لجنة القضايا الفقهية المعاصرة تؤكد : مشروعية الصلاة على الغائب، والاستجابة لدعوة وزير الأوقاف إليها
قتضي مستجدات الواقع في أيامنا هذه أن نبين حكم صلاة الغائب وولاية إمام المسلمين ورئيس الدولة في طلب إقامتها، حيث إن بعض الأئمة قد فهم أحكام هذا الموضوع على غير وجهه الشرعي الصحيح، وجاء تصرفه مخالفًا لما كان يتعين القيام به.
وبداية فإن الصلاة على الغائب مطلوبة ومشروعة بالسنة النبوية الصحيحة، فقد ثبت أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما توفى النجاشي ملك الحبشة، وكان ملكا صالحا عادلا وقف بجانب المسلمين المهاجرين إليه عندما كانوا مضطهدين من المشركين في مكة أول الإسلام، وآواهم وأكرم وفادتهم، فلما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوفاته أمر بالصلاة عليه، وصلى بالمسلمين إماما صلاة الجنازة وهو ميت في بلده، فكان غائبا عن محل الصلاة، وذلك هو أساس تسمية صلاة الجنازة على غير الحاضر في بلد المصلِّى:(صلاة الغائب)، ومن ثم أصبحت الصلاة على الميت الغائب مشروعة وسنة صحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقد انعقد على مشروعيتها إجماع علماء الأمة سلفًا وخلفًا، وذلك لقوله تعالى: ” وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ”(الحشر: 7)، وقوله تعالى: ” مَنْ يُطِعْ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه”(النساء: 80)، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم: [صلوا كما رأيتموني أصلي] (رواه البخاري)، وعليه تكون تلك الصلاة مشروعة بالسنة المؤيدة بالقرآن الكريم، وإجماع علماء الأمة، ومن خصائص الصلاة على الميت الغائب أنها عبادة لله عز وجل، ويشترط لصحة أدائها نية التوجه لله ـ سبحانه ـ بإقامتها، ولهذا كانت الدعوة إلى تركها بعد الأمر بها صدّا عن عبادة مشروعة لله عز وجل، ومنع المسلمين من أن يتقربوا إلى ربهم بتلك العبادة، كما أن فيها تكبيرًا وذكرًا لله، وفيها دعاء للميت الغائب ولسائر موتى المسلمين، ومن بينهم موتى الذين يؤدون تلك الصلوات، وبالتالي يكون المنع من قيامها بعد الأمر بها منعًا لعبادة الله بالذكر والدعاء الذي يتقرب به إلى الله سبحانه، كما أن في منعها ـ بعد الأمر بها ـ قعودًا عن الوفاء بحق ذوي القربى الأموات، وهم في رحاب ربهم، وظلمًا شديدًا لمن يعمل على منع تلك الصلاة لأنه حرم نفسه من الدعاء لنفسه، ومن الثواب الذي سيعود عليه من القيام بها كعبادة مطلوبة، يثاب فاعلها ثوابًا عظيمًا كما جاء في الحديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [من صلى على جنازة فله قيراط، ومن انتظرها حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان قالوا: وما هما؟ قال: القيراطان مثل الجبلين العظيمين]، (رواه مسلم وغيره)، وفي حديث آخر فسر القيراط بأنه مثل جبل أُحد وهو ما يفيد أن ثواب الصلاة على الميت الغائب له أجر كبير يضاهي في مقداره وزن جبل أُحد، ومن دعا إلى تركها فوّت على نفسه هذا الثواب، إضافة إلى أنه قد جلب لنفسه إثم الصد عن عبادة مشروعة لله عز وجل، ومنع مساجد الله أن يعبد فيها ويذكر فيها اسمه بهذه الصلاة.
ولا يجوز أن يكون الخلاف السياسي سببًا لمنع عبادة الله سبحانه لأن الوفاء بحق الله لا يجوز أن يسبقه في قلب المؤمن وعقيدته أى عمل دنيوي، حتى ولو كان هذا العمل متعلقًا بأمور الحكم والسياسة، لأن حق الله أولى، وهو مقدم في الوفاء على غيره، وذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [اقضوا الله الذي له, فإن الله أحق بالوفاء] رواه البخاري.
كما لا يجوز الامتناع عن هذه العبادة بسبب أن وزير الأوقاف هو الذي دعا إلى إقامتها، ومن ثم أشاع البعض ـ عن خطأ وعدم علم شرعي صحيح ـ أنها صلاة مبعثها السياسة، ووجه الخطأ في ذلك، أن هذه العبادة تتعلق بالموت، وتوجه أنظار المسلمين وغيرهم إلى أنها نهاية كل حى، ولهذا فإن أساسها، وسبب مشروعيتها ينافي التعلق بالدنيا ويقطع كل صلة بالأعمال الملهية عن تلك الحقيقة، حتى ولو كانت من أمور السياسة والحكم.
بل إن دعوة وزير الأوقاف للقيام بها تعتبر من الأمور الدينية والشرعية، وليست من الأمور السياسية، فمن المعلوم شرعًا أن من أهم اختصاصات ولي الأمر ورئيس الدولة بلغة العصر، المحافظة على الدين وإقامة شعائره الراتبة كإقامة الصلوات في أوقاتها وتهيئة أماكن القيام بها، وكبناء المساجد وحفظها، أو غير الراتبة مثل صلاة الاستسقاء، وصلاة الجنازة على الغائب وغيرهما، كما أنه من المعلوم شرعًا أن ولى الأمر مختص بأمور تتعلق بتدبير شئون حياة الناس في الدين والدنيا، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يمارس كافة المهام بنفسه، فكان لابد من الإنابة في تلك المهام بحيث يقوم مقامه من يسيِّر أمورها ويرعى شئونها، واستقرت السياسة الشرعية في فقهها القديم والمعاصر على أن وزير الأوقاف في الدول الإسلامية يقوم مقام إمام الدولة في هذا الاختصاص فكان ذلك من أهم شئونه.
والدعوة إلى إقامة صلاة الغائب على الميت وغيرها من العبادات غير الراتبة والتي تحتاج إلى تهيئة جميع دور العبادة للقيام بها تستلزم أمرًا من وزير الأوقاف المختص، حتى يستطيع المصلون أن يؤدوها في وقت واحد على مستوى كافة مناطق الدولة أو محافظاتها، ويكون توجيه الوزير بأداء تلك العبادة عملاً شرعيًا ضروريًا للقيام بها، ويدخل في أهم اختصاصاته الوظيفية بصفته نائبًا عن ولى الأمر، أو إمام المسلمين، أو رئيس الدولة في ذلك.
ومن الواجب على المسلمين أن يوحدوا كلمتهم في الأمور المتعلقة بعبادة الله سبحانه وتعالى، فإن الخلاف مهما وصل حدته لن يخرج أحدًا من عبوديته لربه، ولهذا لا يجوز الاختلاف في تلك المسائل التي تتدخل في باب عبادة الله تعالى وحقه. وصدق الله العظيم حين قال: ” وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيحكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّه مَعَ الصَّابِرِينَ ” (الأنفال: 46). وقوله تعالى: ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ”(آل عمران: 103) ، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
حرر الموضوع من أعضاء لجنة القضايا الفقهية المعاصرة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية:
أ.د/نصر فريد واصل أ.د/ عبد الله مبروك النجار أ.د/محمد نبيل غنايـم
الأستاذ بجامعة الأزهر الأستاذ بجامعة الأزهر أستاذ الشريعة الإسلامية
ومفتي الديار المصرية الأسبق وعميد كلية الدراسات العليا السابق بكلية دار العلوم
وعضو هيئة كبار العلماء وعضو مجمع البحوث الإسلامية جامعة القاهرة
بالأزهر الشريف بالأزهر الشريف