القمة العربية أمة ورجالا ، لوزير الأوقاف
لا شك أن الأمة العربية أمة ذات تاريخ حضاري عريق ، وأنها أمة نجيبة ولاّدة ، وأنها قد تمرض لكنها لا تموت ، وقد صمدت أمام أعتى الأمم وأقسى المحن ، استطالت عليها دول عظمى قديمًا وحديثًا من فارس والروم ، إلى التتار ، إلى الاستعمار البغيض في القرنين الماضيين ، لكن كل الغزاةٍ كانوا إلى زوال وانكسار ، وكما قال حافظ عن مصر في قصيدته الرائعة ” مصر تتحدث عن نفسها ” :
كم بغت دولةٌ عليَّ وجارتْ ثم زالت وتلك عُقبى التعدّي
ما رماني رامٍ وراح سليـــمًا من قديمًا عناية الله جُنــدي
فقد عرفت أمتنا العربية عبر تاريخها حضارة عظيمة سادت العالم وأضاءت ربوعه قرونًا طويلة ، وإنَّ أبناءَها لقادرون على مواصلة المسيرة لو أن الله عز وجل هيَّأ لهم من أمرهم رشدًا ، وأخذوا بأسباب الحياة والتقدم والرقي ، من العلم والعمل والإتقان ، والحفاظ على مكارم الأخلاق ، التي تستمد حضارتنا خصوصيتها الكبرى والأهم منها ، ولا سيما لو وحدنا صفنا واجتمعنا على كلمة سواء لصالح ديننا وأوطاننا وأمتنا .
وقد أعربت عن تفاؤلي بهذه القمة العربية التي اعتبرتها استثنائية وخاصة ، حيث ظهرت بوادر الوحدة العربية والرغبة القوية فيها قبل انعقاد القمة ، وكانت الأجواء مواتية نظرًا للمخاطر التي تُهدد جميع دول المنطقة في كيانها وأصل وجودها ، وإحساس جميع القيادات والشعوب بالخطر الداهم المتربص بنا ، وكانت البداية في المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ حيث وقفت القيادات العربية الحكيمة وقفة رجل واحد إلى جانب المصلحة العربية بإعلانها الوقوف بقوة وبوضوح إلى جانب الشقيقة مصر ، التي أعلنت هي الأخرى أنها قادرة على رد الجميل ، وأنها تقدر للأشقاء وقفتهم التاريخية ، وأنها تدرك أن أمنها من أمن أمتها ، وأن كيانها واستقرارها مرتبط بالحفاظ على كيان هذه الأمة واستقرارها ، وأن الأمن القومي العربي كيان واحد لا يقبل التجزئة .
وفي القمة العربية ردّد سيادة الرئيس / عبد الفتاح السيسى رئيس الجمهورية ” تحيا الأمة العربية ” ثلاث مرات ، مما هزَّ مشاعر الحاضرين والمتابعين جميعًا ، وأرسل رسالة هامة للعالم كله مفادها أن هناك مولدًا وتاريخًا جديدًا لمجلس جامعة الدول العربية يشق طريقه وبقوة من شرم الشيخ نحو العالمية ، لتشهد الجامعة العربية بعدها روحًا جديدة تتهيّأ لتكوين القوة العربية المشتركة التي تهدف إلى صيانة أمن الأمة العربية وكرامتها وحماية أرضها وعرضها وترابها ومقدراتها ، وترد كيد الطامعين في خيراتها و المتربصين بها في نحورهم .
وقد أشرتُ قبل انعقاد القمة إلى مدى الآمال والتطلعات التي تعلقها الشعوب العربية على هذه القمة ، وهى آمال عريضة واسعة ، وبصفتي مواطنًا ومثقفًا مصريًا وعربيًّا ومتابعًا جيدًا منذ سنوات طوال للشأن السياسي ، والاقتصادي ، والثقافي ، والمجتمعي ، فإن الشعوب العربية لم تكن في العشرين سنة الماضية تعلق الكثير من الآمال على هذه القمم .
لكن هذه المرة كانت الآمال عريضة والتوقعات كبيرة ، لأن الأعمال سبقت الأقوال والاجتماعات في حادثين هامين : أولهما : الضربة النوعية التي وجهتها قواتنا المسلحة المصرية الباسلة لتنظيم داعش الإرهابي بليبيا ثأرًا لذبح واحد وعشرين مصريًّا ، والأخرى عاصفة الحزم التي فاجأت الجميع .
وقد ذكرني ذلك بموقفين تاريخيين عربيين عظيمين ، أحدهما لقائد كبير والآخر لفارس ملهم ، أما القائد العربي فهو هارون الرشيد ، حيث جاءه كتاب من نقفور ملك الروم يتهددهُ ويتوعده ، فأخذ هارون الكتاب وكتب على ظهره ” وصلنا كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع ” ، وبلا صراخ أو ضجيج أو سب أو وعيد جمع هارون قادة جيشه وأركان دولته وجهز جيشًا عظيمًا قاده بنفسه ، أرغم ملك الروم على النزول عند شروطه .
أما الموقف الثاني فهو لذلك الفتى العربي الأبي أبى فراس الحمداني ، الذي وقع يومًا أسيرًا في أيدي الروم ، فقال له أحد قادتهم : يا أبا فراس أنتم معشر العرب أهل كلام لا علم لكم بالحرب ، فأنشا أبو فراس مخاطبًا إياه :
أتزعم يا ضخــــم اللغاديــــــد أننا ونحن أسود الحرب لا نعرف الحربا
لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه فكنا بهـــــــا أُسدًا وكنـــــــت بها كلبا
بأقلامنا أجرحت أم بسيـــــــــوفنا وأســــــد الشرى سقنا إليك أم الكتبا
وقد أكد سيادة الرئيس في كلمته الختامية أن المحن تكشف عن المعادن الأصيلة لرجال هذه الأمة ، نقول : وفى مقدمتهم قادتها ، وعلى وجه الخصوص السيد الرئيس / عبد الفتاح السيسى ، وخادم الحرمين الشريفين ، وسمو أمير دولة الكويت ، وملك البحرين ، وقيادات دولة الإمارات العربية المتحدة ، الشيخ “خليفة بن زايد آل نهيان ” ، والشيخ ” محمد بن زايد آل نهيان ” ، والشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم ” ، وغيرهم من القيادات العربية التي تولي العمل العربي المشترك أهمية وأولوية ، وتنزله المحل والمستوى الذي ينبغي أن يكون فيه وعليه .
لقد أكد الخبراء والمحللون أن هذه القمة وما سبقها في شرم الشيخ باتخاذ القرار التاريخي بانطلاق عاصفة الحزم ، إنما هو انطلاق نحو نظام عربي قادر على مواجهة التحديات واتخاذ القرارات المصيرية السيادية دون استئذان أحد أو انتظار رأيه ، وبالأحرى إملاءاته المنبثقة عن مصالحه هو لا مصالح دولنا ولا منطقتنا ، وأن القوة العربية المشتركة التي ستدخل حيز التكوين قريبا بإذن الله تعالى ستكون قادرة على حماية أمننا القومي ، وإفشال مخططات تفتيت المنطقة ، وأي محاولة لتمزيقها وتحويلها إلى دويلات أو مليشيات أو عصابات ، وأن الصف العربي سيتحد لصالح شعوب الأمة جميعًا ، مع التأكيد على أننا أمة مسالمة لا تعتدي ولا تظلم ، وفى الوقت نفسه لا نقر الظلم ولا الضيم ، ولا نرضى بالخزي ولا الهوان ، فلأن نموت أعزاء خير من أن نعيش أذلاء وفى ذلك أقول :
من رامها سلما فتلك يد أو رامها حربًا فنحن رجالها
وحسبنا قول الحق سبحانه وتعالى : ” وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” ، وقوله تعالى : “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” .