هل حقًّا داعش أسدٌ جريح لم يَمُتْ بَعْدُ؟!
لم يشبه تنظيم داعش منذ ظهوره في عام 2014 نظراءه من التنظيمات الإرهابية المتطرفة التي سبقته، بل أخذ منحى آخَرَ بداية من طرق القتل المتوحشة والاغتصاب والانتهاكات غير الآدمية، وكان أبرز ما تَفَرّد به التنظيم هو تلك الترسانة الإعلامية الضخمة والمنظمة والتي عملت على استقطاب المقاتلين من الشرق والغرب، من المسلمين العاديين ومَن اعتنقوا الإسلام حديثًا، ولطالما عملت الدعاية الإعلامية على تحسين صورة التنظيم وتبرير الجرائم الوحشية وتصويره على أنه الأرض الموعودة للمسلمين والخلافة المزعومة، فضلًا عن محاولة تأكيد أن التنظيم هو دولة قائمة بذاتها تملك جهازًا إعلاميًّا كبقية الدول، ودائمًا ما شهدت قوة داعش نشاطًا إعلاميًّا كبيرًا كان دائمًا يُعَبِّر عن قوة داعش على أرض الواقع، إلا أن العديد من الخبراء المعنيين بالحركات الإرهابية ناقشوا قضية الدعاية الإعلامية لداعش هبوطًا وصعودًا، وأكدوا أن التنظيم سوف يتبع أساليبَ جديدةً ليَستَجْمِعَ قواه مرة أخرى .
لقد صاحَبَ الغموض مؤخرًا مصير تنظيم داعش الإرهابي، والذي عرفه العالم كأخطر تنظيم إرهابي على مدار الأعوام الأخيرة، حيث هزّ عروشَ كبرى أجهزة الاستخبارات حول العالم، ونتيجةً للانحسار الجغرافي للتنظيم والخسائر التي تكبدها في معاقله الرئيسة في سوريا والعراق، يُتَوَقَّع أن يلجأ التنظيم إلى طرق أخرى جديدة لكسب مؤيدين جُدُد، خاصة بعد اهتزاز صورته أمام العالم لفقدانه السيطرةَ على الأراضي التي كان يُحْكِم قبضتَه عليها.
في هذا الصدد، ثمّة تساؤلات تُطرح في ظل الغياب الإعلامي الغامض للتنظيم: هل ينعكس الانحسار الجغرافي لداعش على الدعاية الإلكترونية بالفعل؟ وهل يُعتبر التراجع الإلكتروني دليلًا قاطعًا على ضعف التنظيم؟ وهل يوجد الكثير من الأمور غير المعلنة، والتي سوف تفاجئ العالَم بعودة داعش مرة أخرى وعلى نطاقٍ أوسعَ؟ وهل اضطُرّ التنظيم لتغيير معاقله فقط هربًا من الضربات وأنه سوف يعود بقوة، في مكانٍ ما سواء في جنوب شرق آسيا أو ليبيا أو الفلبين، على سبيل المثال لا الحصر؟ يجب أن تبقى هذه التساؤلات في ذهن العالَم، الذي لا يجب أن يستهينَ بأيِّ تَحَرُّكٍ يقوم به التنظيم.
إن الإجابة على الأسئلة المتعلقة بمصير داعش تتطلب متابعة مَسارِه صعودًا وهبوطًا منذ أن كان في أزهى عصوره في عام 2014؛ وذلك في ضوء ما أورده موقع “Jihadology” في هذ الشأن، والذي أفاد أن داعش في عام 2015 شهد ذروة نشاطه الإعلامي؛ حيث كان التنظيم يملك العشرات من المنصات الإعلامية التي تنتج المئات من المقاطع الإعلامية المتميزة كل أسبوع، وتُصَوِّر داعش على أنه أرض الخلافة والمدينة الفاضلة التي يسودها السلام والاستقرار، ولكن بمرور الوقت ومع الهجوم المستمر لقوات التحالف على داعش في سوريا والعراق، تراجعت هذه الآلة الإعلامية من حيثُ الجَودةُ والكمّ على حَدٍّ سواء.
وقد ظهرت أولى علامات هذا التراجع في منتصف عام 2016، حيث تراجع المحتوى الإعلامي المرئي والمسموع للتنظيم بالإضافة إلى تَوَقُّف النشر على تطبيق تليجرام، ولكن التنظيم استعاد نشاطه مرة أخرى ولكن مع نَمَطٍ إعلامي جديد، إلا أنه أقل في الجودة والكم عن السابق، وبعد مرور عامين ونصف، شهدت الدعاية الإعلامية لداعش تراجعًا ملحوظًا مرة أخرى في ثلاثة الأشهر الأخيرة لعام 2017 في المواد الإعلامية التي تمّ نشرها، ولكن مثل ما حدث في 2016 كان التراجع مؤقّتًا وعادت الدعاية مرة أخرى ولكن بشكلٍ جزئيّ في مستهلّ 2018.
وتجدر الإشارة إلى أن متابعة التراجع في عامٍ ليست أمرًا سهلًا، إذ نجد أن داعش أنتج على مدار العام الماضي حوالَي 1373 مادة إعلامية في الفترة ما بين الأول من أغسطس لعام 2017 إلى 28 فبراير من هذا العام، وكانت المواد الإعلامية تخرج من منصات إعلامية مركزية؛ مثل: مركز الحياة الإعلامي، ووكالة أعماق الإعلامية التي تختص بنشر أخبار التنظيم، بالإضافة إلى الصحف والمجلات الإلكترونية، وأشهرها: دابق، ورومية، والنبأ، والكلمات المسجلة لخليفتهم المزعوم أبي بكر البغدادي، وتطبيقات الهواتف المحمولة، والأناشيد الحماسية.
ننتقل إلى نقطةٍ هامّةٍ جدًّا؛ وهى النشاط غير المُعلَن للتنظيم والخلايا السرية المنتشرة في الغرب، والتي يمكن أن تُمَثِّل قنابلَ موقوتةً تصعب السيطرة عليها، وعليه؛ فإن التراجع في الدعاية المنشورة من حيث الكمّ ليس دليلًا على التراجع الدعائي للتنظيم بشكلٍ عامّ، حيث أصدر التنظيم مجلةَ “رومية” عقب الانهيار الذي أصابه في عام ،2016 وعند تَوَقُّفها في منتصف 2017 نشر التنظيم الجزء الثاني من الفيلم الذي نال رواجًا واسعًا” ألسنة لهيب الحرب”، ودائمًا ما يبدو التنظيم في قمة نشاطه في الوقت الذي يكون فيه فعليًّا في أدنى مستوياته على أرض الواقع. وعلى صعيدٍ آخَرَ، لا يُعتبر التراجع في الدعاية الإلكترونية دليلًا على التراجع في الدعاية غيرِ المعلنة والأنشطة السرية، فلا يعكس تَراجُعُ أيٍّ منهما تَرَاجُعَ الآخَر؛ حيث قال بعض الشهود من قرية مراوي بالفلبين، والتي تمّ تحريرها من قبضة أتباع تنظيم داعش مؤخرًا: إن معظم دعاية داعش تكون غير معلنة أو ليست عن طريق الإنترنت، مثل: المقابلات وجهًا لوجه، والمنشورات المكتوبة، والخطابات؛ وقال آخَرون: إن بعض مسئولي التنظيم قاموا بزياراتٍ خاصة إلى منازلهم لتوصيل رسالة التنظيم لهم، كما تَلَقّى رجال الدين الذين أدانوا مايقوم به التنظيم رسائلَ تهديديةً شخصية، وأشار المقال إلى أن داعش اتبع هذه الإستراتيجية من قَبْلُ في سوريا والعراق، في عامَي 2015 و2016 إبّان سيطرته على بعض المناطق هناك.
ويبدو من خلال الدراسة أن الدعاية الإلكترونية أصابها ضعفٌ شديد بنهاية عام 2017 ولا يمكن إنكار أن هذا شيءٌ جيد، إلا أننا يجب أن نكون حَذِرِين في تفاؤلنا والأخذ في الاعتبار أن التراجع الإعلامي الأول في عام 2016 لم يسفر عن نهاية التنظيم، كما يَتَطَلّب تحقيق الفوز في الحرب على تنظيم داعش اتّباع إستراتيجية تأخذ في الحسبان العمل عبر الإنترنت والدعاية غير المعلنة بدونه والنشاط السري، فالهزيمة الأخيرة لداعش كتنظيم، لا تعني بالضرورة هزيمة العقيدة الفكرية، التي توَحِّد أعضاء تلك التنظيمات، وتُشَكِّل المُحَرِّكَ الرئيسَ لاستمرارهم.
ولا ننسى النشاط غير المعلن للتنظيم، حيث كشفت المخابرات الحربية البريطانية، طِبْقًا لموقع Clarion Project””؛ أن الإرهابيين العائدين يحاولون تصنيع مادة “الرايسين” و”الجمرة الخبيثة” داخل معاملَ سريةٍ بالمملكة المتحدة؛ ويأتي هذا علمًا بأن العديد من العائدين قد تَلَقَّوْا تدريباتٍ على الحرب البيولوجية والكيميائية في سوريا والعراق، فقد كشفت الوثيقة التي حصلت عليها وكالة الأنباء الروسية من مَقَرّ الشرطة العراقية؛ أن القوّاتِ العراقيةَ اكتشفت 32.5 طنًّا من نترات الأمونيوم في الموصل أثناء عملية تحرير المدينة من تنظيم داعش.
ولا يمكن الحكم على بقاء التنظيم من عدمه من خلال فوز قوات التحالف وانتصارها عليه في سوريا والعراق، حيث أورد الموقع أيضًا مقالًا حول سُبُل منْع تنظيم داعش من العودة مُجَدَّدًا،وحذّر قائد السلاح الجوي الملكي البريطاني من إمكانية عودة تنظيم داعش مجددًا حال وقْف حملات القصف المضادة للتنظيم الإرهابي الدموي، وصرّح القائد ستيفن هيليير: أنه رغم خسارة تنظيم داعش لـ98% من أراضيه المسماة “الخلافة” في العراق وسوريا، إلا أنه ما زال يملك القدرة على إعادة هَيْكَلة التنظيم، وعليه؛ يتضح أن السر يكمن في استمرار حملات القصف، إذ إن وقْفها أو الانسحاب يعني منْح التنظيم فرصةً كبرى لتنظيم صفوفه وإعادة بسْط السيطرة.
كما أوردت صحيفة الإندبندنت البريطانية خبرًا مهمًّا عن عودة تنظيم داعش إلى ساحة القتال مرة أخرى، وفنّدت فيه بعض الهجمات التي قام بها التنظيم مؤخرًا في سوريا والعراق، ومن المنطقيّ ألّا يحدثَ هذا؛ نظرًا لأن تنظيم داعش كان من المُفترَض أنه هُزم العامَ الماضيَ عندما فقَد الموصل في العراق والرَّقَّة في سوريا على التوالي، حيث انحسرت مساحة الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم في بقاعٍ صغيرة في الصحراء بسوريا والعراق، ولكن يبدو أن القوّاتِ التي تكافح تنظيم داعش قد تَسَرّعت في إعلان نهاية التنظيم، إذ إن هناك ارتفاعًا في مُعَدَّل الهجمات على الدبلوماسيين الغربيين، وهناك احتماليّةٌ لزيادة عدد الهجمات، ممّا يعني أن تنظيم داعش بدأ في تنظيم صفوفه والعودة مرة أخرى، ويوَضِّح الخبر أن هناك دلائلَ على عودة تنظيم داعش مرة أخرى إلى معاقله القديمة؛ حيث قال أحد زائري دير الزور: إن العامّة يتحدثون عن عودة التنظيم، وأنه يجب عليهم عدم الوجود بالشوارع بعد الساعة 3 مساءً، حيث تُغادِر القوات الديموقراطية السورية العربية الكردية نقاط التفتيش الخاصة بها، فالسبب الرئيس في عودة التنظيم ليس من الصعب اكتشافه، فالذين قالوا: إنهم دمروا تنظيم داعش العام الماضي، ظنوا أنهم قَضَوْا عليه، بينما لم يكن هذا هو واقع الأمر.
ويتابع مرصد الأزهر قضية مصير تنظيم داعش والتطورات التي يمر بها بكل اهتمام؛ انطلاقًا من المهمة التي أخذها على عاتقه منذ تأسيسه، فالمرصد لا يقتصر دوره على الرد على هذا الإطار الأيدولوجي الذي شَكّلته الجماعات المتطرفة وتقديم المعرفة الصحيحة حول القضايا التي يستند إليها ذلك الإطار، بل أيضًا رصْد تحركات هذه الجماعات ومحاولة استشراف مستقبلها من خلال كل ما يتمّ رصده ومتابعته على مدار الساعة.
ومن هنا؛ فإن “المرصد” يرى ضرورة التوَقُّف قليلًا عن الجزم بانتهاء تنظيم داعش، إذ إن هناك دلائلَ تشير إلى وجود المزيد في جَعْبَة هذا التنظيم، ومن ثَمّ؛ فإن التريث وعدم القطع بانتهاء التنظيم، وتعزيز التعاون بين الأجهزة الأمنية على مستوى العالم، أمرٌ ضروري؛ من أجل عدم السماح للتنظيم بمفاجأة العالم بظهوره مرّةً أخرى في صورةٍ جديدة.
وحدة رصد اللغة الإنجليزية بالأزهر الشريف