صناعـة الفتـوى أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
الفتوى أمانة ثقيلة تحتاج إلى تأهيل خاص وإعداد علمي شرعي ولغوي مبكر ، يسهم في صنع وصقل موهبة الفقيه والمفتي ، وليست مجرد هواية أو ثقافة عامة ، ولا كلأ مباحًا لغير المؤهلين ، وإذا كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) ، وأي خطر أشد من إقحام غير المؤهلين وغير المتخصصين لأنفسهم في مجال الإفتاء أو السماح لهم بذلك ؟!وإذا كانت الحكمة تقتضي وضع كل شيء في موضعه ، ووصفه بما يناسبه لا بوصف غيره ، فإن إطلاق كلمة الفقيه أو المفتي على من هو غير جدير بها يُشَكِّل خطرًا جسيمًا على الأمن الفكري للدول والمجتمعات ، فكلٌّ من الفقه والفتوى صناعة ثقيلة تتطلب أدواتٍ كثيرة ، في مقدمتها: دراسة العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم ، وبخاصة التفسير وعلوم القرآن ؛ إذ لا يمكن أن تُطلق على إنسان صفة فقيه أو مفتٍ وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ ، ولا المطلق من المقيد ، ولا المجمل من المفصَّل ، ولا المحكم من المتشابه ، ولا العلاقة بين اللفظ والسبب.
كما ينبغي أن يكون الفقيه عالمًا بسنة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ودرجة الحكم على الحديث ، وماذا ينبغي أن يصنع من الترجيح أو التوفيق عند تعارض ظاهر بعض الألفاظ ، فكيف إذا كان لا يميز بين الثابت والمتغير، وبين سنن العبادات وأعمال العادات ؟!
ولا بد للفقيه من إتقان علوم اللغة العربية ، فلا فهمَ صحيح للكتاب والسنة إلا بالبراعة فيها ، ولا غنى له أيضًا عن علم أصول الفقه ، ومعرفة الأدلة المتفق عليها ، والأدلة المختلف فيها، وآراء الأصوليين والفقهاء في كل دليل من الأدلة المختلف فيها ، وطرق الاستنباط منها.
كما أنه لا يمكن للفقيه أن يصقل مواهبه دون دراسة دقيقة لآراء الفقهاء المتقدمين من الصحابة ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، وأصحاب المذاهب الأربعة : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل ، وكبار فقهاء المذاهب .
وينبغي أن يكون المفتي ملمًّا بواقع العصر زمانًا ومكانًا وبأحوال الناس وواقع حياتهم وتحديات العصر ومستجداته ، مدركًا أن الفتوى قد تتغيرّ بتغير الزمان والمكان والأحوال ، قادرًا على التفرقة بين الثابت المقدس والمتغير غير المقدس ، ملمًّا بفقه المقاصد ، وفقه المآل ، وفقه الأولويات ، وفقه الموازنات ، وطرائق الاستنباط والقياس ، وغير ذلك مما لا غنى للمفتي عنه .
وإذا كان الجهل من أكثر الأدواء فتكًا بالمجتمعات ، فإن اقتحام الجهلاء لمجال الفتوى هو الأشد خطورة على أمن المجتمعات وسلامها ، ما بين إنزال البعض للنوافل والمستحبات منزلة الفرائض ، وإنزال المكروه أو ما هو خلاف الأولى منزلة المحرم والحكم عليه بالتحريم ، وإطلاق كلمة البدعة أو مصطلح التحريم على أي مخالفة سواء أكانت مكروهة أو على خلاف الأولى أو حتى من المباحات ، إذ يعد بعضهم البدعة شاملة لكل أمر لم يكن على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى لو كان هذا الأمر من قبيل المباحات أو العادات ، ولم يدركوا أن البدعة هي: استحداث أمر في الدين لم يكن موجودًا على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) مع وجود المقتضي وانتفاء المنافع ، كمن يطلب رفع أذان الصلوات المفروضة لصلاة العيد ، ذلك لأن الأذان أمر تعبدي ، وصلاة العيد كانت موجودة على عهد النبي ولو كان الأذان مطلوبًا لها لفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ إذ لم يكن هناك ما يحول دون ذلك ، حيث كان الأذان يرفع لباقي الصلوات ، وكان (صلى الله عليه وسلم) يخص العيد بأن ينادي المؤذن الصلاة جامعة ، الصلاة جامعة ، فمن خالف في هذا الأمر التعبدي خرج من السنة إلى البدعة .
أما أن نطلق لفظ البدعة على كل مستحدث على إطلاقه دون أن نفرق بين الثابت والمتغير ، وبين سنن العبادات وأعمال العادات ، فهذا جهل محض وخروج على طريق الجادة في العلم والفقه .
ونؤكد أن هناك أمرين في غاية الخطورة أضرا بالخطاب الديني الرشيد ، هما الجهل والمغالطة ، أما الأول فداء يجب مداواته بالعلم ، وأما الثاني فداء خطير يحتاج إلى تعرية أصحابه وكشف ما وراء مغالطتهم من عمالة أو متاجرة بالدين .