مفاتيح الجنان بذكر صفات عبـــاد الرحـمن: سلامة التوحيد ، للشيخ عمر مصطفي
مفاتيح الجنان بذكر صفات عبـــاد الرحـمن ، للشيخ عمر مصطفي ، 12رمضان 1444 هـ –3 إبريل 2023م
الدرس الثاني عشر
سلامة التوحيد
العناصر
أولاً : التوحيد حق الله علي العبـــــاد
ثانياً : التوحيد أول واجب علي المكلف
ثالثاً: التوحيد نور الله في قلوب العباد
لتحميل الدرس بصيغة word
لتحميل الدرس بصيغة pdf
الموضوع
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الهادي من شاء لصوابِهِ، أنعم بإنزالِ كتابِه، فيه مُحكم ومتشابه، فأما الَّذَينَ في قُلُوبهم زَيْغٌ فيتبعونَ ما تَشَابَه منه، وأمَّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه ، اللهم صلي عليه وعلي آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين . أما بعد :
أولاً : التوحيد حق الله علي العباد
عباد الله : مازلنا مع صفات عباد الرحمن قال تعالي : {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (الفرقان68).
إن الله خلق الخلق ليعبدوه ، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه ، فعلم عباد الرحمن هذه الحقيقة فعاشوا من أجلها وقاموا بها فعبدوا الله ووحدوه ، واجتهدوا في القرب منه فقربهم وأدناهم وأفاض عليهم من فضله .
عباد الله : التوحيد هو حق الله علي العباد فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، قَالَ: فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ، قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»(صحيح مسلم). قَالَ الْقُرْطُبِيُّ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ فَحَقَّ ذَلِكَ وَوَجَبَ بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصِّدْقِ وَقَوْلِهِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي الْخَبَرِ وَلَا الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.(تحفة الأحوذي). وقال معاذ رضي الله عنه أفلا أبشر الناس فقال له صلي الله عليه وسلم لا تبشرهم فيتكلوا على ما يجب، ولا يقوموا بما ينبغي أن يقوموا به من النوافل، ولكن معاذاً رضي الله عنه أخبر بها عند موته تأثماً. يعني خوفاً من إثم كتمان العلم فأخبر بها.(شرح رياض الصالحين ). فمن ضيع حق الله سبحانه وتعالي في عبادته وتوحيده ضيع الله حقه في دخول الجنة برحمة الله وفضله ، وكذلك من ضيع حق الله تبارك وتعالي بتوحيده فلن يشمله الله برحمته وكرمه وعفوه كما يفعل مع الموحدين .
ثانياً : التوحيد أول واجب علي المكلف
عباد الله : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى اليَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»(صحيح البخاري). فأول شيء أمر به النبي صلي الله عليه وسلم معاذ هو دعوتهم إلي التوحيد؛ لأن التوحيد هو الأساس، فالشهادتان هما الأساس لغيرهما، وكل عمل من الأعمال لا ينفع صاحبه إلا إذا كان مبنياً على الشهادتين: الشهادة لله بالوحدانية والألوهية، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
فيبدأ في الدعوة بالأهم فالأهم، وأهم شيء يدعى إليه التوحيد؛ لأن أي عمل إذا لم يكن مبنياً على التوحيد فإنه يكون مردوداً على صاحبه؛ لأن العمل إذا لم يكن خالصاً لله يرد على صاحبه لفقد الإخلاص، وهذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا وقع العمل غير مطابق لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يرد لفقد شرط المتابعة، وهذا هو مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الشهادتان هما أساس في نفسهما وأساس لغيرهما، وكل عمل ليس مبنياً عليهما فإنه لا عبرة به ولا قيمة له.(شرح سنن أبي داود).
ثالثاً: التوحيد نور الله في قلوب العباد
إن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان ، وتصدأ كما يصدأ الحديد فتفسد بذلك وتصبح غير صالحة لاستقبال كلمة التوحيد، لأن العلل تسلطت عليها حتي ماتت ،وفي هذا يقول الشاعر :
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يحيا كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء
يقول ابن القيم : إن مفسدات القلوب هي (كثرة الخلطة ، والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام ).
فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلوب ، لأن القلب يسير إلي الله عز وجل والدار الآخرة ، ويكشف عن طريق الحق ونهجه آفات النفس والعمل ، وقطاع الطريق بنوره وحياته وقوته ، وصحته وعزمه وسلامة سمعه وصحة بصره ، وغيبة الشواغل والقواطع عنه ، وهذه الخمسة تطفىء نوره ، وتعور عين بصيرته ، وتثقل سمعه إذا لم تصمه وتبكمه وتضعف قواه كلها ، وتوهن صحته وتفقر عزيمته ، وتوقف همته ، وتنكسه إلي ورائه ، ومن لا شعور له بهذا ميت القلب ، وما لجرح بميت إيلام ، فهي عائقة له عن نيل كماله ، قاطعة له عن الوصول إلي ما خلق له ، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه .(تهذيب مدارج السالكين).
وهذه الخمسة مكدرات القلوب ، لأنها تنغص علي من بقلبه مرض حياته فيفقد لذته لانصرافه بها عن نور الإيمان لأن النور لا يجتمع مع تلك المكدرات ، وبذلك يكون القلب قد صرف عن فطرته التي بها يحيا الإنسان ، والفطرة لا تكون صافية ونقية إلا بكمال المعرفة بالله ، ومحبته ، والطمأنينة بذكره ، والفرح والابتهاج بقربه ، والشوق إلي لقائه ، وقد أطلق علي هذه السعادة ابن القيم (الجنة العاجلة) لشعور الإنسان بالسعادة في إيمانه الصادق بالله .
وإذا عاش قلب المؤمن حياً في ظل محبته لربه ويقينه فيه ، وثقته وتوكله ، وخوفه ،وخشيته له ، فإنه يكون بذلك قد اعتصم بالله وبحبل الله فيحصن به من كل سوء فتراه يجد في الظلمة نوراً ، والجهالة حلماً ، ويكلؤه الله بعزته ، ويستحفظه ملائكته ، وذلك انطلاقاً من قوله تعالي : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 103).وقال :{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.(الحج 78).
والاعتصام من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف ، ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة والاعتصام به: يعصم من الهلكة فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.(مدارج السالكين).
وبإيمانه واعتصامه يسري نور الإيمان من القلب إلي جميع الأعضاء والجوارح فتنضبط بذلك ، فينضبط اللسان ، والسمع ، والبصر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)(صحيح البخاري).
عباد الله : القلب هو الذي يقود كل هذه الأعضاء فبصلاحه صلاحهم وبفساده فسادهم فعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ “(صحيح البخاري). (صلاح الجسد كله بالأعمال والأخلاق والأحوال.
وما أحسن قول من قال:
وإذا حلت العناية قلباً نشطت في العبادة الأعضاء
وإذا فسد القلب بالجحود، والشك والكفران (فسد الجسد كله) بالفجور والعصيان فالقلب فهو الملك والأعضاء كالرعية.(دليل الفالحين ).
فاللَّهُمَّ طهر قلوبنا وزكي نفوسنا و ارزقْنا تِلاوةَ كتابِكَ حقَّ التِّلاوة، واجْعَلنا مِمَّنْ نال به الفلاحَ والسَّعادة. اللَّهُمَّ ارزُقْنا إقَامَةَ لَفْظهِ ومَعْنَاه، وحِفْظَ حدودِه ورِعايَة حُرمتِهِ ، اللَّهُمَّ ارزقْنا تلاوته على الوجهِ الَّذِي يرْضيك عنَّا. واهدِنا به سُبُلَ السلام. وأخْرِجنَا بِه من الظُّلُماتِ إلى النُّور. واجعلْه حُجَّةً لَنَا لا علينا يا ربَّ العالَمِين. اللَّهُمَّ ارْفَعْ لَنَا به الدَّرجات. وأنْقِذْنَا به من الدَّرَكات. وكفِّرْ عنَّا به السيئات. واغْفِر لَنَا وَلِوَالِديِنَا ولجميعِ المسلمينَ برحمتكَ يا أرْحَمَ الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه راجي عفو ربه عمر مصطفي