كشف البلاء في شهر الدعاء ، للشيخ كمال المهدي
الحمد لله لايجِيبِ دَعوةِالمضطرِّين سواه، ولا يكشِف البلوى عن المؤمنينَ إلا إياه وصلاة وسلاما على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد :
أحبتي في الله
لا يخفى على الكثير منا اليوم ما تمر به البلاد من انتشار هذا الوباء (كورونا) الذي حل بالعالم أجمع وأصبح الناس في خوف ووجل وبخاصة بعد رؤيتهم لتزايد أعداد الإصابات والوفيات وعدم وجود علاج نهائي له فأين المهرب وأين المفر وأين الملجأ؟
!! أقولها بكل يقين أنه لا ملجأ ولا منجي من أي بلاء إلا بالرجوع إلى الله فهو جل وعلا بيده الأمر فأي مصيبة ليس لها من دون الله كاشفة ، فلا يكَشفُ الغُمَّةِ ،وَلا يرَفعُ المَقت عَنِ الأُمَّةِ، إلا الله تعالى ،قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)
* فلابد من اللجوء إليه ، وَالعَودَةِ الصَّادِقَةِ إِلَيهِ، وَتَقوِيَةِ العِلاقَةِ بِهِ، مَعَ التَّبَرُّؤِ مِن حَولِ النُّفُوسِ وَقُوَّتِهَا، وَالانصِرَافِ عَن جُهُودِ البَشَرِ وَتَدبِيرِهِم، إِلى حَولِ اللهِ وَقُوَّتِهِ ، وَتَدبِيرِهِ وَتَوفِيقِهِ، فَمَا يَجرِي عَلَى الأَرضِ شَيءٌ إِلاَّ بِقَدَرِهِ، وَلا يَرفَعُ القَدَرَ ،وَيَرُدُّ الشَّرَّ ،وَيَصرِفُ السُّوءَ ،ويعافي من الأمراض ،ويحفظنا من الأوبئة ،إِلاَّ الرجوع إلى الله بالدُعَاء ،مع الأخذ بالأسباب،
ففي سنن الترمذي :قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ” لا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ”
وصدق القائل :
أتهزأُ بالدعاء وتزدريه * وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تخطي ولكن * لها أَمَدٌ وللأمدِ انقضاءُ
*
وإن ( شهرَ رمضانَ) لفرصةٌ سانحة، ومناسبة كريمة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن شهر رمضان هو شهر الدعاء، فالناظر في كتاب الله جل وعلا يجد أن آية الدعاء جاءت في وسط آيات الصيام، حيث يقول ربنا_عز وجل_: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ).
! ففي شهر رمضان الذي نحن بصدده تُفتَح أبواب السماوات، وتكثُر الخيرات، وتتنزّل الرحمات، وذلك كلّه مَظنّة استجابة الدعوات؛ إذ يستجيب الله دعوات العباد، ويعتِق في كلّ ليلةٍ من ليالي الشهر المبارك عباده المُقبلين عليه من النار، قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ للهِ تعالى عتقاءَ في كل يومٍ و ليلةٍ، لكل عبدٍ منهم دعوةٌ مُستجابةٌ).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائم حتى يُفطِر، والإمامُ العادل، ودعوةُ المظلوم))؛ (صحيح، رواه الترمذي وابن ماجه
* لذلك كان جديراً بالمسلم الحرص على الدعاء برفع هذا البلاء وغيره في شهر رمضان المبارك، فلا ينساه، أو يغفل عنه، مع ضرورة العلم واليقين بأنّ الله -تعالى- يستجيب دعاء عبده حتماً؛ بإعطائه ما طلب، أو بادِّخار الإجابة أجراً يناله يوم القيامة، أو بصَرْف أذى، أو سوءٍ، أو بلاءٍ عنه..
ولقد أحسن من قال:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ * عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ * أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا..
** فينبغي علينا أيها الأحبة أن نعلم أن الإلتجاء إلى الله والتضرع ؛ هو منهج الأنبياء وعباد الله الصالحين؛ كما في قصة أيوب وقصة يونس عليهما أفضل الصلاة والتسليم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الأنبياء والصالحين..
**فهذا سيدنا أيوب عليه السلام:
قال الله تعالى في شأنه: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
لما نزل به البلاء والمرض علم علم اليقين أنه لا كاشف له إلا الله فتوجه إليه بالدعاء فاستجاب الله له..
قال تعالى :
( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)
** وهذا سيدنا يونس عليه السلام :
قال الله تعالى حكاية عنه: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
** وهذا طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده: (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا ً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).
فماذا كانت النتيجة؟ (فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت)
** وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه أعظم المتضرعين وأفضل المتقربين، يظل ليلة بدر داعياً متضرعاً منكسراً لخالقه جل وعلا؛
فعن عمر بْنِ الخطَّابِ رضي الله تعالى عنه قَالَ : “لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي ، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» فما زال يهتف بربِّه ، مادًّا يدَيه ، مستقبلَ القبلةِ ، حتى سقط رداؤُه عن منكبَيه”
فاستجاب الله دعائه ونصره على أعدائه قال تعالى ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
**وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يستنصر بالدعاء على عدوه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول لأصحابه: ” لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء “.
وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه..
!! فمن اُلهم الدعاء فقد أُريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)
وقال جل وعلا : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
**ولقد دعى الأنبياء والصالحين لعلمهم أنه لا كاشف إلا الله ولعلمهم أن الدعاء هو العبادة ، وهو أكرم شيء على الله، ومن أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، كما أنه سبب لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم، وهو مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين،
فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ” ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾
فلم يقل الله جل وعلا عن دعائي وإنما قال عن عبادي ليبين لنا أن الدعاء هو العبادة
* واعلم أخي الحبيب : أنك حينما تدعوا الله جل وعلا فأنت المنتفع لا محاله فالله جل وعلا كريم لا بد أن يعطيك..
فعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)
!! بل استمع إلى هذا الحديث بقلبك فوالله لو تدبرناه جيدا ما تركنا الدعاء لحظة…
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم -: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِر. قَالَ:اللَّهُ أَكْثَرُ “
*إذاثمرة الدعاء مضمونة؛ إذا أتى الداعي بشرائط الدعاء وآدابه، فإما أن تعجَّل له الدعوة، وإما أن يُدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن تُدخر له في الآخرة
فأي كرم وأي فضل أعظم من ذلك ولذك قال الصحابة لما علموا الفضل ( إذا نكثر) أي نكثر من الدعاء فقال صلى الله عليه وسلم (الله أكثر) أي أكتر في العطاء…
* وينبغي علينا أن نتحرى الأوقات والأحوال التي تكون الإجابة فيها أرجى، كليلة القدر، وجوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، وحال السجود، والصيام، والسفر، وغيرها من أوقات الإجابة.
ولنقدم بين يدي دعائنا الثناء على الله جل وعلا، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والإقرار والاعتراف بالذنب والخطيئة، فعن فضالة بن عبيد قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً، إذ دخل رجل فصلى، فقال: “اللهم اغفر لي وارحمني”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله وصل علي، ثم ادعه) رواه الترمذي.
*
فاحرص أخي الصائم على استغلال الأوقات والأحوال الشريفة في هذا الشهر المبارك، وأكثر من الدعاء لنفسك ووالديك وأولادك، وإخوانك من المؤمنين والمؤمنات،وأكثر من الدعاء لرفع البلاء وتعرض لنفحات الله، لعله أن تصيبك نفحة لا تشقى بعدها أبداً.
** أسأل الله تعالى أن يرفع الغمة عن الأمة وأن يخرجنا من هذا الوباء سالمين
**
كتبه /الشيخ /كمال السيد محمود محمد المهدي…
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية