“واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”، للشيخ عبد الناصر بليح
“واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا”
فضيلة الشيخ / عبد الناصر بليح
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، من تمسك بدينه وقاه، ومن أعرض عن ذكره أغواه، مجيب دعوة المضطر إذا دعاه، من أقبل إليه صادقاً تلقاه، ومن لاذ بحماه حماه، ومن توكل عليه كفاه، وأشكره سبحانه على جميع نعمه وآلائه،
وأشهد أن لا إله إلا الله حده لا شريك له، الإله الحق ولا معبود لنا سواه، أمر بالاعتصام بحبله، والتمسك بدينه والاقتداء بهداه، وأكرمه وأدناه، وحفظه وحماه،اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن نصره ووالاه واقتفى أثره واتبع هداه.
أما بعد:
فيقول الله جل وعلا: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [آل عمران:103].
أخوة الإيمان والإسلام :” بين المولي عز وجل أن الاعتصام هو التمسك، والحبل هو السبب الذي يتوصل به إلى المطلوب. وحبل الله هو: القرآن. وقيل: الرسول. وقيل: الإسلام. والكل حق. وفي الحديث: “هو حبل الله المتين”.
وقوله :”جَمِيعاً”، أمر من الله بالاجتماع على الدين وعلى هذا القرآن جميعاً؛ فإن بالاجتماع على الحق تحصل وتدرأ المفاسد وينقمع العدو.
ثم نهى سبحانه عن التفرق بين أهل الإسلام بقوله: “وَلا تَفَرَّقُوا”؛ وذلك لأن التفرق سبب الفشل، ومنه يدخل العدو، وتضعف الجهود بسبب التفرق والخلاف.
ثم أمرهم بتذكر نعمته عليهم بالاجتماع على هذا الدين، والتآلف عليه وببعثة هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، بعد ما كانوا أعداء متباغضين متناحرين فقال:” وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً”، أي إخواناً في الإسلام، ومتحابين في الله، فأكبر النعم نعمة الإسلام والاجتماع عليه وعدم التفرقة”
وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن الله لا يجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذّ في النار”
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال” ( مسلم).
عباد الله :”عليكم بالتمسك بالدين والتناصح بذلك.
لأنه من خرج عن الإسلام فلا اجتماع معه، ولا ولاء له، ولا طاعة له، ولا محبة له، بل يجب البعد عنه والعداء له كما قال إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: “وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً”[مريم:48].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في شأن الأوس والخزرج وغيرهم: ” كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وضغائن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في دين الله، متعاونين على البر والتقوى.
وكانوا قبل ذلك على شفا حفرة من النار؛ بسبب كفرهم وجهلهم وضلالهم، فأنقذهم الله منها بأن هداهم للإيمان، وألفهم على الإسلام.
وقد ذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة يوم قسم غنائم حنين فقال لهم: ” ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ”. ويعنون المنَّة لله ولرسوله علينا.
فيا عباد الله عليكم بالتمسك بحبل الله المتين، والاجتماع على الدين، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، إذا كان على الحق المبين. وبهذا تحصل السعادة في الدنيا و الآخرة للمسلمين.
تذكروا نعمة الله واعترفوا بها واشكروها بطاعة من أولاها عليكم ظاهرة وباطنة، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، تسلموا من عذاب الله وعقابه.
*وفي الجماعة العصمة:
قال تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا” (النساء/59).
ووجه الدلالة من الآية الكريمة: أنها دالة على حجية الإجماع، فإذا كان المؤمنون مأمورين برد الأمر إلى الله ورسوله حال النزاع فمفهوم ذلك أن إجماعهم لا يرد إليهما لكونه حجةً.
ومثلها في إفادتها ودلالتها: “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ”(الشورى/10). وهذه من بركة الجماعة والاتفاق. والعلو على الأعداء يكون باجتماعنا..
قال صلى الله عليه وسلم: “أفشوا السلام؛ كي تعلوا”( ابن حبان).
وذلك لأن التسليم إذا فشا في أوساطنا وكان سمةً لمجتمعنا حلّ الود بيننا، وحطت الألفة رحلها في ساحتنا، فكنا يداً واحدةً، وكان الظهور لنا، والغلبة معنا.
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً — وإذا افترقن تكسرت آحاداً
*والجماعة رحمة:” وفي ذلك يقول سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “الجماعة رحمة”( أحمد).
* وبالجماعة ينال عون الله:
قال صلى الله عليه وسلم: “يد الله مع الجماعة”( الترمذي).
والمعنى: أن الله يؤيد بعونه الجماعةَ التي تعتصم بحبله.
* وبالجماعة يُغاظ الكافرون:
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:”إنهم –اليهود-لا يحسُدونا على شيءٍ كما يحسُدونا على يومِ الجمعة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين”( أحمد ).
والذي يجمع بين هذه الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كونها تبين وحدة المسلمين وتجسدها، ولهذا حسدونا على ذلك.
فهذا يغيظهم وإغاظة هؤلاء مطلب شرعي. قال تعالى:”وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ”(التوبة: 120).
*والجماعة سمة بارزة يتميز بها المجتمع الإسلامي:
قال تعالى:” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (التوبة: 71).
وتأمل هذا المثل الذي ضربه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى”(متفق عليه).
والتواد: بذل أسباب المحبة كالزيارة. والتراحم: يكون بالقلب. والتعاطف: الوقوف بجانبهم عند النكبات.
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ”( أحمد وأبو داود).
*والجماعة سببٌ لنيل رضاء الله:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ؛ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ”( مسلم).
*رضوان الله أعظم من جنته:
قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة: 72).
*لفوز بالجنة:
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فليلزم الجماعة” (الترمذي).وبحبوحتها: وسطها وأفضلها.
**والفرقة شتات وضعف :
ورهبت النصوص من التفرق:
وقد نهانا المولي عز وجل من الفرقة “َلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آ ل عمران /105).
وال تعالي :”اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( لأنفال /46).
وقد برأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل التفرق:
قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ” (الأنعام/159).
* والتفرق إرضاء للشيطان:
قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم”( مسلم).
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئا. ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت”( مسلم).
*والتفرق تشبه بالمشركين:
قال تعالى: “وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” (الروم: 31-32).
* والتفرق سبب للعذاب:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة الفرقة عذاب”( أحمد).
فإن الناس إذا تفرقوا كانت الحروب والفتن.
*وهو من أسباب دخول النار:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ”( ابن ماجة).
و أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين، فحاصر مسلم كافر، فقال الكافر: إني مسلم . فطعنه فقتله . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، قال “وما الذي صنعت”؟
فأخبره بالذي صنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه”؟
قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه.
قال :”فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه”!
فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلم يلبث إلا يسيراً حتى مات، قال الراوي: فدفناه، فأصبح على ظهر الأرض. فقالوا: لعل عدوا نبشه. فدفناه . ثم أمرنا غلماننا يحرسونه . فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا لعل الغلمان نَعَسُوا . فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض . فألقيناه في بعض تلك الشعاب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : “إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله أحب أن يريَكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله”. ومع ذلك فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من أراد أن يفرق جمعنا، لأن حرمة اجتماع المسلمين أعظم من حرمة المسلم.
الخطبة الثانية :
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمد، وعلى آله وصحبه.
أيّها المسلمون، لقد كان من نِعَم الله العظيمة وآلائه الجميلة نعمةُ الأخوّة في الدين، تلك الأخوّة التي أخبر عنها سبحانه بقوله: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ” [الحجرات: 10]. وجعلها رابطةً أساسُها العقيدةُ وعمادها الإيمان؛ إذِ الإيمان قوّة جاذبةٌ تبعث أهلها على التقارُب والتعاطُف والتوادّ، ولا تنافرَ بين قلوب اجتمعت على إيمانٍ بالله وعمرها حبٌّ شديد لله ولرسول الله . إنّه التآلف الذي أشار إليه عزّ اسمه بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]، والذي صوّر رسول الله واقعَه في هذا المثلِ النبويّ المشرق، فقال: “مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وَتَراحُمِهم وتَعَاطُفِهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسهر والحمَّى”( مسلم ).
ذلك أن الله تعالى ـ كما قال بعض أهل العلم ـ قد وثّق صلاتِ المسلمين خاصّة بلُحمةٍ أقوى من النسب، هي وحدة العقيدة بما ينشأ عنها من وجدان مشتركٍ وتآلُف وتعاطُفٍ وتعاون وإخاء؛ لأنّ صلةَ الدم أو الجنس قد يمسّها فتور وهي أشدّ ما تكون قرابة، أما وحدة العقيدة فإنها قرابة قويّة دائمةٌ متجسِّدة، يذكرها المسلمون وهم ينطقون بالشهادتين في سرّهم وجهرهم، ويذكرونها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجّهم، ويذكرونها في طاعتهم لله وخضوعهم له واستعانتهم به، ويذكرونها في كلِّ لمحة عين أو خفقة قلب أو تردُّد نفَس.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعلكم من بعد العداوة إخوانًا، واحرصوا على القيام بحقوق الأخوّة في الدين، وحذارِ من سلوك كلِّ سبيل للفتنة.
وهذا ما سلكه اليهود مع الرسول في المدينة، حيث جمع الله به شتات المؤمنين، ووحدهم بعد تفرقهم فقد روى ابن إسحاق وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال:”مرَّ شاس بن قيس – وكان يهودياً- على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما رأى من تآلفهم بعد العداوة، فأمر شاباً معه من يهود أن يجلس بينهم فيُذَكِّرهم بيوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان: أوس بين قيظى (من الأوس)، وجبَّار ابن صخر (من الخزرج) فتقاتلا، وغضب الفريقان وتواثبا إلى القتال، فبلغ ذلك رسول الله فجاء حتى وعظهم، وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة، ونزل قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”[آل عمران:103]، فتلا عليهم النبي هذه الآية؛ فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح.
والنبي سمَّى الفرقة والاختلاف بين المسلمين “دعوى جاهلية” فقال :”أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم”؛ لأن الجاهلية فرَّقت بين العباد، ومزَّقت وحدتهم، فصنم ربيعة غير صنم مُضَر، ومعبود ثقيف يختلف عن معبود قريش، وإله أهل اليمين غير إله أهل الشام.
ويؤخذ من الأثر السابق أيضاً:- أن ما فعله شاس بن قيس في زمن النبي ؛ يفعله الآن أعداء الإسلام في كل العصور وفي كل الأمصار، لكن هناك فارق بين شاس اليوم وشاس الأمس فقد كان شاس الأول فرداً ضعيفاً ضيئلاً، لا يملك من الجاه والمال والسلطان، أما شاس اليوم فيتمثل في دول كبيرة، ذات قوة وعتاد وجاه وسلطان، لكن شاس اليوم وشاس الأمس يتفقان في الغاية، وهي هدم الإسلام، وتمزيق أهله، وإحياء العداوات التي أطفأ الله نيرانها من قبل، وإذكاء نار الخصومة والبغضاء بين المسلمين، وتفريقهم إلى أُمماً وشيعاً وجماعات، كل حزب بما لديهم فرحون”
والناظر في حال الأُمَّة اليوم يرى أنها تفرَّقت إلى أحزاب وجماعات، وأصبح الولاء ليس للإسلام بل للجماعة والأسماء والأشخاص واللافتات، مما انعكس ذلك بالسلب على الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وساء وانتشر اتهام النيات وسوء الظن، وكثرت الغيبة والنميمة، وغاب العدل والإنصاف، فسَلِمَ منَّا أعداء الدين، ولم يَسْلَم منَّا أخوتنا في الدين – ولا حول ولا قوة إلا بالله.