خطبة الجمعة القادمة بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن للدكتور مسعود عرابي
خطبة الجمعة القادمة 30 يوينو 2023م بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن للدكتور مسعود عرابي، بتاريخ 12 ذو الحجة 1444هـ ، الموافق 30 يونيو 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م بصيغة word بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور مسعود عرابي
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م بصيغة pdf بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور مسعود عرابي
عناصر خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م ، بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور مسعود عرابي.
أولًا: حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ عن الأمنِ.
ثانيًا: دورُ الشريعةِ الإسلاميةِ في نبذِ العنفِ والتطـــرفِ.
ثالثًا: حفظُ الأمنِ واجبُ الجميعِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م ، بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور مسعود عرابي ، كما يلي:
حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ المشرفةِ عن الأمنِ
الحمدُ للهِ على مواهبِه التي لا نُحصيهَا عددًا، ولا نعرفُ لها أمدًا، حمدًا نبلغُ بهِ رضاهُ، ونستدرُّ به نُعماه، والشكرُ لهُ على منائحِه التي أولاهَا ابتداءً، ووعدَ على شكرِهَا جزاءً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدهُ ورسولهُ، الهادِي إلى السننِ الأرشد بالوحيِ الذي أوحاهُ اللهُ إليهِ، وبالكلامِ الذي أنزلَهُ عليهِ، مبلغًا لرسالتهِ، وداعيًا لعبادتِه، صادعًا بالدعاءِ إلى توحيدِه، معلنًا بتعظيمِه وتمجيدِه، ناصحًا لأمتِه وعبيدِه، اللهُمّ صلِّ عليه صلاةً ذاكيةً ناميةً، وسلمْ تسليمًا كثيرًا، وعلى آلِ بيتهِ الذين أذهبَ اللهُ عنهم الرجسَ وطهرَهُم تطهيرا.
وبعــدُ … فإنّ خطبتنَا هذه بعـــونِ اللهِ ومددهِ وتوفيقِه ورعايتِه تدورُ حولَ العناصرِ التاليةِ: أولًا: حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ عن الأمنِ.
ثانيًا: دورُ الشريعةِ الإسلاميةِ في نبذِ العنفِ والتطـــرفِ.
ثالثًا: حفظُ الأمنِ واجبُ الجميعِ.
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن :
حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ عن الأمنِ.
الأمنُ هو الشعورُ بالراحةِ والطمأنينةِ، والاستقرارِ النفسِي، وعدمِ الخوفِ مِن حدوثِ مكروهٍ في المستقبلِ، قد يقعُ على النفسِ أو المالِ أو الدينِ أو العرضِ، وهو ضدُّ الخوفِ، والأمنُ مِن الضروراتِ الحياتيةِ، والمقاصدِ الشرعيةِ، والحكمِ المرعيةِ في شريعتِنَا الغراءِ، وقد بيّنَ اللهُ ـــ تعالى ــــ في كتابهِ العزيزِ أنّ الأمنَ مِن أجلِّ النعمِ، وأتمِّ الفضائلِ على البشرِ، وأنَّه منحةٌ مِن اللهِ سبحانه وتعالى يمنحُهَا مَن يشاءُ مِن عبادِه، وينزعُهَا عمّن يشاءُ، قال تعــالى: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُـوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَـوْفٍ ﴾. [ سورة قريش ].
أي: تفضلَ عليهم بالأمنِ والرُخْصِ، فليفردُوه بالعبادةِ وحدَهُ لا شريكَ له سبحانَه وتعالى، ولا يعبدُوا مِن دونِه صنمًا، ولا ندًا، ولا وثنًا، ومَن استجابَ لهذا الأمرِ جمعَ اللهُ لهُ بينَ أمنِ الدنيا وأمنِ الآخرةِ، ومَن عصاهُ سلبهمَا منهُ جميعًا. [ تفسير ابن كثير ].
ثم بيّنَ الحقُّ سبحانه وتعالى في مواضعَ أُخر في القرآنِ الكريمِ، أنَّ الأمنَ سرُّ الرخاءِ والازدهارِ، وأنَّ الرغدَ مِن العيشِ لا يكونُ إلّا مع الأمنِ والأمانِ والطمأنينةِ، وأنَّ السرَّ في بقاءِ النعمِ على العبدِ، هو أداءُ الشكرِ، والاعترافُ بالفضلِ، والبعدُ عن الفواحشِ والمنكراتِ، قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾. [ سورة النحل 112]. في هذه الآيةِ الكريمةِ، سنةُ اللهِ في القُرَى الظالمِ أهلهَا، الشائعِ فيها كفرُ النعمِ، والفواحشُ، والآثامُ، فيذيقهَا اللهُ الخوفَ والجوعَ بعدَ الإنعامِ والأمانِ، وما ظلمَهُم اللهُ، بل أرسلَ إليهم رسولَهُ فكذبُوه، فأذاقَهُم عقوبةَ أهلِ المكرِ والإجرامِ، وقالَ بعضُ المفسرين: إنَّ المقصودَ بالقريةِ التي كانت آمنةً مكة، فقد امتنَّ اللهُ ــــ تعالى ــــ على أهلِهَا بنعمةِ الأمنِ والاستقرارِ، والناسُ يتخطفونَ مِن حولِهَا، ويلوذونَ بالفرارِ، وكان رزقُهَا يأتي أهلَهَا هينًا سهلًا مِن كلِّ البقاعِ والأرجاءِ، فلمّا جحدتْ نعمةِ اللهِ ـــ تعالى ـــ عليها، وهي بعثةُ رسولِ اللهِ ﷺ بدّلَ اللهُ أحوالَهَا، وأذاقَ أهلَهَا لباسَ الجوعِ والخوفِ، لسوءِ صنيعِهِم.
وتلك رسالةٌ للبشرِ عامةً وللمسلمين خاصةً، متى أردتُم الأمنَ والأمانَ، والرغدَ والاستقرارَ، وحسنَ المعاشِ، وطيبَ المأكلِ والمشربِ، عليكم بالعملِ الصالحِ، وشكرِ النعمِ، والاعترافِ بالفضلِ للمنعِم، تحصلُوا على خيرَيِ الدنيا والآخرةِ، فإنْ فسدتُم في الأرضِ، ونسيتُم ذكرَ اللهِ، وعاديتُم منهجَ رسولِه، وتحاكمتُم إلى غيرِ كتابِه، عمَّكُم البلاءُ والوباءُ وضنكُ العيشِ وسوءُ المنقلبِ، فعند الترمذِي وغيرِه، قال رسولُ اللهِ ﷺ: « قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ ».
ثمّ بيّنَ رسولُ اللهِ ﷺ مكانةَ هذه النعمةِ، وما يعادلُهَا مِن النعمِ الدنيويةِ، فمَن أصبحَ آمنًا في نفسِه وأهلِه ومالِه، وطريقِه ومسلكِه، فقد حوَى الدنيا بأجمعِهَا، فلا حياةَ مع الخوفِ، ولا متعةَ مع عدمِ الاستقرارِ، فعند الترمذِي وغيرِه، قال رسولُ اللهِ ﷺ: « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا ». تحريضٌ على حفظِ الأمنِ، واستشعارٌ بفضلهِ لمَن هو كائنٌ فيه، فهو نعمةٌ كبرى، وفضيلةٌ عظمَى لا يدركُ قدرهَا إلّا مَن فقدَهَا، أسألُ اللهَ العليَّ القديرَ أنْ يديمَ علينَا نعمةَ الأمنِ، وأنْ يتمهَا علينا حتى نلقاهُ، وأنْ تظلَّ بلادُنَا مصرُ في حفظهِ وأمانِه وضمانِه، وسائرَ بلادِ المسلمين، وأنْ تبقَى على حالِهَا التي قال عنهَا ربُّنَا سبحانه: ﴿ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾. [ سورة يوسف 99].
ثم خوّفَ ربُّنَا المعتدين على حدودِه، المنهمكِين في حرماتِه، القائمين على معاصِيه، ناشرِي الرعب في قلوبِ خلقِه، بأنّهم إليه عائدون، وعلى أفعالِهِم محاسبون، وعلى كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ معاقبون، فمَن عادَ فقد كفّ أذاهُ وحفظَ دنياهُ، وفازَ في أخراهُ، ومَن تعدّى وتجبرَ، وطغَى وتكبّرَ، فعاقبتُهُ وخيمةٌ، ومنزلتُهُ في التردِّي عظيمةٌ، قالَ تعالى: ﴿ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ﴾. [ سورة المطففين ].
ثم ضمنَ لهم معايشَهُم، وأقسمَ لهم عليها كي لا يبرروا الفسادَ في الأرضِ بالسعي عن الأرزاقِ،
بل جعلَ الحقُّ سبحانَه وتعالى مِن حكمِه الشرعيةِ، وسننِه المرعيةِ أنّ الطاعةَ سببُ الرزقِ، والخوفَ مِن اللهِ جالبٌ لأبوابِ الخيرِ، والعبدُ قد يُحرمُ بالذنبِ، وما عندَ اللهِ لا ينالُ إلّا بطاعتِه، فتقوَى اللهِ، وجمالُ الطلبِ بتحرِّي الكسب، مِن أسبابِ السعادةِ في الدنيا والآخرةِ.
قال اللهُ تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾. [ سورة الذاريات ].
فالرزقُ مضمونٌ، والأجلُ محتومٌ، والقيامةُ وما فيها حقٌّ، وكلُّ إنسانٍ معاقبٌ على فعلِه، وعلى هذا يُقْسِمُ تَعَالَى بِعظمتِه وجلالِه، أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ حَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، فَلَا تَشُكُّوا فِيهِ كَمَا لَا تَشُكُّوا فِي نُطْقِكُمْ حِينَ تَنْطِقُونَ. [ تفسير ابن كثير ].
ثم خوّفَ رسولُ اللهِ ﷺ الخلقَ مِن مغبةِ الفسادِ والطغيانِ، وأنّ حقوقَ الناسِ مردودةٌ، وفي السجلاتِ محفوظةٌ، وبأيدي الكرامِ البررةِ مكتوبةٌ، والشهودُ جوارحُكَ، فأين المفر، وإلى مَن الملجئُ والمستقرُّ، فإمّا عمـــــلٌ صالحٌ ينجِي وإمّا عملٌ طـــالحٌ يُردِي، فعند أحمدَ والحاكمِ وغيرهِمَا، قال رســـــولُ اللهِ ﷺ: « يَوْمَ يُحْشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ؛ أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عَلَيْهِ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مَنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلِأَحَــــــدٍ مَنْ أَهْـــلِ الْجَنَّةِ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ ». قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ ـــ عَزَّ وَجَلَّ ــــ عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا، قَالَ: « بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ».
فمتى علمَ العبدُ أنّه موقوفٌ بين يدي خالقِه، وأنَّه مسئولٌ عن أعمالِه، ومحاسبٌ على أفعالِه وأقوالِه وجميعِ أحوالِه تابَ وأنابَ، واعتبرَ بيومِ الحسابِ، وأناخَ مطاياهُ على البابِ راجيًا الثوابَ، وخشيةً أنْ تفنَى حسناتُه، ويبوءَ بالسيئاتِ وتنقطعَ بهِ الأسبابُ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن :
دورُ الشريعةِ الإسلاميةِ في نبذِ العنفِ والتطرفِ.
مِن عظمةِ شريعتِنَا الغراء، أنَّها ضبطتْ علاقةَ الفردِ مع أسرتِه، وعلاقتَهُ مع مجتمعِه وعلاقتَهُ مع غيرٍ مجتمعِه، فهي شريعةٌ غراءُ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ لا ينضبُ معينُهَا، ولا يقلُّ عطائُهَا، حتى قالوا: تبدأُ بالعلاقاتِ الزوجيةِ وتنتهِي بالعلاقاتِ الدوليةِ، فهي دائمًا تدعو إلى السِلمِ، وهو أنْ يعيشَ المرءُ سليمَ الصدرِ، بعيدًا عن الأحقادِ، مُحبًّا للخيرِ وأهلِه؛ لأنَّ الصفاتَ الذميمةَ تجعلُ المرءَ يعيشُ في همٍّ، وكربٍ، وعدمِ راحةٍ، وإنْ حازَ الدنيا بأجمعِهَا، ولا يسلمُ منه المجتمعُ ولا أفرادُهُ، وهو داءٌ عضالٌ، قال عنه رسولُ اللهِ ﷺ: « دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ». [ الترمذي وأحمد وغيرهما ].
أَيْ: نَقَلَ وَسَرَى وَمَشِيَ بِخِفْيَةٍ إليكم الحقدُ والحسدُ، وهما مِن أمراضِ الأممِ السابقةِ، والْحَسَدُ العداوةُ الْبَاطِنِةُ. وَالْبَغْضَاءُ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرةُ .. وَسُمِّيَا دَاءً؛ لِأَنَّهُمَا مِن أمراضِ الْقَلْوبِ الْقَاطِعَةِ لِلْمَحَبَّةِ وَالْأُلْفَةِ وَالصِّلَةِ بينَ الناسِ. [ مرقاة المفاتيح ].
أحبتِي في اللهِ نحن في أمسِّ الحاجةِ إلى الأمنِ والأمانِ، فقدّرُ اللهُ لنَا أنْ نعيشَ في زمنٍ كثرتْ فيهِ المعاصي، وقلَّ الورعُ، وتكالبَ الناسُ على الدنيا، وانتشرتْ الرزيلةُ، وغابتْ الفضيلةُ، وتظاهرَ العصاةُ بلا خجلٍ، وكأنهم لم يقرؤوا آيةَ وعيدٍ، أو حديثًا فيه تهديد، ولم يعلمُوا أنَّ الإسلامَ دينُ سلامٍ، ومِن أسماءِ اللهِ تعالى السلامُ، وتحيةُ هذا الدينِ الحنيفِ السلامُ، وتحيةُ أهلِ الجنةِ السلامُ، فالعنفُ فيه مرفوضٌ، والساعِي إليه مبغوضٌ، وصاحبُ الفضائلِ محسودٌ، ومِن عظمتِه أنَّه طبقَ مبدأَ الوقايةِ خيرٌ مِن العلاجِ، والعجيبُ أنّه ذمّ كلَّ مظاهرِه، ولو كانتْ على سبيلِ المداعبةِ، بل بابُ العنفِ في الإسلامِ مغلقٌ، ومظاهرهُ تستجلبُ اللعنَ، ولو كان بالهزلِ واللعبِ، فعندَ مُسلمٍ، قال رسولُ اللهِ ﷺ: « مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ».
في هذا الحديثِ تأكيدٌ على حرمةِ المسلمِ، والنهِي الشديدِ عن ترويعِه، وتخويفِه، والتعرضِ لهُ بمَا قد يؤذيِه، وقولُ رسولِ اللهِ ﷺ: « وإنْ كان أخاهُ لأبيهِ وأمهِ »، مبالغةٌ في إيضاحِ عمومِ النهيِ في كلِّ أحدٍ، سواءٌ كان قريبًا أم بعيدًا، وسواءٌ كان هذا الأمرُ على سبيلِ الهزلِ واللعبِ أم الحقيقةِ والجدِّ؛ لأنَّ ترويعَ المسلمِ حرامٌ بكلِّ حالٍ، ولأنَّه قد يسبقُهُ السلاحُ فيقعُ المحظورُ، ولعنُ الملائكةِ له يدلُّ على أنَّه حرامٌ، فاللعنُ لا يستجلبُ إلّا في المحظورٍ، وعظائمِ الأمورِ.[ شرح النووي على مسلم ].
وفي الصحيحينِ، قال رســولُ اللهِ ﷺ: « لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ».
ونشرُ الأمنِ والحدُّ مِن العنفِ لا يقفُ على المسلمين فحسب، بل يتعدَّى إلى كلِّ إنسانٍ، فالإنسانُ في الإسلامٍ مكرمٌ بجنسِه كافةً، ومصانٌ مِن الترويعِ والتخويفِ، وحقُّهُ منصوصٌ عليهِ، والاعتداءُ عليه بأيِّ صورةٍ تستوجبُ غضبَ ربِّ العالمين، ومخالفٌ لهديِ سيدِ المرسلين، فعندَ ابنِ ماجةَ، مِنْ حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيُّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَتَقَاضَاهُ تَمْرًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ، حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي، فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ، أَتَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ فَقَالَ: إِنِّي طَالِبُ حَقٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ : « هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ » ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهَا: « إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْـرٌ فَنُقْضِيَكِ ». فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَقْرَضْتُهُ فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ، قَالَ: « أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ لَكَ ». فَقَالَ: « أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعَيفِ فِيهَا حَقُّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ ».
ولم يقفْ الأمرُ عندَ هذا الحدِّ، بل وضعَ رسولُ اللهِ ﷺ دستورًا نبويًّا، يحمِي بهِ المخالفين في العقيدةِ مِن أنْ تمسَّ حقوقُهُم، ويحملون مِن الأمرِ ما لا يطيقون، فقالَ ﷺ: « أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أو انْتَقَصَهُ أوَ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِأُصْبُعِهِ إِلَى صَدْرِهِ، وقال: « أَلَا وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ، وَذِمَّةُ رَسُولِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنَّةِ, وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ». [ سنن أبو داود وغيره ].
هذا الجمالُ الإسلاميُّ، والكمالُ المحمديُّ، يفوحُ منهُ نفحُ الطيبِ الذي ينعكسُ سلمًا على المجتمعاتِ، وتتحققُ بهِ كلُّ الغاياتِ، ويعيشُ الناسُ في سلامٍ ووئامٍ، فلا فضلَ لعربِيٍّ على أعجمِيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لذكرٍ على أنثَى إلّا بالتقوَى والعملِ الصالحِ، فاجعلُوا مِن هديِ رسولِ اللهِ ﷺ منهجَ حياةٍ، كي تعمَّ مجتمعاتِنَا الفضيلةُ وتخلُوا مِن الفواحشِ والرزيلةِ، ويعمُّهَا السخاءُ والرخاءُ، لقد شهدَ له أعداءُ، فقالَ بعضُهُم: « إنَّ البـشريةَ لتفخـرُ بانتـسابِ رجـلٍ كبـيرٍ كمُحمـدٍ إليهـا، إذ أنّه رغمَ أميتِهِ استطاعَ قبلَ بضعةِ عشر قرنًا أنْ يأتيَ بتـشـــــــــريعٍ سـنكونُ نحـن الأوروبيــون أســعدَ مــا نكــون لــو وصــلنَا إلى قمتِــه بعــدَ ألفــي عــام ».
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن :
ثالثًا: حفظُ الأمنِ واجبُ الجميعِ.
حفظُ الأمنِ في شريعتِنَا الغراءِ واجبُ الجميعِ، فالوطنُ كالسفينةِ، متى حافظَ عليها ركابُهَا وصلُوا إلى برِّ الأمانِ، ومتى أحدثُوا فيها خروقًا غرقُوا جميعًا، ولم تكن النجاةُ لأحدٍ، فالكلُّ فيه خاسرٌ، ويبدأُ الحفاظُ على الوطنِ بحسنِ تربيةِ النشءِ، وحسنُ تربيةِ النشءِ تبدأُ بحسنِ اختيارِ الزوجةِ، وحسنُ تربيةِ الأولادِ خيرُ هديةٍ يقدمُهَا الآباءُ للوطنِ، يساهمونَ في بنائِه، ويحفظونَ أمنَهُ، وسوءُ التربيةِ قنبلةٌ موقوتةٌ تفتكُ بالمجتمعاتِ، وتعرضُ أمنَهُ للمخاطرِ، فالجهلُ عدوٌّ للتقدمِ والارتقاءِ، ومِن وسائلِ حفظِ الأمنِ تقويةُ النزعةِ الدينيةِ، وغرسُ قيمِ الانتماءِ، وحسنُ اختيارِ الأكفاءِ، فعندَ مسلمٍ، مِن حديثِ أَبِي ذَرٍّ الغفاري رضي اللهُ عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: « يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ». قال النووي: هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في اجتنابِ الولاياتِ لا سيَّمَا لمَن كان فيه ضعفٌ عن القيامِ بوظائفِ تلك الولايةِ، وأمّا الخزيُ والندامةُ فهو في حقِّ مَن لم يكنْ أهلًا لها أو كان أهلًا، ولم يعدلْ فيها، فيخزيه اللهُ تعالى يومَ القيامةِ، ويفضحُه ويندمُ على ما فرّطَ. [ شرح النووي ].
ووجْهُ ضعفِ أبي ذرٍ رضي اللهُ عنه هو أنَّ الغالبَ عليه كان الزهادةَ واحتقارَ الدنيا، والإعراضَ عنها، ومَن كان هذا حالُه لم يهتم بمصالحِ الدنيا، ولا بأموالِهَا، وبمراعاتهَا تنتظمُ مصالحُ الدينِ ويتمُّ أمره، وقد أفرطَ أبو ذرّ رضي اللهُ عنه في الزهدِ، حتى أفتَى بتحريمِ جمعِ المالِ، وإنْ أديتَ زكاتَه، فلمّا علمَ منه ذلك نصحَهُ، ونهاهُ عن الإمارةِ وولايةِ مالٍ، خشيةَ الإخلالِ، وضياعَ الحالِ.[ دليل الفالحين ].
وغرسُ الانتماءِ مهمةُ الآباءِ، وعلى كافةِ المؤسساتِ التعليميةِ تغذيةُ هذا الجانبِ، وتنميتُه وترقيتُه، ولا ينمُوا في النفوسِ إلّا بغرسِ قيمِ الإسلامِ، وأخلاقِ الإسلامِ، ولنَا في رسولِ اللهِ ﷺ أسوةٌ، فأصعبُ لحظاتِ حياتِه حين تركَ موطنَهُ، فحزنَ لفراقِه، واعتذرَ إليه بأنّه ما خرجَ بطرًا، ولا عقوقًا، ولا بحثًا عن خيرٍ مِن هذه الديارِ، إنّما أهلُهَا هم مَن قسُوا عليِه، وأخرجوهُ منهَا، فلمّا علمَ اللهُ شدةَ الحنينِ، وقوةَ الأنينِ، بشرَهُ بالعودةِ في حينِه، ليخفَّ شوقهُ وأنينهُ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾. [ سورة القصص ].
رادّكَ إلى مكةَ، وردَّهُ إليهَا يومَ الفتحِ، وذلك اليومُ معادٌ له شأنٌ، ومرجعٌ له اعتدادٌ، لغلبةِ رسولِ اللهِ ﷺ عليها، وقهرهِ لأهلِهَا، ولظهورِ عزِّ الإسلامِ وأهلِه، وذلِّ الشركِ وحزبِه. والسورةُ مكيةٌ، فكأنَّ اللهَ وعدَهُ، وهو بمكةَ في أذى وغلبةٍ مِن أهلِهَا: أنَّه يهاجرُ به منها، ويعيدُهُ إليها ظاهرًا ظافرًا. وقيل: نزلتْ عليه حين بلغَ الجحفةَ في مهاجرِه، وقد اشتاقَ إلى مولدِه، ومولدِ آبائِه، وحرمِ إبراهيمَ، فنزلَ جبريلُ فقالَ له: أتشتاقُ إلى مكةَ؟ قال: نعم، فأوحاهَا إليهِ. [ تفسير الزمخشري ].
فمَن كان هذا حالُه، عظمتْ خصالُه، وقدَّمَ لمجتمعِه الكثيرَ، ولم يطلبْ منه إلّا القليل، وكان معه كخصالِ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ يكثرون عندَ الفزعِ، ويقلونَ عندَ الطمعِ، هذه الصفاتُ تبثُّ الطمأنينةَ، وتقضِي على الأحقاد، وتصنعُ التوددَ والمحبةَ.
اللهم إنِّي أسألُكَ فعلَ الخيرات، وتركَ المنُكرات، وحُبَّ المساكين، وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً، فاقبضنِي إليك غيرَ مفتون، اللهم احفظ علينا دينَنَا، وبلدَنَا، ووفق ولاةَ أمورِنَا لكلِّ خيرٍ، وارزقُهُم البطانةَ الصالحةَ التي تعينُهُم على أمرِ دينِهِم ودنياهُم .. اللهم آمين!!
بقلم: مسعود عرابي .. عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهـــــر.
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف