خطبة استرشادية بعنوان: أنواع الفتنة في القرآن الكريم وسبل الوقاية منها، للدكتور خالد بدير
خطبة استرشادية بعنوان: أنواع الفتنة في القرآن الكريم وسبل الوقاية منها ، بتاريخ: 23 جماد آخر 1442هـ – 5 فبراير 2021م
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: دلالة لفظ الفتنة في القرآن الكريم
العنصر الثاني: أنواع الفتن
العنصر الثالث: سبل الوقاية والعصمة من الفتن
المـــوضــــــــــوع
الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره ؛ ونؤمن به ونتوكل عليه ؛ ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد:
العنصر الأول: دلالة لفظ الفتنة في القرآن الكريم
عباد الله: إن الفتنة سنة كونية في هذه الحياة، لا تخلو منها حياة الأمم والأفراد على حد سواء .
ولفظ (الفتنة) ورد في القرآن الكريم في ستين موضعًا؛ ورد في ستة وثلاثين موضعًا بصيغة الاسم، من ذلك قوله تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } (البقرة:191)، وورد في أربعة وعشرين موضعًا بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا } (النحل:110).
والأصل اللغوي لمادة (فتن) يدل على ابتلاء واختبار. وأصل الفتن: إدخال الذهب النار؛ لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في اختبار الإنسان ليعلم الصالح من الطالح .
هذا هو الأصل اللغوي لمادة (فتن)، أما المعاني التي ورد عليها هذا اللفظ في القرآن الكريم فهي عديدة، منها:
– الفتنة بمعنى (الابتلاء والاختبار): من ذلك قوله تعالى: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } (العنكبوت:2)، معناه: أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي ويختبر عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان. ونحو ذلك قوله سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35).
– الفتنة بمعنى (الشرك): من ذلك قوله تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } (البقرة:191)، أي: الشرك بالله أعظم من أي فعل آخر. نُقل هذا عن عدد من التابعين. ومن هذا القبيل قوله سبحانه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة:193)، أي: حتى لا يكون شرك، كما قاله غير واحد من المفسرين.
– الفتنة بمعنى (الكفر): من ذلك قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } (النور:63)، قال الطبري: الفتنة ها هنا: الكفر. ونحو قول الطبري قال ابن كثير. وقال بعض المفسرين: (الفتنة) في الآية بمعنى (العقوبة في الدينا). وقيل غير ذلك.
– الفتنة بمعنى ( أذى الناس ): من ذلك قوله تعالى: { فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (العنكبوت:10)، قال البغوي: أي: جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة. ونحو ذلك قوله عز وجل: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا } (النحل:110)، أي: عُذبوا ومُنعوا من الإسلام.
– الفتنة بمعنى (التعذيب بالنار): من ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (البروج:10)، قال ابن عباس وغيره: حَرقوا. ومنه قوله: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } (الذاريات:14)، قال مجاهد: حريقكم.
– الفتنة بمعنى (القتل): من ذلك قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } (النساء:101)، قال البغوي: أي: يغتالكم ويقتلكم. ونحوه قوله تعالى: { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } (يونس:83)، أي: يقتلهم.
– الفتنة بمعنى (العدول عن الحق): من ذلك قوله تعالى: { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } . (المائدة:49)، قال الرازي: أي: يردوك إلى أهوائهم؛ فإن كل من صُرف من الحق إلى الباطل فقد فُتن. ومنه قوله عز وجل: { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }. (الإسراء:73).
– الفتنة بمعنى (الضلالة): قال تعالى: { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } (المائدة:41)، قال الشوكاني: أي: ضلالته.
– الفتنة بمعنى (الحُجَّة والمعذرة): من ذلك قوله تعالى: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } (الأنعام:23)، أي: لم تكن حجتهم ومعذرتهم إلا قولهم: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }، قاله ابن عباس.
– الفتنة بمعنى (الجنون): من ذلك قوله تعالى: { بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ } (القلم:6)، أي: بأيكم الجنون، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الطبري، على اعتبار كون {المفتون} بمعنى (الفتون)، من باب حمل اسم المفعول على معنى المصدر. وكون (الجنون) فتنة؛ من جهة أن العدول عن سبيل أهل العقول هو محنة وفتنة.
والخلاصة: أن الفتنة في القرآن الكريم جاءت على وجهين:
الأول: الفتنة من الأَفعال التي تكون من الله تعالى على وجه الاختبار والابتلاء والامتحان للعبد على سبيل الحكمة.
الثاني: الأفعال التي تكون من العبد؛ كالبليّة والمصيبة، والقتل، والتخريب والوقيعة والعذاب ونحوه من الأَفعال المكروهة؛ التي تؤدي إلى الفساد والدمار والهلاك فهي مذمومة؛ فهناك علاقة وثيقة بين الفتنة والفساد في الأرض.
العنصر الثاني: أنواع الفتن
عباد الله: الفتن أنواع كثيرة وعديدة من خلال القرآن والسنة ؛ نذكر منها ما يمس واقعنا المعاصر ومن ذلك:
أولًا: فتنة الأموال والأولاد: قال تعالى: { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي: اختبار وابتلاء من الله لخلقه. ليعلم من يطيعه ممن يعصيه؛ فالله أنعم عليك بالمال؛ وبين لك طرق الحلال لتسلكها؛ وطرق الحرام لتجتنبها؛ فعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ ” . ( أحمد والترمذي والحاكم وصححه ) .
والمال سلاح ذو حدين يبني ويدمر ؛ فقد يكون سببًا في سعادة الإنسان ، إذا اكتسبه من حله ؛ واستثمره في حله ؛ وأنفقه في حله؛ فيؤجر عليه ويكون من الصدقات الجارية وفي موازين حسناته في الآخرة ؛ فَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». ( مسلم).
وفي المقابل قد يكون المال سببًا في شقاء الإنسان وإيجاد قطيعة بين الوالد وولده ، أو بين الأخ وأخيه ، أو بين الصديقين ، مما يكدر صفو الحياة ، ويحدث نتائج خطيرة في الأسرة والمجتمع؛ فيكون صاحب المال في شقاء دائم في الدنيا والآخرة؛ وفي هذا الصنف يقول صلى الله عليه وسلم : ” تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ؛ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ؛ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ ” . (البخاري) .
ثانيًا: فتنة النساء: وذلك لأن الرجل ميال بطبعة إلى المرأة ؛ فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ” . ( البخاري ومسلم ) . فالمرأة من أشد الفتن على مر العصور ؛ وكم من رجال وقعوا في حبال شباك صيد فتنة النساء فدمرت بيوت وشرد أطفال ؛ يقول ابن بطال: ” فالمحنة بالنساء أعظم المحن على قدر الفتنة بهن، وقد أخبر الله مع ذلك أن منهن لنا عدوا، فينبغي للمؤمن الاعتصام بالله، والرغبة إليه في النجاة من فتنتهن، والسلامة من شرهن، وقد روى في الأثر أنه لما خلق الله المرأة فرح الشيطان فرحًا عظيمًا، وقال: هذه حبالتي التي لا يكاد يخطئني من نصبتها له “.
ثالثًا: فتنة الشيطان: فنحن نعلم أن الشيطان أقسم على غوايتنا وفتنتا ؛ { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ( ص : 82 ؛ 83 ) . فإبليس يبعث جنوده لفتنة العباد؛ وأقربهم منه أكثرهم فتنة؛ فعَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ” إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ – أَوْ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ – وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ أَنْتَ “، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ مَرَّةً: فَيُدْنِيهِ مِنْه ” . (مسلم) .
رابعًا: فتنة القبر : والمتمثلة في الأسئلة الثلاثة وأجوبتها؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : ” لَقدْ أُوحِيَ إليَّ أنَّكمْ تُفتَنُونَ في قُبورِكمْ ، مِثلَ أوْ قرِيبًا من فِتنةِ المسيحِ الدَّجالِ ، يُؤتَى أحدُكمْ فيُقالُ لهُ : ما عِلْمُكَ بِهذا الرجلِ ؟ فأمّا المؤمِنُ أوِ المُوقِنُ ، فيَقولُ : هوَ مُحمدٌ رَسولُ اللهِ ، جاءَنا بِالبيِّناتِ والهُدَى ، فأجَبْنا وآمَنّا ، واتَّبَعْنا ، هوَ مُحمدٌ ( ثلاثًا ) ، فيُقالُ لهُ : نَمْ صالِحًا ، قدْ علِمْنا إنْ كُنتَ لَمُوقِنًا به ، وأمَّا المنافِقُ أو المُرتابُ ، فيَقولُ : لا أدْرِي ” . ( البخاري ومسلم ) .
خامسًا: وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة: وهذه فتنة كبرى أدى سوء استخدامها إلى دمار وخراب كثير من البيوت؛ وهذه الفتنة من علامات الساعة المذكورة في الحديث؛ فعن عوف بن مالك قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَة..ِ مَوْتِي؛ ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ؛ ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ؛ ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ؛ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَة،ً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا.( البخاري) . والمراد هنا قوله: (ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ) قال بعض أهل العلم: أنها شبكة المعلومات الدولية ( النت ) ؛ وشبكة الدش ( التلفاز ) وما يماثلهما .
سادسًا: فتنة المسيح الدجال: الذي أمرنا بالتعوذ من فتنته في كل صلاة؛ فما معه من الشبه يفتن ضعاف الإيمان . ففي حديث النواس بن سمعان: “يأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له؛ فيأمر السماء فتمطر والأرض فَتُنْبِتُ ؛ فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضروعا وأَمَدَّهُ خواصر ؛ ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم؛ ويمر بالخَرِبَةِ فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كَيَعَاسِيبِ النحل؛ ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلَتَيْنِ رمية الغرض؛ ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ” . ( مسلم ).
هذه هي أنواع الفتن ؛ فما السبيل إلى الوقاية والعصمة منها؟! هذا هو عنصرنا التالي إن شاء الله تعالى.
العنصر الثالث: سبل الوقاية والعصمة من الفتن
عباد الله: إن سبل الوقاية والعصمة من الفتن كثيرة وعديدة منها :
أولًا: كثرة الدعاء والاستعاذة بالله من الفتن:
فالدعاء أقوى سلاح للوقاية والعصمة من الفتن؛ ولنا القدوة في نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان دائما يدعو ربه قائلًا : ” نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ ” .( البخاري ) . وأمرنا بذلك فقال: ” تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ” . ( مسلم ) . فــ ” اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ “. ( أحمد والحاكم وصححه ) . ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ ” . ( أحمد والحاكم وصححه ) . وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ:” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ “. ( متفق عليه ) .
ثانيًا: المداومة على الأعمال الصالحة:
فعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ “. ( البخاري ) . وعن ْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ؛ أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا” .( مسلم) . فالرسول صلى الله عليه وسلم حث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة عند حلول الفتن من صلاة وصيام وصدقة وبر وأداء للحقوق الواجبة عليك وصلة الرحم وقراءة القرآن وغيرها من الأعمال الصالحة .
ثالثًا: اعتزال الفتنة والبعد عنها:
فعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ » . ( البخاري ومسلم ) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: “وفيه التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها ، وأن شرها يكون بحسب التعليق بها “. ( فتح الباري) .
وفي الحديث : ” إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ…” ( أبو داود والطبراني في الكبير بسند صحيح ) .
رابعًا: نكران القلب للفتن:
وذلك بأن يقوم القلب النقي بتنقية الفتن ونكرانها؛ فَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا؛ فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.”(مسلم). “مربادًا: أي مخلوطاً حمرة بسواد ، كالكوز مجخيًا: أي كالكأس المنكوس المقلوب الذي إذا انصب فيه شيء لا يدخل فيه. قال القاضي عياض: ليس تشبيهه بالصفا بياناً لبياضه، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس”.[شرح النووي].
خامسًا: التمسك بسبل النجاة:
وهي الواردة في الحديث النبوي الشريف؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: ” أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ؛ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ؛ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ “(الترمذي وحسنه).
سادسًا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم:
فعن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: ” كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: « نَعَمْ » . قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ :« نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ » . قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ: « قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ » قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ : « نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ: « هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا » قُلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ: « تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ » . قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» . ( البخاري ومسلم ).
سابعًا: الصبر والمجاهدة عند وجود الفتن: فعليك أخي المسلم أن تعمل جاهدًا صابرًا عن المعاصي والمحرمات في زمن الفتن؛ وأن تذل نفسك وتقهرها عن فعل المنكرات؛ إنك إذا فعلت ذلك – مع ما يحيط بك من فتن ومغريات – فسيكون لك أجر خمسين من صحابة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عتبة بن غزوان ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن وراءكم أيام الصبر ، المتمسك فيهن يومئذ بمثل ما أنتم عليه له كأجر خمسين منكم » ، قالوا : يا نبي الله ، أو منهم ؟ قال : « لا ، بل منكم » ، قالوا : يا نبي الله ، أو منهم ؟ قال : « لا ، بل منكم » ثلاث مرات ، أو أربعا .” وفي رواية بزيادة: ” إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم ولا يجدون ” ( أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه والطبراني واللفظ له ).
فالأجر مضاعف مع كثرة الفتن والشهوات التي نعيش فيها الآن؛ فكلما كثرت الشهوات والفتن وتغلب العبد عليها كلما كان أكثر أجراً عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: “ العبادة في الهرج كهجرة إليَّ ” [مسلم] .
قال الإمام النووي: ” المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس ، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ، ويشتغلون عنها ، ولا يتفرغ لها إلا أفراد .” . ( شرح النووي) .
فهنيئاً لكل من يصبر عن المعاصي وسط هذه الفتن والشهوات؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :” يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ” . ( أحمد والترمذي ).
فنحن في هذا الزمان تحيط بنا أعوان المعاصي والشهوات؛ من الدش والنت والفيس والنساء العاريات ……..إلخ ؛ وكلما تمسك الإنسان بدينه وصبر عن المعاصي في وسط هذه الشهوات؛ تضاعف له الأجر حتى يصل إلى أجر خمسين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم!!
وأخيرًا: كيف يعرف الإنسان أنه وقع في الفتنة أم لا ؟
أختم هذا الحديث عن الفتن بهذا الأثر عن حذيفة رضي الله عنه – الفقيه بالفتن وما ورد فيها- كما جاء عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، أنه قال : ” إذا أحب أحدكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؛ فلينظر فإن كان رأى حلالاً كان يراه حراماً فقد أصابته الفتنة ، وإن كان يرى حراماً كان يراه حلالاً فقد أصابته الفتنة “أ.هـ
فمن الفتن التي لا يعلمها كثير من الناس التقلب في الدين والرأي على غير هدى وبصيرة؛ فمرة يؤيد الحق وأهله ؛ ومرة يؤيد الباطل وأهله ؛ والمهتدي من هداه الله؛ والمعصوم من عصمه الله .
نسأل الله أن يثبت قلوبنا على الإيمان؛ وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن …
الدعاء،،،، وأقم الصلاة،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي