلى هناك، رأى هذا الصحابي الجليل يجمع ما تناثر من حبات القمح، قال: ” هذا بهذا الحرص، أيعقل أن يعطيني شيئاً لم يسأله؟ عاد إلى النبي قال: اذهب إليه، وقال له: أعطني مما أعطاك الله، ذهب إليه ثانية، هذا الإنسان لا يعطي عطاء عريض، حريص جداً، يجمع حبات القمح المتناثرة، المرة الثالثة: ذكر له ما قاله النبي، قال: دله على قطيع من الإبل، قال: خذ أياً شئت، فأخذ إحدى الإبل، مشي وراءها عدد كبير، قال له: كله لك، هذا السائل اختل توازنه، كيف يعطي هذا العطاء، ويجمع هذا الجمع؟ فقال له الصحابي الجليل: نجمع هكذا، لينفق هكذا” …… إذا الإنسان أنفق باعتدال، إذا وجد معه مدخرات، وظفها في الحق، يبلغ بها أعلى درجات الجنة، ينفق باعتدال.
3- وقد جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الوضوء، فأراه الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى وظلم” النسائي وأحمد
4- قال عليه الصلاة والسلام: “كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة” أخرجه البخاري
5- وذكر ابن سعد في الطبقات أن رسول الله قال للسيدة عائشة : “يا عائشة إذا أردت اللحوق بي، فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، ولا تستخلقي ثوباً حتى تسترقعيه.
أحياناً: يعني في خطأ باللباس، يُلقى، صلحه، والبسه …….
أحياناً: مسمار دخل ببدلة، ثمنها مثلاً خمسة آلاف، عشرة آلاف، لسبب بسيط يلقيها جانباً، لا ارثيها، وتابع لبسها-. ولا تستخلقي ثوباً حتى تسترقعيه، وإياك الدخول على الأغنياء))
أما المبذرون :
مفهوم التبذير : } وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً { [الإسراء: 26]
كما قال تعالى في آية أخرى:{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأنعام: 141]
فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية، بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها، وتكون المسافة بين البذور متساوية.
وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه، أما إنْ بذرَ البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة، فهي كثيرة في مكان، وقليلة في مكان آخر، وهذا ما نُسمِّيه تبذيراً، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فَيُعاق نموّها.
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.
إذن: التبذير: صَرْف المال في غير حِلِّه، أو في غير حاجة، أو ضرورة.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
قوله: { إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.. } [الإسراء: 27]
أي: أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والإسراف، فإنْ كان المبذّر قد أسرف في الإنفاق ووَضْع المال في غير حِلِّه وفي غير ضرورة. فإن الشيطانَ أسرف في المعصية، فلم يكتفِ بأن يكون عاصياً في ذاته، بل عدّى المعصية إلى غيره وأغوى بها وزيّنها؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقوله: { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } [الإسراء: 27]
ليس كافراً فحسب، بل (كفور) وهي صيغة مبالغة من الكفر؛ لأنه كَفر وعمل على تكفير غيره.
كتبه : د. أسامة فخري الجندي