وزير الأوقاف يكتب.. البنـــاء الثقافــي
لا يمكن لعالم أو عاقل أو باحث أو سياسي أو مفكر أو مسئول أن ينكر أهمية البناء الثقافي الصلب القوي المتين المتنوع المنفتح المستنير في تمييز شخصية الأفراد والدول ، وأراني مفعمًا حتى النخاع بأهمية هذا البناء والتكوين الثقافي الذي يتسع معه أفق المثقف اتساع رحابة هذا العالم الزاخر بالعلوم والمعارف ، وتجارب الأمم وتاريخها وحضاراتها ، وجغرافية العالم وتضاريسها ، وانبساطاتها وانحناءاتها ، وسهولها وجبالها ووديانها، وبحارها وأنهارها ومحيطاتها ، وفضاءات الكون بآفاقها القريبة والبعيدة المنظورة وغير المنظورة ، ولغات العالم وثقافاته وعادات الأقوام وأعرافهم وتقاليدهم ، وثراء الحياة بآدابها وفنونها , وحدائقها ومنتزهاتها ، ومصايفها ومشاتيها ، وخريفها وربيعها ، وثلوجها وزمهريرها ، وأطر التعامل والتكيف بين البيئة وساكنيها من إنس وغير إنس ، مع الوقوف على آخر تطورات العلم ومستجداته ، في إطار الفهم الثقافي العام لعموميات الكون والحياة ، والفهم الخاص الدقيق لما تخصص الإنسان فيه .
ومع أن البناء الثقافي له تصنيفاته المتعددة والمتنوعة فإنني أقف على لون واحد من ألوان التصنيف الثقافي ، وهو الثقافة الرصينة ، والثقافة الهشة ، فالثقافة الرصينة هي التي تصقل صاحبها صقلاً متينًا سواء في مجال اختصاصه الدقيق أم في مجال معلوماته العامة ومشاركاته المجتمعية .
أما الثقافة الهشة فهي تلك التي تقف بصاحبها متفرجًا على شاطئ الثقافة غير قادر على الخوض في عبابه أو غماره أو عبوره أو حتى مجرد الخوض فيه ، هي تلك التي نرى صاحبها متشدقًا ببعض العبارات والألفاظ المستوردة أو غير المستوردة ، أو متفيهقًا ببعض العبارات المتقعرة يستر بها جهله الثقافي والعلمي وضآلة محصوله المعرفي .
مع تأكيدنا أننا لا يمكن أن نبني بناء ثقافيًّا رصينًا ما لم نبن الإنسان بناء علميًّا ومعرفيًّا متينا , من خلال التعلم المستمر ، وأن يكون الترقي إلى الدرجات الأعلى في كل ما يتصل بالجوانب العلمية ، والثقافية، والإدارية ، مرتبطًا بشكل ما بالترقي الثقافي العام والخاص ، إذ لا يمكن أن نقيم شخصية إنسان ما بمعزل عن محصوله ومخزونه الثقافي وحنكته في استخدام وتوظيف هذا المخزون في تصرفاته العامة والخاصة .
لقد صارت قضية الثقافة الرصينة أمرًا شاقًّا على كثير من أصحاب التكوين العلمي الهش ، وأصبح الصبر على القراءة الدقيقة والغوص في بطون أمهات الكتب وسبر أغوار النص والقدرة على التحليل والاستنباط أمرًا شبه عزيز إلا من رحم ربي ، وأرى أننا في حاجة ماسة إلى وضع معايير دقيقة يكون التكوين الثقافي الرصين أحد أهم أركانها عند اختيار القيادات العلمية والفكرية والثقافية والتعليمية والتربوية والإدارية وعند بناء مناهجنا التعليمية ، وأن يكون الانتقاء منهجًا أصيلا عند تعيين أو ترقية أي من العاملين بهذه المجالات ، وأن تنشأ بكل مؤسسة لجنة تقوم بعملية الفرز والاختيار والإعداد والتأهيل ، في سبيل تحديث نظم الإدارة من جهة ، والدفع بأكثر الناس علمًا وثقافة في مجال الوظيفة العامة من جهة أخرى , وبما ينعكس أثره في التكوين العلمي والثقافي والتربوي لدى النشء والشباب وسائر طبقات المجتمع.
غير أنه مما يؤلمنا كثيرًا ويأخذ من أنفسنا أننا أمة “اقرأ” , أمة دينها يقدس العلم ويعلي من شأن العلماء أن يكون هذا حالها الثقافي والمعرفي .
لقد رفع الإسلام من شأن العلم والعلماء ، حيث يقول الحق سبحانه : ” يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ” ، ويقول سبحانه : ” هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ ” ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ” ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه “.