يعد مؤتمر الأزهر الشريف في مواجهة التطرف والإرهاب خطا فاصلا بين مرحلتين في تاريخ مواجهة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين ، هما : مرحلة ما قبل المؤتمر ، ومرحلة ما بعد المؤتمر ، فإنني على يقين أن المواجهة الفكرية للإرهاب بعد هذا المؤتمر ستختلف اختلافا جذريا ، وأنها ستخلق أجواء من البحث المستنير والحوار الهادف بصورة غير مسبوقة ، وبخاصة في بيان وتصحيح المفاهيم المغلوطة لدى كثير من شباب الجماعات والتيارات الإرهابية والتكفيرية ، وبخاصة مفاهيم الخلافة التي يجعلونها أصلا من الأصول ، بل أصل الأصول لدى بعض الجماعات المنحرفة ، وقد أكد فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب شيخ الأزهر أنه لا نزاع بين أهل العلم المعتبرين أنها أليق بالفروع وأقرب لها ، ومذهب الأشاعرة على أنها فرع لا أصل ، وذكر فضيلته ما ورد في كتاب شرح المواقف الذي يُعد أحد أعمدة كتب المذهب الأشعري ، حيث ذكر مؤلفه في شأن الإمامة أنها ” ليست من أصول الديانات والعقائد عندنا بل هي فرع من الفروع ” ، ثم علق فضيلة الإمام قائلا : فكيف صارت هذه المسألة التي ليست من أصول الدين عند أهل السنة والجماعة فاصلا عند هذا الشباب بين الكفر والإيمان ، وفتنة سُفِكَت فيها الدماء ، وخُرّب العمران ، وشُوّهت بها صورة هذا الدين الحنيف ؟!
ونؤكد أن نظم الحكم تخضع لظروف الزمان والمكان طالما أنها قائمة على مراعاة مصالح البلاد والعباد ، وأنها تهدف إلى تحقيق العدل بين الخلق ، ولا تحول بين الناس وبين أداء شعائرهم التي افترضها الله عليهم ، ولا تتصادم مع ما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة معلوما من الدين بالضرورة ، والعبرة بالغايات التي تحقق صالح البشرية ، لا بالمسميات وإن قطعت لأجلها الرءوس ، وانتهكت الأعراض ، ونهبت الأموال ، جهلا وظلما وافتراء على الله سبحانه وتعالى وعلى الناس .
وكذلك بيان أمر الجهاد الذي شرع لدفع العدوان ، لا لإكراه الناس وحملهم حملا على الإسلام ، وقد بيّن القرآن الكريم أنه لا إكراه في الدين ولا على الدين ، حيث يقول الحق سبحانه : ” لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ” (البقرة : 256) ، حيث ذكر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر في كلمته الافتتاحية أن الجهاد لم يشرع في الإسلام إلا للدفاع عن النفس والدين والوطن ، قائلا : ونحن نحفظ عن شيوخنا في الأزهر الشريف أن علّة القتال هي العدوان لا الكفر ، وأن إعلان الجهاد ومباشرته لا يجوز أن يتولاه أحد إلا ولي الأمر ، ولا يجوز لأفراد أو جماعات أن تتولى هذا الأمر بمفردها مهما كانت الأحوال والظروف ، وإلا كانت النتيجة دخول المجتمع في مضطرب الفوضى وهدر الدماء وهتك الأعراض واستحلال الأموال ، وهو ما نعانيه اليوم من جراء هذا الفهم الخاطئ المغلوط لهذه الأحكام الشرعية ، ومن هنا فإن الاعتداء على النفس الإنسانية أي كانت ديانتها أو اعتقادها أمر يحرمه الإسلام ويرفضه ، كما أن الاعتداء أو التهجير القسري أو التمييز أمور تتنافى وصحيح الدين وإجماع المسلمين .
وكذلك مفهوم الولاء والبراء ، فالبراء من الكفر لا يعني على الإطلاق سوء معاملة من لم يرفعوا علينا سلاحا ، بل على العكس فنحن مأمورون بحسن معاملتهم والإحسان إليهم ، يقول الحق سبحانه : ” لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” (الممتحنة : 8) ، وكان سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) إذا ذبح شاه قال : ابعثوا لجارنا اليهودي منها .
ونؤكد أن حضور هذه الكوكبة من العلماء والأدباء والمفكرين والسياسيين والإعلاميين لهذا المؤتمر وإقبالها عليه يعكس ثقتها الكاملة في الأزهر الشريف ، وإمامه الأكبر ، وقدرته على حمل لواء السماحة والوسطية في العالم كله ، وقدرته على مواجهة التحديات وكل ألوان التطرف والإرهاب ، والتشدد والغلو ، كما يعكس رغبة جامحة لدى جميع الحاضرين في مواجهة الإرهاب ومحاصرته ، فالجميع من مسلمين ومسيحيين ، وعلماء دين ومفكرين ، وإعلاميين ومثقفين ، وساسة ووطنيين قد عانوا أشد المعاناة من انتشار الإرهاب في منطقتنا ، فجاءوا جميعا ليقولوا بصوت عال : لا للتطرف ، لا للإرهاب ، لا للتكفير ، لا للتفجير ، لا لكل ألوان العنف أو التشدد ، فسنتصدى جميعا لكشف المؤامرات التي تحاك لمنطقتنا العربية ، كما سنصطف اصطفافا وطنيا وقوميا لمواجهة كل ألوان التطرف والغلو من جهة ، وكل العملاء والخونة والمأجورين وتجار الدين من جهة أخرى ، يقول الحق سبحانه : ” وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ” (يوسف : 21) .