خطبة عيد الفطر المبارك للدكتور خالد بدير
للاستعانة بالخطب السابقة من خطبة عيد الفطر المبارك للدكتور خالد بدير.
لتحميل الخطبة الأولي بعنوان ولعلكم تشكرون
للتحميل بصيغة word
للتحميل بصيغة pdf
______________________________________________________________________________________________
لتحميل الخطبة الثانية بعنوان الاستقامة والثبات على الطاعة
للتحميل بصيغة word
للتحميل بصيغة pdf
______________________________________________________________________________________________
لتحميل الخطبة الثالثة بعنوان خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين
للتحميل بصيغة word
للتحميل بصيغة pdf
______________________________________________________________________________________________
لتحميل الخطبة الرابعة بعنوان علامات قبول الأعمال
للتحميل بصيغة word
للتحميل بصيغة pdf
_____________________________________________________________________________________________
ولقراءة الخطبة الأولي كما يلي:
خطبة عيد الفطر المبارك : ولعلكم تشكرون
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: منزلة الشكر في الإسلام
العنصر الثاني: الشكر عمل
العنصر الثالث: وسائل تحقيق الشكر
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: منزلة الشكر في الإسلام
إن للشكر منزلة عليا في الإسلام؛ بل هو نصف الإيمان؛ والنصف الآخر هو الصبر؛ لأن حال المؤمن لا يخلو منهما؛ فَعَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ!! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ!! إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ!! وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ!!” (مسلم)؛ وفي ذلك يقول ابن القيم: ” الإيمان يبنى على الصبر والشكر, فنصفه صبر ونصفه شكر, فعلى حسب صبر العبد وشكره تكون قوة إيمانه” ( الفوائد).
وإذا كان الواحد منا لا يخلو حاله من هذين؛ فهو إما صابر وإما شاكر؛ فقد جمع الأنبياء بين مقامي الشكر والصبر؛ ليكونوا بذلك في أعلى درجات الإيمان؛ وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا! فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ ؛ وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ.” ( أحمد والترمذي).
ولو نظرنا إلى الصبر في حياة الأنبياء تجد أن الله خص أولى العزم منهم؛ فقال تعالى:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}(الأحقاف: 35)؛ وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي مقام الشكر نجد أن الله أثنى على أوّل رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشّكر. فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً }(الإسراء: 3) . كما أثنى سبحانه على خليله إبراهيم بشكره نعمه. فقال: { إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 120- 121)؛ فأخبر عنه سبحانه بصفات ثمّ ختمها بأنّه شاكر لأنعمه، فجعل الشّكر غاية خليله. وأمر الله- عزّ وجلّ- عبده موسى أن يتلقّى ما آتاه من النّبوّة والرّسالة وتكليمه إيّاه بالشّكر. فقال تعالى: { يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف: 144) . وبهذا جمع الله لأنبيائه بين مقامي الشكر والصبر ليكونوا في أعلى درجات الإيمان والتقوى!!
العنصر الثاني: الشكر عمل
لقد زيل الله آيات الصيام بالشكر، قال تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.( البقرة: 185) قال العلماء : ” شُكر الطاعة طاعة مثلها ” ، فشكر الصيام صيام مثله وهكذا ، بمعنى أنك صمت شهر رمضان والصيام لم ينته بعد، فهناك ست من شوال، والاثنين والخميس وغيرها، ولذلك هناك فرق بين الشكر والحمد ، فالحمد باللسان والشكر بالعمل ، فالشكر يكون من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليك، فإذا تكاسل العبد عن الطاعة فهذا يكون دليل على عدم قبول العمل عند الله، وإذا داوم عليها وثبتها فهذا دليل على قبولها عند الله، وكان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة- رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته.” (رواه مسلم)، وأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.”( متفق عليه)، وقَالَت عَائِشَةَ – رضي الله عنها -: ” كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً “( البخاري ومسلم.) ، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وما دام العمل لله فإن الله – جل وعلا – سيقبله برحمته.
يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “.. إن الناس يظنون أن الشكر أن يقول بلسانه: الحمد لله، الشكر لله، ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عزَّ وجلَّ”؛ ولهذا قال الله لآل داود { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }. ( سبأ : 13)؛ قال ثابت البناني : بلغنا أن داود نبي الله جزّأ الصلاة في بيوته على نسائه وولده ، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان قائم من آل داود يصلي ، فعمّتهم هذه الآية : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } (رواه ابن أبي شيبة) .
فالله أمر آل داوود بالعمل شكراً، لأن هناك فرقاً بين شكر القول وشكر العمل، فشكر القول باللسان يسمي حمداً وبالعمل يسمي شكراً ، لذلك قال: اعملوا ، ولم يقل: قولوا شكراً، لأن الشاكرين بالعمل قلة، لذلك زيل الآية بقوله: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
وقد مر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم برجل في السوق فإذا بالرجل يدعو ويقول : ( اللهم اجعلني من عبادك القليل .. اللهم اجعلني من عبادك القليل ) فقال له سيدنا عمر: من أين أتيت بهذا الدعاء؟ فقال هذا الرجل: إن الله يقول في كتابه العزيز : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }، وقال: { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ( ص : 24 )، فأسأل الله أن يجعلني من هؤلاء القليل، فبكى سيدنا عمر وقال: كل الناس أفقه منك يا عمر. ( رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والإمام أحمد جفى الزهد ).
فشكر النعمة استخدامها فيما خلقت له؛ فإذا أكرمك الله بمالٍ فلا تنفقه في حرام، وإذا أنعم الله عليك بتلفازٍ فلا تستعمله في حرام، وشبكة الانترنت تستخدمها في الدعوة إلى الله،…إلخ، لأن شكر النعم استخدامها في طاعة الله، وكفرها استخدامها في الفساد والإفساد.
ومَن رزقه الله علمًا فشكره بالإنفاق منه بأن يعلم غيره، ويفقه أهله وجاره، ومَن رزقه الله جاهًا، فشكره بأن يستعمله في تيسير الحاجات للآخرين، وقضاء مصالحهم.
ومَن أفاض الله عليه إيمانًا راسخًا، ويقينًا ثابتًا، فشكره أن يفيض على الآخرين من إيمانه، وأن يسكب عليهم من يقينه؛ وذلك بأن يذكرهم بنعم الله وآلائه، وأن يحيي في قلوبهم الرجاء والخوف والخشية من الله، وأن يُثَبِّت في قلوبهم بأن الآجال والأرزاق بيد الله، وأن الخلق لا يملكون له نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وأن من أسماء الله الحسنى أنه المحيي المميت، الرزاق، النافع الضار، القابض الباسط.
ومن رزقه الله الـذرية فإن شكرها يكون بأن يغرس في قـلبها عقيدة التوحيد من الصغر، وأن ينشئها على طاعة الله- عزَّ وجلَّ- وأن يحصنها ويعيذها من الشيطان كما أعاذت امرأة عمران ابنتها حين قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران: 36).
وكذلك شكر الله- عزَّ وجلَّ – على ما أنعم به علينا من جوارح، كاليدين والرجلين والعينين والأذنين وغيرها؛ أن نستخدمها في طاعة الله عز وجل؛ ” فقد روي أن أبا حازم جاءه رجل فقال له: ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيرًا أعلنته، وإن رأيت بهما شرًّا سترته.
قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًّا أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًّا لله- عزَّ وجلَّ- هو فيهما، قال فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعامًا، وأعلاه علمًا، قال فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله- عزَّ وجلَّ-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} (المؤمنون: 5 – 7)، قال: فما شكر الرِّجْلَيْنِ؟ قال: إن رأيت حيًّا غبطته بهما عمله، وإن رأيت ميتًا مقته كففتها عن عمله، وأنت شاكر لله- عزَّ وجلَّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر” «عدة الصابرين ».
ولقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (إبراهيم: 34)، وقال سبحانه: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (النحل: 18).
وهنا وقفة لطيفة، فتجد أن الله ختم الآيتين بخاتمتين مختلفتين؛ ففي سورة إبراهيم ختمت بقوله تعالى: {إن الإنسان لظلوم كفار}، وأما في سورة النحل فختمت بقوله تعالى: {إن الله لغفور رحيم} فما تعليل ذلك؟
ولتلمس العلة في ذلك- والله أعلم- أنقل ما ذكره الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير حيث يقول: «وقد خولف بين ختام هذه الآية (آية النحل)، وختام آية سورة إبراهيم؛ إذ وقع هنالك {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} لأن تلك جاءت في سياق وعيد وتهديد عقب قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا} فكان المناسب لها تسجيل ظلمهم وكفرهم بنعمة الله. وأما هذه الآية فقد جاءت خطابًا للفريقين، كما كانت النعم المعدودة عليهم منتفعًا بها كلاهما. ثم كان من اللطائف أن قوبل الوصفان اللذان في آية سورة إبراهيم {لظلوم كفار} بوصفين هنا {لغفور رحيم} إشارة إلى أن تلك النعم كانت سبباً لظلم الإنسان وكفره، وهي سبب لغفران الله ورحمته. والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان». أ. ه
وأقف وقفة عند قول الإمام ابن عاشور : ” والأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان” فأقول: الماء نعمة فإذا استخدمته في طاعة وحافظت عليه فقد شكرت النعمة وأديت حقها؛ فبذلك تنال الرحمة والمغفرة {إن الله لغفور رحيم}!!
أما إذا استخدمته في معصية وأسرفت فيه؛ فقد ظلمت نفسك وكفرت بالنعمة ولم تؤد حقها فبذلك دخلت في دائرة الظلم والكفران { إن الإنسان لظلوم كفار}!! فالأمر في ذلك منوط بعمل الإنسان!! وقس على ذلك بقية النعم من المال والتكنولوجيات الحديثة من النت والدش والفيس بوك والمحمول والبلوتوث وغير ذلك.
ولقد ذكر القرآن لنا نماذج عديدة من الأمم السابقة ممن بدلوا نعمة الله كفراً وماذا أحل بهم؛ وأكتفي بذكر مثالين:
الأول: قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(النحل:112).
والثاني: قوله تعالي:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } (سبأ: 15 – 17 } قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:” كانت سبأ في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم، وزروعهم وثمارهم، وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته؛ فكانوا كذلك ما شاء الله، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل، والتفرق في البلاد شذر مذر.”( تفسير ابن كثير) .
فاعلموا أن شكر الله على نعمه يستلزم مزيدها ونماءها؛ وجحد النعمة يستوجب زوالها وذهابها فضلا عن العذاب الشديد الذي أعده الله لصاحبها. وهذا هو العهد والميثاق الذي أخذه الله على نفسه في قوله:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ”(إبراهيم: 7).
قال بعض أهل العلم: « من أعطي أربعا لم يمنع أربعا: من أعطي الشّكر لم يمنع المزيد، ومن أعطي التّوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصّواب. » «إحياء علوم الدين» .
وقال بكر بن عبد الله المزنيّ: «قلت لأخ لي أوصني. فقال: ما أدري ما أقول غير أنّه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار، فإنّ ابن آدم بين نعمة وذنب، ولا تصلح النّعمة إلّا بالحمد والشّكر، ولا يصلح الذّنب إلّا بالتّوبة والاستغفار.» «عدة الصابرين» .
وبالمثال يتضح المقال ؛ فتعالوا من خلال هذه القصة النبوية نعرف جزاء شكر النعمة وكفرها .
فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” إِنَّ ثلاثَةَ نَفَرٍ في بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَبْرَصَ ، وأَقْرَعَ ، وأَعْمَى ، بدَا للهِ أنْ يَبْتَلِيَهُمْ فبعثَ إليهِم مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ ، فقال : أيُّ شيءٍ أحبُّ إليكَ ؟ قال : لَوْنٌ حَسَنٌ ، وجِلْدٌ حَسَنٌ ، قد قَذَّرَنِي الناسُ ، فَمسحَهُ ، فذهبَ ، وأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا ، وجِلْدًا حَسَنًا ، فقال : أيُّ المالِ أحبُّ إليكَ ؟ قال الإِبِلُ ، فَأُعْطِيَ ناقَةً عُشَرَاءَ ، فقال : يباركُ لكَ فيها ، وأَتَى الأَقْرَعَ ، فقال : أيُّ شيءٍ أحبُّ إليكَ ؟ قال : شَعْرٌ حَسَنٌ ، ويذهبُ هذا عَنِّي ، قد قَذَّرَنِي الناسُ ، فَمسحَهُ ، فذهبَ ، وأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا ، قال : فَأيُّ المالِ أحبُّ إليكَ ؟ قال : البَقَرُ ، فَأَعطَاهُ بَقْرَةً حامِلا ، وقال : يباركُ لكَ فيها ، وأَتَى الأَعْمَى ، فقال : أيُّ شيءٍ أحبُّ إليكَ ؟ قال : يردُ اللهُ إلِي بَصرِي ، فَأُبْصِرُ بهِ الناسُ ، فَمسحَهُ ، فَرَدَّ اللهُ بَصَرَهُ ، قال : فَأيُّ المالِ أحبُّ إليكَ ؟ قال : الغنمُ ، فَأعطاهُ شَاةً والِدًا ، فَأنتَحَ هذانِ ، ووَلَّدَ هذا ، فكانَ لِهذا وادٍ من إِبِلٍ ، ولِهذا وادٍ من بَقَرٍ ، ولِهذا وادٍ من غَنَمٍ ، ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُورَتِه وهَيْئَتِه ، فقال : رجلٌ مِسْكِينٌ ، تقطعَتْ بهِ الحبالُ في سَفَرِهِ ، فلا بَلاغَ اليومِ إلَّا باللهِ ، ثُمَّ بِكَ ، أسألُكَ بِالذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ والجِلْدَ الحَسَنَ ، والمالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عليهِ في سَفَرِي ، فقال لهُ : إنَّ الحقوقَ كثيرةٌ ، فقال لهُ : كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يُقَذِّرُكَ الناسُ ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ ؟ فقال : لقد ورِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ ، فقال : إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنْتَ ، وأَتَى الأَقْرَعَ في صُورَتِه وهَيْئَتِه ، فقال لهُ مِثل ما قال لِهذا ، ورَدَّ عليهِ مِثْلَ ما رَدَّ عليهِ هذا . قال إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إلى ما كُنْتَ ، وأَتَى الأَعْمَى في صُورَتِه وهَيْئَتِه فقال : رجلٌ مِسْكِينٌ وابْنُ سَبيلٍ ، وتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبالُ في سَفَرِي فلا بَلاغَ اليومَ إِلَّا باللهِ ، ثُمَّ بِك ، أسألُكَ بِالذي رَدَّ عليكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِها في سَفَرِي ، فقال : قد كُنْتُ أَعْمَى ، فَرَدَّ اللهُ بَصَرِي ، وفقيرًا ، فَخُذْ ما شِئْتَ ، فوَاللهِ لا أحمدُكَ اليومَ لِشيءٍ أَخَذْتَهُ للهِ ، فقال : أَمْسِكْ مالكَ ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ ، فقد رضيَ اللهُ عَنْكَ ، وسَخِطَ على صاحبَيْكَ.” ( متفق عليه ).
العنصر الثالث: وسائل تحقيق الشكر
قد يقول قائل؛ إن قيمة الشكر قيمة جميلة ومقام محمود أريد أن أبلغه؛ فما هي الوسائل والأسباب المعينة والموصلة إلى درجة الشكر؟!
أقول: جمعتها ولخصتها لكم فيما يلي:
أولاً: الدعاء: وذلك بأن تكثر من الدعاء بأن يجعلك الله من الشاكرين. كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا فقال:” يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.”(أحمد وأبوداود والنسائي)؛ والأقرب أن هذا الدعاء يقال في آخر الصلاة قبل السلام. فيحسن بالمؤمن أن يكثر الدعاء بتيسير الشكر في كل حال. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء أن يجعله الله شكارا بصيغة المبالغة في الشكر فيقول:”… رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مُطِيعًا إِلَيْكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا…” ( أحمد والترمذي وابن ماجة).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَنَّامٍ الْبَيَاضِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ. وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ .”( أبوداود)
ثانيا: ملازمة تقوى الله والعمل بطاعته: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. قال ابن إسحاق:”أي: فاتقوني؛ فإنه شكر نعمتي” [السيرة3/113].
ولهذا كان صلى الله عليه يقوم الليل حتى تتورم قدماه شكراً لله تعالي؛ فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!” ( متفق عليه )؛ فكثير منكم يتقاعس حتى عن صلاة الفرض!! فهل أنتم شاكرون؟!!
ثالثا: التفكر في نعم الله عليك: قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. فانظر في نفسك كم نعمة تحملها؟!! وفي الكون كم نعمة أسداها الله لك؟!! فالمؤمن إذا شاهد نعمة تذكر حق المولى عليه وأحدث ذلك في نفسه شكرا عظيما لمولاه !! كما حصل للنبي سليمان عليه الصلاة والسلام لما سمع كلام النملة؛ فاستشعر عظيم نعمة الله عليه بسعة ملكه وتسخير البهائم له ومعرفته منطقهم؛ فشكر الله في الحال وخضع قلبه لله!! قال تعالى: { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ* فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}.( النمل: 18 ؛ 19) .
رابعا: القناعة والرضا وعدم النظر إلى ما في يد الغير: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ:” كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ؛ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ.” [ابن ماجة والبيهقي]. فينبغي على العبد أن يقنع ويرضى بما قسمه الله له؛ ولا ينظر إلى من هو أعلى منه في الدنيا ؛ فإن ذلك أدعى لكمال الشكر؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا؛ وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا. وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ؛ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا.” ( الترمذي وابن ماجة)؛ فلو نظر الإنسان إلى أحوال الفقراء والمساكين والمتضررين الذين هم أنزل وأقل منه في الدنيا؛ لأدرك قلبه عظيم النعم التي هو فيها فيحدث ذلك شكرها لتثبت وتزيد!!
خامسا: المداومة على صلاة الضحى: لأن المداومة على صلاة الضحى يوميا شكرٌ لنعمة الصحة والعافية؛ فعن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» [البخاري ومسلم].
سادسا: تذكر السؤال على النعم يوم القيامة: فينبغي على الإنسان أن يتذكر في كل نعمة أسديت إليه أنه مسئول عنها أمام الله؛ فإن ذلك أدعى لتمام الشكر !! قال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}. قال ابن كثير:” ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك. ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.”
وقفت عند هذه الآية متأملاً قائلاً: الرسول- عليه السلام- دخل على صحابته الكرام وهم يأخذون الخبز فيغمسونه في الزيت أو الخل. فقال لهم:” لتسألن يومئذ عن النعيم!!” ؛ فكيف لو رأى زماننا هذا ؟!! إنهم مع حالهم أشكر منا لله عز وجل!! ونحن قد أغدقنا الله بالنعم غدقا ومع ذلك استعملناها في التخريب والفساد والإفساد والجحود والكفران!! وهذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم؛ روي أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ دَخَلَ يَوْمًا الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ نَمِرَةٌ قَدْ تَخَلَّلَتْ فَرَقَّعَهَا بِقِطْعَةٍ مِنْ فَرْوَةٍ، فَرَّقَ َرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَقَّ أَصْحَابُهُ لِرِقَّتِهِ، فَقَالَ: ” كَيْفَ أَنْتُمْ يَوْمَ يَغْدُو أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَيَرُوحُ فِي أُخْرَى، وَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَصْعَةٌ وَتُرْفَعُ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمُ الْبُيُوتَ كَمَا نَسْتُرُ الْكَعْبَةَ؟”، قَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَصَبْنَا الرَّخَاءَ وَالْعَيْشَ، قَالَ:” فَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكَ”(حلية الأولياء).
فاذكروا الله يذكركم ؛ واشكروه على نعمه يزدكم ؛ واستغفروه يغفر لكم . قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]. قال بعض السلف رحمهم الله تعالى: “النعم وحشية فقيدوها بالشكر”. وقال الحسن البصري: “إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذالم يشكر عليها قلبها عذابا، ولهذا كانوا يسمون الشكر: الحافظ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب، لأنه يجلب النعم المفقودة.”
وقال كعب الأحبار- رحمه الله تعالى-: «ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدّنيا فشكرها لله، وتواضع بها لله إلّا أعطاه الله نفعها في الدّنيا ورفع له بها درجة في الآخرة. وما أنعم الله على عبد نعمة في الدّنيا، فلم يشكرها لله، ولم يتواضع بها إلّا منعه الله نفعها في الدّنيا، وفتح له طبقات من النّار يعذّبه إن شاء أو يتجاوز عنه” . «عدة الصابرين» .
فعليكم بمداومة شكر العبادة؛ فشكر الصيام صيام مثله؛ وشكر الصلاة والقيام كذلك بالمثل؛ وشكر الإنفاق إنفاق مثله ؛ وبذلك تكون دائم الشكر ؛ مقتدياً بحبيبك صلى الله عليه وسلم : ” أفلا أكون عبداً شكوراً “.
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
وكل عام وأنتم بخير ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
——————————————————————————————————————————————–
ولقراءة الخطبة الثانية كما يلي:
خطبة عيد الفطر المبارك: الاستقامة والثبات على الطاعة
عناصر الخطبة
◀ العنصر الأول: مفهوم الاستقامة ومنزلتها
◀ العنصر الثاني: جوانب ومجالات الاستقامة
◀ العنصر الثالث: عوامل تحقيق الاستقامة
◀ العنصر الرابع: ثمرات وفوائد الاستقامة
◀ العنصر الخامس: شهادة الأرض على العبد يوم القيامة بالطاعة والمعصية
المقدمة: أما بعد،،،،،،،،،
◀ العنصر الأول: مفهوم الاستقامة ومنزلتها
لقد غمرتني الفرحة حينما رأيت المسجد مكتظاً بالمصلين مع أول ليلة من رمضان ؛ وما هي ليلة أو ليلتان وبدأ المصلون ينقرضون رويداً رويداً ؛ قلت : سبحان الله !! لماذا لا يستقيم الناس على طاعة الله في رمضان وغير رمضان ؟!!
لذلك جاء الحديث في هذا اللقاء عن الاستقامة ؛ فتعالوا معنا نقف حول مفهوم الاستقامة .
يقول ابن رجب:” الاستقامة : هي سلوكُ الصِّراط المستقيم ، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريج عنه يَمنةً ولا يَسرةً ، ويشمل ذلك فعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها.” (جامع العلوم والحكم) .
ومن خلال هذا التعريف الجامع للاستقامة نجد أنها تطلق على معنيين :
الأول : الوسطية والاعتدال ؛ فهي وسط بين الغلو والتقصير ، وكلاهما منهي عنه شرعاً.
والثاني: المداومة والثبات على الطاعة .
ولما كان من طبيعة الإنسان أنه قد يقصر في فعل المأمور ، أو اجتناب المحظور ، أو انحرف عن الوسطية يمنة أو يسرة ؛ وهذا خروج عن الاستقامة ، أرشده الشرع إلى ما يعيده لطريق الاستقامة ، فقال تعالى مشيراً إلى ذلك : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } ( فصلت: 6) .
فأشار إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها ، وأن ذلك التقصير يجبر بالاستغفار المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة.
فعَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ “[ الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ].
وقد أكد القرآن الكريم على لزوم الاستقامة في مواضع متعدة من كتاب الله ؛ فقال تعالى: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ( الشورى: 15). وقال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }. ( الأنعام: 153) ، وقال: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. (هود: 112) .
يقول ابن كثير رحمه الله : ” يأمر الله – تعالى – رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ، ومخالفة الأضداد ، وينهى عن الطغيان وهو البغي ؛ فإنه مصرعة حتى ولو على مشرك ، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ، ولا يخفى عليه شيء “.
” وقال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « شيبتني هود وأخواتها ، » وعن بعضهم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له : روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال : « نعم » فقلت : وبأي آية؟ فقال بقوله : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } . “. ( تفسير الرازي).
وكما حفل القرآن بالعديد من الآيات التي تأمر بالاستقامة؛ فكذلك حفلت السنة النبوية المشرفة بالعديد من الأحاديث التي تحث على الاستقامة ولزومها في كل وقت وحين .
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وأِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. ( أحمد وابن ماجة ).
وأمر نبي الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابه بالاستقامة، فعن عبد الله بنِ عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنَّ معاذَ بن جبل أراد سفراً، فقال: يا رسولَ الله أوصني، قال: «اعبد الله، ولا تشرك به شيئاً». قال: يا رسول الله زِدني. قال: «إذا أسأتَ فأحسنْ»، قال: يا رسول الله زدني. قال: «استقم ولْتُحْسِنْ خلقك». (الطبراني والحاكم ).
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ: « آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ». ( أحمد والطبراني والنسائي ).
كما أكدت السنة على استقامة اللسان؛ لأن به استقامة الجوارح كلها .
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرفُوعاً قَالَ: ”إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا؛ وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا” . [ الترمذي بسند حسن ].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ؛ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ “. ( أحمد والطبراني والبيهقى بسند حسن ).
يقول ابن رجب :” متى استقام القلبُ على معرفةِ الله ، وعلى خشيته ، وإجلاله ، ومهابته ، ومحبته ، وإرادته ، ورجائه ، ودعائه ، والتوكُّلِ عليه ، والإعراض عما سواه ، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته ، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء ، وهي جنودهُ ، فإذا استقامَ الملك ، استقامت جنودُه ورعاياه ؛ وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه ، ولهذا لما أمر النَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – بالاستقامة ، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه “. ( جامع العلوم والحكم ).
◀ العنصر الثاني: جوانب ومجالات الاستقامة
إذا نظرنا إلى جوانب ومجالات الاستقامة، نجد أن الاستقامة تشمل جوانب الدين وأموره كلها؛ فالدين الإسلامي يشتمل على ثلاثة أقسام: عقيدة ؛ وشريعة ( عبادة ) ؛ وأخلاق .
وحتى تتحقق الاستقامة للعبد لابد أن يجمع بين هذه الجوانب الثلاثة في الاستقامة ؛ وهاك البيان :
◀ الجانب الأول: الاستقامة على العقيدة الصحيحة:
فلابد من الاستقامة على العقيدة الصحيحة، العقيدة التي هي: إيمان بالله عز وجل، وتوحيد له بجميع أنواع التوحيد..الإلهيات والسمعيات والنبوات.
استقامة على العقيدة التي تعني أن الإيمان قول وعمل، وليس هو تلفظ باللسان فقط. العقيدة التي تدفع الإنسان إلى العمل، ليس ذلك الإسلام البارد، الذي هو مجموعة من الألفاظ التي يتلفظ بها الناس.. لأن هناك مشكلة في سلوك كثير من المسلمين، وهي أن اعتقاداتهم التي يؤمنون بها ليست حافزاً لهم على العمل، ولا دافعاً لهم لمزيد من التقديم في طاعة الله عز وجل.
فالاستقامة الحقة تتمثل في عقيدة وسطية خالصة لله ؛ مجانبة للغلو أو التقصير في حق الله تعالى وحق أنبيائه وحق الغيبيات كلها ؛ بعيدة عن الأوهام والخرافات والعقائد الفاسدة التي تهدم أصول الدين الإسلامي السمح الحنيف .
◀ الجانب الثاني: الاستقامة في العبادات مع لزوم الاتباع وترك الابتداع:
وهنا يؤكد الرسول – صلى الله عليه وسلم – في باب العبادات على الاستقامة في أداء العبادات اقتداء به واستقامة على هديه وطريقته ؛ ففي الصلاة قال: ” صلُّوا كما رأيتُموني أصلِّي ” (رواه البخاري).
وفي الحج قال”خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ” (رواه مسلم والنسائي).
ولما علم الرسول شدة اقتداء الصحابة به صلى الله عليه وسلم وخاصة في مناسك الحج خشي عليهم الازدحام والتقاتل في أداء المناسك فرفع عنهم الحرج؛ فعن جابر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:” قد نحرت هاهنا، ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة، فقال: قد وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة، فقال: قد وقفت هاهنا، والمزدلفة كلها موقف” ( أبوداود ).
تصورت هذا المشهد من ازدحام الناس عند جبل الرحمة في أرض عرفات وقلت: لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقفت ها هنا وهذا هو الموقف!! ونحرت ها هنا وهذا هو المنحر!! لتقاتل الناس وهلك الكثير ؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بأمته.
وفي الصيام اتبعوه- صلى الله عليه وسلم- في الوصال فنهاهم رحمة ورأفة بهم وشفقة عليهم؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ” نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟! إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ؛ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ؛ فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ ؛ كَالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا ” ( البخاري ).
ولشدة اقتداء الصحابة به – صلى الله عليه وسلم- اتبعوه في خلع نعله أثناء الصلاة ، مع أن هذا الأمر خاص به – لعارض – دون غيره.
فقد أخرج أبو داود والحاكم والببهقي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِذْ وَضَعَ نَعْلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ فَأَلْقَى النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ ، قَالَ: ” مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ ؟ “، قَالُوا : رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ فَأَلْقَيْنَا، فَقَالَ: ” إِنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا أَوْ أَذًى فَمَنْ رَأَى – يَعْنِي – فِي نَعْلِهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُمَا ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا .”
فعليكم بالاستقامة في جميع العبادات مع الاتباع لا الابتداع ؛ مع مجانبة الانحراف في العبادة عن الوسطية السمحة حتى لو كان الذي يجرك إلى ذلك يطير في الهواء أو يمشي على الماء لإيهامك أنه وصل العلا .
” حُكِي للإمام الشافعي رحمه الله ما قاله الليث بن سعد، فقيه مصر ومفتيها في زمانه: “لو رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فقال: “لقد قصَّر الليث، لو رأيتم الرجل يمشي على الماء، أو يطير في الهواء، فلا تعتدوا به ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب”. (فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب – محمد عويضه ).
◀ الجانب الثالث: الاستقامة في جانب السلوك والأخلاق:
والاستقامة تكون كذلك في جانب السلوك، فلابد أن يكون سلوك الإنسان مستقيماً، ولابد أن تكون أخلاقه مستقيمة، فلا يتلبس بشيء من سفاسف الأمور أو الأخلاق السيئة، ولذلك يعتقد بعض الناس أن الاستقامة فقط في قضايا الأخلاق، فترى أحدهم يُسأل عن فلان: ما رأيك في فلان؟ فيقول: هو والله مستقيم، تسأله: كيف هو مستقيم؟ يقول: لا يكذب، ولا يشتم، ولا يسب، وإنسان لطيف، ومعاملته طيبة، وهو مستقيم لا يستعمل الرشوة، لا يخون في معاملته، إنسان مستقيم. لكن قد يكون هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات لا يصلي، وقد يكون خرج إلى الفسق بقضايا كثيرة، ومخالفات عديدة، يرتكبها في حق نفسه.
فالناس اليوم يعبرون عن الاستقامة، ويقولون: إنسان مستقيم لمجرد الأخلاق الطيبة، والأخلاق الطيبة في حد ذاتها جيدة مطلوبة لكنها لا تكفي، وهذا الفهم للاستقامة فهم قاصر جداً؛ لأنهم اقتصروا على الاستقامة في جانب واحد من الجوانب.
وهكذا تشمل الاستقامة جوانب الدين الثلاثة : العقيدة والعبادة والأخلاق ؛ وإذا تحققت هذه الجوانب الثلاثة أصبح العبد مستقيماً كامل الاستقامة .
يقول الإمام القشيري في رسالته : ” الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها ، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها ، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده “.
علماً بأن منزل الاستقامة صعب المنال ؛ ولا يمكن إحصاؤه إلا بجهد واجتهاد ؛ فعَنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ :” اسْتَقِيمُوا ، وَلَنْ تُحْصُوا “. ( أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه ) .
” قال ابن نافع معناه : ولن تحصوا الأعمال الصالحات ولا يمكنكم الاستقامة في كل شيء. وقال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه معناه عندي: لا يمكنكم استيعاب أعمال البر من قوله تعالى : ( والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه ) . وقال مطرف معناه : ولن تحصوا مالكم من الأجر إن استقمتم “.( شرح الموطأ للباجي ).
ولذلك منزل الاستقامة لا يصل إليه إلا الأكابر في العبادات والطاعات . يقول النووي:” الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات ، والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق “. ( شرح مسلم ). وقال ابن رجب :” لن تقدروا على الاستقامة كلها “. ( جامع العلوم والحكم ).
◀ العنصر الثالث: عوامل تحقيق الاستقامة
قد يقول قائل : كل إنسان يتمنى الاستقامة على الطاعة والعبادة فكيف ذلك ؟!!
أقول : هناك عدة عوامل تعينك على لزوم الاستقامة على الطاعة وتتمثل فيما يلي:
أولاً: الدعاء :
فنحن نقول في كل ركعة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }(الفاتحة: 6) . وقال تعالى: { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس: 25) . فالهداية بيد الله، وسبيل نيلها دعاؤه.
ثانياً: الصبر على الطاعة:
وقد ذكرت ذلك بالتفصيل في درس الصبر على الطاعة؛ وكيفية تحقيقه ؛ فالإنسان إذا فعل المأمورات واجتنب المنهيات هدي إلى الاستقامة؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } (آل عمران: 66-68) . روى ابن أبي حاتم في التفسير أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، قال: «صدقت يا أبا بكر».
ثالثاً: اتباع القرآن والسنة:
فاتباع القرآن وأوامره ونواهيه متمثل في قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ }. (الأحقاف: 29). واتباع السنة متمثل في قوله تعالى:{ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.(المؤمنون: 73 ).
رابعاً: بالإيمان: قال تعالى: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ( الحج: 54)
◀ البرنامج العملى للاستقامة :
قد يقول قائل: أريد خطة أو برنامجاً عملياً أسير عليه لأسلك طريق الاستقامة:
أقول: خطة العمل وبرنامجه الذي يسير عليه في طريق الاستقامة أمور ثلاثة :
أولها : التخلية . ثانيها : التحلية . ثالثها : الثبات .
فلا بد من المجيء بالتخلية الذي هو تخلية نفسك وروحك مما كنت فيه في أوقات الجاهلية ، ومفاهيم خاطئة وسلوكيات مشينة وغير ذلك .
وكذلك لا بد من التحلية ، بأن تحلي نفسك بأوامر الإسلام من واجبات, وفرائض ومستحبات, وسنن وأخلاقيات وغير ذلك .
كما أنه لا بد من أن يثلث بالثبات على الاستقامة إلى أن يتوفاه الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك هذه الثلاثة هي البرنامج العملي الذي يسير عليه الإنسان منذ أن وضع أولى خطواته في طريق الاستقامة ، فلا بد أن يباشر عملية التخلية ، فيتخلى عن معايبه ,وسيئاته ,والمفاهيم الخاطئة التي حملها معه في جاهلية جهلاء تاه فيها ، أو ضلالة عمياء كان في أوحالها ، أو خبط عشواء ، ولو كان يسميه الناس الرجل العادي ، ورجل الشارع .
وهو أيضا بحاجة إلى تحلية ، أن يحلي نفسه بما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه بجميع المأمورات ، والتخلي عن المنهيات والتزود بالإيمان الذي عند أهل السنة والجماعة ، يزيد وينقص ، كذلك هو بحاجة إلى مثبتات تثبته على هذا الطريق حتى لا يغوى .
◀ العنصر الرابع: ثمرات وفوائد الاستقامة
أحبتي في الله: إن العبد إذا استقام في جوانب الإسلام الثلاثة عاد ذلك عليه بثمرات وفوائد كثيرة في الدنيا والأخرة ؛ وذلك من خلال قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }.( فصلت : 30 – 32). من هذه الآية وغيرها نستنتج بعضاً من ثمرات الاستقامة منها:
1ـ طمأنينة القلب بدوام الصلة بالله عز وجل.
2ـ أن الاستقامة تعصم صاحبها – بإذن الله عز وجل – من الوقوع في المعاصي والزلل وسفاسف الأمور والتكاسل عن الطاعات.
3ـ تنزل الملائكة عليهم عند الموت ، وقيل: عند خروجهم من قبورهم ، قائلين : { ألا تخافوا ولا تحزنوا} على ما قدمتم عليه من أمور الآخرة ، ولا ما تركتم من أمور الدنيا من مال وولد وأهل.
4ـ حب الناس واحترامهم وتقديرهم للمسلم المستقيم ، سواء كان صغيراً أو كبيراً على ما يظهر عليه من حرص على الطاعة ، والخلق الفاضل والاستقامة في المعاملات.
5ـ وعد الله المتقين أن لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم ، وتلذ أعينهم ، وتطلبه ألسنتهم ، إحساناً من الله تعالى.
ألا فالزموا الاستقامة في جميع جوانب حياتكم ؛ ومن كان في رمضان محافظاً على عقيدته ؛ ومحافظاً على جميع العبادات في أوقاتها من الصيام والصلاة والصدقات والقرآن وغير ذلك من الطاعات ؛ ومن كان محافظاً مستقيماً في سلوكياته وأخلاقياته في الصيام ؛ فليحافظ على كل ذلك ويستقيم عليه إن شاء الله بعد رمضان ؛ حتى يكون مستقيماً عند الله ؛ فخير العمل أدومه وإن قل .
◀ العنصر الخامس: شهادة الأرض على العبد يوم القيامة بالطاعة والمعصية
عباد الله: كثير من الناس – للأسف – إذا انقضى رمضان قطع العبادة من صلاة وصيام وقيام وقراءة قرآن وغير ذلك؛ وهؤلاء عبَّاد رمضان لا عبَّاد الرحمن؛ وإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعبده على طول الدوام حتى الموت؛ قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99) . يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: ” يستدل من هذه الآية الكريمة على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب” ؛ وأن الأنبياء، عليهم السلام، كانوا هم وأصحابهم أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. والمراد باليقين هاهنا الموت.” أ.ه .
أيها المسلمون: إن كل مكان من الأرض سجدتم لله فيه سجدة في رمضان وفي غيره سيشهد لكم أمام الله يوم القيامة؛ قال تعالى: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة: 4 ]؛ فعن أَبي هريرة – رضي الله عنه -: قرأ رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم -: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة: 4 ] ثُمَّ قَالَ: ” أتَدْرونَ مَا أخْبَارهَا؟ قالوا: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: ” فإنَّ أخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلّ عَبْدٍ أَوْ أمَةٍ بما عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ: عَملْتَ كَذَا وكَذَا في يَومِ كَذَا وكَذَا فَهذِهِ أخْبَارُهَا”. (الترمذي، وَقالَ: حديث حسن صحيح).
نعم ستتكلم الأرض بأمر من الله ستقول: فلان شرب الخمر مع فلان، فلان ذهب إلى الفجور والزنا، فلان لم يعمل في عمله بأمانة، فلان سرق من أموال الناس، فلان غش في بيعه، فلان ظلم، ستشهد عليك يا ابن ادم، ستشهد على كل معصية فعلتها عليها، وستشهد كذلك لأهل الخير بالخير ستقول: فلان سجد عليّ وبكى، فلان تلا كتاب الله، فلان سعى إلى المساجد، فلان نصر مظلوما، فلان تصدق على الفقراء… فلان عبد الله وصلى..ستشهد لأهل الطاعات بطاعاتهم، ولذلك اسمعوا إلى وصية أبي الدرداء الصحابي الجليل وهو يقول: ” اذكروا الله عند كل حُجيرة وشجيرة لعلها تأتي يوم القيامة تشهد لكم “، وهذا ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: ” من سجد في موضع عند شجر أو حجر شهد له يوم القيامة عند الله”. وقال عطاء الخراساني: ” ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له بها يوم القيامة، وبكت عليه يوم يموت “.
وعن الحكم رضي الله عنه قال: ” رأيت أبا أُميَّة صلَّى في المسجد الحرام الصَّلاة المكتوبة، ثمَّ تقدَّم فجعل يصلِّي هَهُنا وهَهُنا، فلما فرغ قلت له: ما هذا الَّذي رأيتك تصنع؟ قال: قرأت هذه الآية { يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها } فأردت أن تشهد لي يوم القيامة “..هذا درس من أبي أُميَّة لكل المسلمين: لا تصلوا في مكان واحد بل غيروا أماكن الصلاة والعبادة كي تشهد لكم يوم القيامة، نحن نشاهد اليوم الكثير من المسلمين وخاصة الكبار من يأتي إلى المسجد ولا يصلي إلا في مكان واحد وكأنه قد اشتراه فلا يرضى لأحد أن يصلي فيه بل هو مكانه الذي يعرفه المصلون.
فداوموا على الصلاة والسجود؛ وحافظوا عليها على طول الدوام …فطوبى لمن شهد له المكان بالذكر والتلاوة والصلاة ونحوها؛ وويل لمن شهد عليه بالزنا وشرب الخمر والسرقة والظلم.
أيها المسلمون: إن من ترك الصلاة والعبادة بعد رمضان فإن الأرض بما حوت تلعنه وتديم اللعنة عليه؛ وقد جاء في الأثر أن تارك الصلاة تلعنه اللقمة التي يأكلها والشربة التي يشربها فتقول: لعنك الله تأكل من رزق الله ولا تؤدي حق الله ؛ تارك الصلاة تلعنه الكائنات، والعجماوات، تتضرر النملة في جحرها من تارك الصلاة، وتلعنه الحيتان في الماء لأنه ترك الصلاة؛ تارك الصلاة تلعنه الصلاة نفسها : يـا تـاركـاً لـصلاتـه ………………….إن الـصلاة لـتشتـكي
وتـقول فـي أوقـاتها ………………..الله يـلعـن تـاركـي!!!!!
فهل تحب أن تشهد لك الأرض بالخير؟!! أم تحب أن تلعنك وتشهد عليك أمام الله؟!!
أسأل الله أن يهدينا صراطاً مستقيماً ؛ ويؤتينا من لدنه أجراً عظيماً ؛؛؛
وكل عام وأنتم بخير ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
—————————————————————————————————————————————–
ولقراءة الخطبة الثالثة كما يلي:
خطبة عيد الفطر المبارك: خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين
العنصر الثاني: آداب العيد وسننه
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: خواطر ولطائف حول العيدين
أحبتي في الله: هناك عدة خواطر ولطائف مشتركة بين العيدين الكريمين؛ وهذه الخواطر تتمثل فيما يلي:-
الخاطرة الأولى : أن الله جعل عيداً لأول نزول القرآن وعيداً لآخره
فقد بدأ نزول القرآن في ليلة القدر وأعقبه بعيد الفطر !! قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ( البقرة : 185 )؛ وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } ( سورة القدر )
وختم نزوله بحلاله وحرامه وإتمام النعمة في يوم عرفه وأعقبه بعيد الأضحى . فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا؛ قَالَ أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:5]. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.”(متفق عليه)؛ ولذلك فهو يوم عيد ؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.” (أحمد والترمذي أبو داود والنسائي والحاكم وصححه). فكأن الله جعل عيدا لأول نزول القرآن وعيدا لآخر نزوله !
الخاطرة الثانية: تكريم الفقراء في العيدين الكريمين
فقد أكد الشارع الحكيم على سعادة وفرحة الفقراء في العيدين الكريمين وإدخال السرور عليهم ؛ ففي عيد الفطر فرضت زكاة الفطر طعمة للفقراء والمساكين وإغناءً لهم عن السؤال في هذا اليوم ؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ.” ( أبو داود وابن ماجة ) .
وتكريما للفقير وإعلاءً من شأنه أنه أوجب عليه زكاة الفطر كالغني تماما ؛ لأنها تجب على من عنده قوت يكفيه يوم وليلة العيد ؛ وهو بلا شك تجتمع عنده زكوات الحي كله ؛ فأصبحت واجبة عليه كالغني تماما ؛ فيخرجها لأخيه الفقير ؛ فإذا كان الفقير يمد يده طوال العام آخذاً ؛ فقد رفع الإسلام شأنه أن يمد يده في هذا اليوم معطياً لا آخذاً ؛ لتكتمل فرحة وسعادة وبهجة العيد في قلبه وقلب أولاده !!
وفي عيد الأضحى شرعت الأضحية وأصبحت سنة مؤكدة؛ ومن الفقهاء من أوجبها على القادر لأهميتها وفضلها ؛ لما فيها من إغناءٍ وإطعامٍ للفقراء وإدخال البهجة والسرور عليهم في هذا اليوم ؛ فإن فيهم من لا يأكل هذا اللحم من العام إلى العام؛ وهذا تنفيذ لأمر الله المكرر والمؤكد في القرآن ؛ حيث قال المولى – جل في علاه – عن الأضاحي: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }(الحج: 28) . وقال: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } ( الحج: 36 ).
وإذا كان الإسلام رفع شأن الفقير أن يدفع زكاة الفطر تكريما له ؛ فقد رفع شأنه في أخذه الأضحية؛ حيث يستوي هو والغني تماماً في الأخذ من الأضحية ولا سيما أقارب المضحي من الأغنياء والجيران؛ فكرم الفقير معطياً كالغني في عيد الفطر ؛ وآخذاً كالغني أيضاً في عيد الأضحى !!
بل إن هناك جمعياتٍ خيريةً ؛ ورجال أعمالٍ يذبحون أضاحي عن الفقراء من أهل الحي عندهم ؛ وهذه كلها مبادئ إسلامية رفيعة؛ فيها البر والإحسان والتعاون والتآلف والتواد والتراحم؛ وكلها مظاهر من التكريم والفرحة والبهجة وإدخال السرور على الفقراء والمساكين في العيدين الكريمين؛ فما أجمل هذا الدين الحنيف !!
الخاطرة الثالثة : شعيرة التكبير في العيدين :
فالله- عز وجل – أمرنا بالتكبير عند اكتمال عدة رمضان ورؤية هلال شوال ( عيد الفطر ) قال تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .
وفي الحديث عن الأضاحي في عيد الأضحى أمرنا الله بالتكبير فقال: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج: 37)
فالتكبير في العيدين من شعارات المسلمين، وسنة من سنن سيد المرسلين، وعلامة من علامات الفرحة لدى الموحدين، وابتهاج بقدوم العيدين، وفيه قمع وغيظ للكفار والمنافقين.
فالإنسان في أيام العيد يكون مشغولاً بشهوات الأكل والشرب واللعب والمرح ؛ ومع ذلك أمر بالتكبير وأن الله أكبر من كل شئ فلا ننساه في كل وقت وحين حتى أيام العيد . ” قال بعض الأكابر : من أعظم أسرار التكبير في هذه الأيام أن العيد محل فرح وسرور ؛ وكان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة ؛ وتارة بغيا ؛ شرع فيه الإكثار من التكبير لتذهب من غفلتها وتكسر من سورتها.” (فيض القدير ؛ للمناوي) .
الخاطرة الرابعة: شكر الله
فالله أمرنا بالشكر في العيدين الكريمين على إتمام فريضتين عظيمتين وهما : الصيام والحج . ففي الصيام قال تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .
وفي الحج عند الحديث عن الأضاحي قال: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الحج: 36)؛ أي: تشكرون الله على ما أنعم عليكم من الصيام والقيام والحج وجميع الطاعات.
قال ابن كثير : ” وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.”
قال العلماء : ” شُكر الطاعة طاعة مثلها ” ، فشكر الصيام صيام مثله وهكذا ، بمعنى أنك صمت شهر رمضان والصيام لم ينته بعد، فهناك ست من شوال، والاثنين والخميس وغيرها، ولذلك هناك فرق بين الشكر والحمد، فالحمد باللسان والشكر بالعمل ، قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }.( سبأ : 13)، فالشكر يكون من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليك، فإذا تكاسل العبد عن الطاعة فهذا يكون دليل على عدم قبول العمل عند الله، وإذا داوم عليها وثبتها فهذا دليل على قبولها عند الله، وكان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم – المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة- رضي الله عنها – قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم – إذا عمل عملاً أثبته) (رواه مسلم)، وأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)( متفق عليه)، وقَالَت عَائِشَةَ – رضي الله عنها -: ” كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً “( البخاري ومسلم).
الخاطرة الخامسة: ملازمة تقوى الله
فقد شرع الصيام والحج من أجل تحقيق تقوى الله عز وجل؛ ففي الصيام قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }( البقرة : 183)، فالغاية منه التقوى، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فمن صام ولم يحقق التقوى فلا صيام له، لقوله – صلى الله عليه وسلم- :” رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ” (رواه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرطهما.).
وفي الحج قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (197)؛ وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32). وقال عن الأضاحي: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }(الحج: 37)
فالحج شرع لتحقيق التقوى ولتمتنع عن الرفث والفسوق والجدال؛ إن فعلت ذلك رجعت من ذنوبك كأنك ولدت من جديد ؛ ” مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”. ( متفق عليه من حديث أبي هريرة). وبمفهوم المخالفة من ساءت أخلاقه ولم يعصم نفسه من الرفث والفسوق والجدال فلا غفران ولا حج له !!!
فما أجمل تجمل العباد بلباس الزينة ظاهراً ؛ ولباس التقوى باطناً في العيدين الكريمين !!
الخاطرة السادسة : العيدان الكريمان عقب فريضتين عظيمتين
فمن ينظر إلى العيدين الكريمين يجد أنهما شرعا عقب فريضتين عظيمتين وهما الصيام والحج .
فعيد الفطر شرع بعد إتمام عدة صيام رمضان؛ فهو يوم الفرحة والبهجة والسرور ؛ وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفرحة والبهجة بقوله: ” لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ” ( متفق عليه )
وعيد الأضحى شرع بعد فريضة عظيمة ألا وهي فريضة الحج؛ فعودة الحجاج من الأراضي المقدسة إلى بلادهم وأسرهم بعد أداء الفريضة فرحة ما بعدها فرحة وبهجة ما بعدها بهجة !!
ولعل سائل يسأل : لماذا جاء العيدان بعد الصيام والحج خاصة ؟!!
والجواب : أن هاتين الفريضتين لا يتكرران إلا في كل عام مرة؛ ولهما وقت محدد يشمل جميع الأفراد في هذا التوقيت المحدد ؛ بخلاف الصلاة تتكرر كل يوم؛ والزكاة مرتبطة بحول كل فرد !!
فجاء عيد الفطر بعد الصيام لتعم الفرحة جميع الأفراد ؛ وجاء عيد الأضحى أيضا بعد فريضة الحج لتعم الفرحة جميع الأفراد كذلك!!
العنصر الثاني: آداب العيد وسننه
أحبتي في الله: ونحن في يوم عيد الفطر المبارك نذكركم بأهم آداب وسنن العيد التي يجب أن نستن بها من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في يوم الأضحى والتي تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاغتسال قبل الخروج إلى الصلاة : فقد صح في الموطأ وغيره :”أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى.”؛ وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد .
ثانياً: التكبير يوم العيد : فالتكبير من السنن العظيمة في عيد الأضحى؛ لقوله تعالى : {واذكروا الله في أيام معدودات } (البقرة: 203)، ولقوله عليه الصلاة والسلام:” أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله” (رواه مسلم )؛ وأرجح أقوال أهل العلم أنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق؛ أي يكبر بعد ثلاث وعشرين صلاة مفروضة؛ قال الحافظ ابن حجر :[ وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى ] ؛ وروى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق؛ وروى عن الأسود قال : كان عبد الله – ابن مسعود – رضي الله عنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من النحر؛ يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله؛ الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..
ثالثاً: التهنئة : ومن آداب العيد التهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أيا كان لفظها مثل قول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم؛ أو عيد مبارك وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة ؛ وعن جبير بن نفير ، قال : “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض ، تُقُبِّل منا ومنك .”( قال ابن حجر في الفتح: إسناده حسن)؛ ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق والمظاهر الاجتماعية الحسنة بين المسلمين .
رابعاً: التجمل للعيدين: فعن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:” أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ ..” (رواه البخاري )؛ فأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل للعيد لكنه أنكر عليه شراء هذه الجبة لأنها من حرير ؛ وعن جابر رضي الله عنه قال : “كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة”( صحيح ابن خزيمة)؛ وعن الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأثمن ما نجد.( رواه الحاكم) ؛ فينبغي للرجل أن يلبس أجمل ما عنده من الثياب عند الخروج للعيد .
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب؛ وكذلك يحرم على من أرادت الخروج أن تمس الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة .
خامساً: الذهاب إلى الصلاة من طريق والعودة من آخر فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ.” (رواه البخاري)
وقد تلمس أهل العلم لذلك بعض الحكم منها: إظهار شعائر الإسلام بالذهاب والإياب، ومنها: السلام على أهل الطريقين، ومنها: التفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة، ومنها: ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة، والأرض تُحدِّثُ أخبارها يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ ؛ ومنها: إغاظة المنافقين واليهود ولنرهبهم بكثرة المسلمين؛ ومنها: قضاء حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحتاجين؛ أو ليزور أقاربه وليصل رحمه؛ ومنها: أن الملائكة تقف على مفترق الطرق تكتب كل من يمر من هنا هناك ؛ وقيل غير ذلك.
سادساً: صلة الرحم: لأن القطيعة والخصام سببٌ لعدم رفع الأعمال؛ وقد تكلمنا عن ذلك في خطبة عيد الفطر بالتفصيل تحت عنوان: العيد وصلة الأرحام ووحدة الأمة الإسلامية؛ مما يغني عن إعادته مرة أخرى.
سابعاً: تشرع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد دون إسراف أو تبذير: شرع الإسلام في هذه الأيام إدخال السرور على الأهل والأولاد؛ وذلك في حدود الضوابط الشرعية التي أرشدنا إليها ديننا الحنيف بعيداً عما يغضب الله تبارك وتعالى من الإسراف والتبذير ؛ مصداقاً لقوله تعالى:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} ( الأعراف:31)؛ فعلى المسلم إذن أن يتجنب الإسراف والتبذير في شتى صوره ، في المأكل والمشرب والمسكن والترفيه، وسائر الأغراض المشروعة، لأن الإسراف تبديد للموارد، وإضاعة للثروات، من أجل هذا فإن أهم ما فسرت به إضاعة المال التي نهى عنها النبي هو الإسراف.
هذا هو هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؛ ألا فلنتمثل بهديه صلى الله عليه وسلم في جميع أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا !!
الدعاء؛؛؛؛؛؛؛ وكل عام وأنتم بخير؛؛؛؛؛
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛؛؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
———————————————————————————————————————————————————————
ولقراءة الخطبة الرابعة كما يلي:
خطبة عيد الفطر المبارك: علامات قبول الأعمال
عناصر الخطبة
العلامة الأولى: إخلاص العمل لله.
العلامة الثانية: المداومة والثبات والتوفيق لعمل صالح بعده وعدم الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة.
العلامة الثالثة: تحقيق الغاية من العبادات.
العلامة الرابعة: الخوف والوجل من عدم قبول العمل.
العلامة الخامسة: استصغار العمل وعدم العجب والغرور به.
العلامة السادسة: طهارة القلب من البغضاء والشحناء.
العلامة السابعة: كثرة الدعاء والاستغفار بعد كل طاعة.
المقدمة: أما بعد،،،،،،،،،
عباد الله: لقد صمنا شهر رمضان والحمد لله تبارك وتعالي أن أنعم علينا وأتمّ علينا نعمة الصيام والقرآن والصلاة وحج بيته الحرام وغير ذلك ؛ ولكن هنا سؤال يطرح نفسه: هل هذه الأعمال كلها مقبولة عند الله -عز وجل- أم لا ؟! ( القيام – القرآن – الصلاة – الحج- الدعاء – الاستغفار – الإنفاق – زكاة الفطر – البر – الصلة – الإحسان …إلخ)، ونعلم أن القبول بيد الله – تبارك وتعالي – ولا يستطيع أحدٌ أن يحكم علي هذا العمل قُبل أم لا ، ولكن العلماء وضعوا صفاتٍ وعلاماتٍ وشروطاً لقبول الأعمال ، فتنظر إلي هذا العمل وتقيس عليه هذه العلامات والشروط، فإذا كان العمل استجمع وجمع كل هذه الشروط والعلامات فاعلم أنه مقبولٌ عند الله، وإذا فقد شرطاً واحداً أو علامةً واحدةً فعليك أن تراجع نفسك مسرعاً، وتحقق ما نقص من علاماتٍ لديك، وبعبارة أخرى : فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، فقد قال الإمام علي بن أبى طالب – رضي الله عنه – : ” كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً من العمل ألم تسمعوا أن الله – عز وجل – يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين }.( المائدة: 27)، ومن رحمة الله تعالى بأمة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه أخفى عنها كثيراً من علامات القبول، بل ربما كلها حتى لا يفخر أحدٌ بعمله، ولذلك نجد أن الفعل “تُقُبِّلَ” في قوله – تعالى :{ فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ}؛ جاء مبنياً لما لم يسمَّ فاعله وهو الله – تعالى – مما يؤكد أن القبول أمر غيبي، لا يستطيع أحدٌ أن يجزم به، وأنه بيد الله – تعالى – وحده، وفي هذا رحمةٌ وخيرٌ للعبد؛ حتى يظل جامعاً بين الخوف والرجاء معاً، وقد كان من علامات القبول في الأمم السابقة أن تنزل نارٌ من السماء مثلاً فتأخذ القربان علامةً على قبوله، أما بالنسبة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه يمكن استنباط بعض علامات القبول بعد كل طاعة وعبادة، وقد ذكر العلماء أن علامات قبول الأعمال أكثر من عشرين علامة، وقد جمعتها ولخصتها في سبع علاماتٍ مدعمةً بالأدلة الصريحة الصحيحة من القرآن والسنة؛ وهاك البيان والله المستعان وعليه والتكلان.
العلامة الأولى: إخلاص العمل لله
قد يكون الإنسان منا يصلي وينفق ماله ويحج ويفعل الخيراتِ كلَّها ولكن يفعل ذلك ليس إخلاصاً لله ، ولكن من أجل فلان وفلان ، فيكون بذلك أشرك مع الله غيره في العبادة، وهذا بلا شك يجعل عملك مردوداً ، ويوم القيامة يقول لك الله – عز وجل –: يا عبدي ليس لك عندي جزاءٌ ولكن جزاءك عند فلان لأنك عملت العمل من أجله هو ، فعَنْ رَافِعِ بن خَدِيجٍ ، أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الشِّرْكُ الأَصْغَرُ ؟ قَالَ : الرِّيَاءُ ، يُقَالُ لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا جَاءَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فَاطْلُبُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ “. (أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح). وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ. فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا شَيْءَ لَهُ . ثُمَّ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ”.( النسائي بسند حسن)، وجاء رجل إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله إني أقاتل في سبيل الله ولكنى أُحب أن يُرى موطني ، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل قوله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110)، فمن أهم علامات القبول أن يخلص العبدُ أعماله لله فلا يجعل للخلق فيها نصيباً، قيل لأحد الصالحين: هيا نشهد جنازة، فقال: اصبر حتى أرى نيتى، فلينظر الإنسان منا نيته وقصده وماذا يريدُ من العمل، وقد وعظ رجلٌ أمام الحسن البصرى فقال له الحسن: يا هذا لم أستفد من موعظتك، فقد يكون مرض قلبي وقد يكون لعدم إخلاصك، ولذلك قيل: ما خرج من القلب وصل إلى القلب وما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان.
العلامة الثانية: المداومة والثبات على الطاعة
بمعنى أنك قطعت عهداً على نفسك بالتغيير والتوبة من جميع الذنوب والمعاصي التي كنت تفعلها قبل رمضان، وبفضل الله حالك تغير في رمضان، فلو عدت إلي ما كنت عليه قبل رمضان من المعاصي فاعلم أن عملك ليس مقبولاً عند الله، بمعنى أن الله لو هداك ووفقك إلي طاعة وبعد الطاعة رجعت إلي المعصية، فاعلم أن رجوعك إلي المعصية مرة أخري دليلٌ علي أن عملك مردودٌ عليك. قال يحيي بن معاذ : ” من صام رمضان وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلي الذنب ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول في وجهه مسدود ” .
إن كثيراً من الناس يتوب وهو دائم القول: إنني أعلم بأني سأعود.. لا تقل مثله.. ولكن قل : إن شاء الله لن أعود ” تحقيقاً لا تعليقاً”.. واستعن بالله واعزم على عدم العودة..، لقد كانت محطة مؤقتة ثم رجعوا إلى ما كانوا فيه، هل هذه النفسية السيئة عبدت الله حق عبادته؟هل وفت حق الله هل أطاعت الله أصلاً؟ هذه مصيبة كبيرة أن يعود شراب الخمر إلى خمورهم، ومتعاطي المخدرات إلى مخدراتهم، وأصحاب الزنا إلى أوكارهم، وأصحاب الربا إلى الربا، وأصحاب الفسق ومجالس اللغو إلى اللغو، هذه مصيبة والله كارثة دخلوا بالمعاصي وخرجوا بالمعاصي ما استفادوا شيئاً أبداً، قال الحسن البصرى: “إن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، فإذا قبل الله العبد فإنه يوفقه إلى الطاعة، ويصرفه عن المعصية، وقد قال الحسن: “يا ابن آدم إن لم تكن فى زيادة فأنت فى نقصان”.
لقد زيل الله آيات الصيام بالشكر، قال تعالى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.( البقرة: 185) قال العلماء : ” شُكر الطاعة طاعة مثلها ” ، فشكر الصيام صيام مثله وهكذا ، بمعنى أنك صمت شهر رمضان والصيام لم ينته بعد، فهناك ست من شوال، والاثنين والخميس وغيرها، ولذلك هناك فرق بين الشكر والحمد ، فالحمد باللسان والشكر بالعمل ، قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }.( سبأ : 13)، فالشكر يكون من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليك، فإذا تكاسل العبد عن الطاعة فهذا يكون دليل على عدم قبول العمل عند الله، وإذا داوم عليها وثبتها فهذا دليل على قبولها عند الله، وكان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة- رضي الله عنها – قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته.” ( مسلم)، وأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.”( متفق عليه)، وقَالَت عَائِشَةَ – رضي الله عنها -: ” كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً “( البخاري ومسلم.) ، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، وما دام العمل لله فإن الله – جل وعلا – سيقبله برحمته، وبشرى لمن داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم كتب له أجر ذلك العمل. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً “( البخاري)، وهذا في حق من كان يعمل طاعة فحصل له ما يمنعه منها، وكانت نيته أن يداوم عليها. وقال -صلى الله عليه وسلم-:” ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه.” (أبو داود والنسائي بسند جيد).
وللثباتِ على الطاعة ثمرةٌ عظيمةٌ، كما قال ابن كثير – رحمهُ الله: “لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه يوم القيامة” فمن عاش على الطاعة يأبى كرم الله أن يموت على المعصية، وفى الحديث: “بينما رجلٌ يحجُّ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فوكزته الناقة فمات فقال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “كفنوه بثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبّياً”( متفق عليه.) وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:”إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله”قالوا: كيف يستعمله؟ قال:”يوفقه لعملٍ قبل الموت ثم يقبضه عليه”( الترمذي وحسنه.) ،سبحان الله إذا قبل الله منك الطاعة يسَّر لك أخرى لم تكن في الحسبان, بل وأبعدك عن معاصيه ولو اقتربت منها . قال تعالى: { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى{5} وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى{7} وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى{8} وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى{9} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{10}( الليل 4 – 10)
العلامة الثالثة: تحقيق الغاية من العبادات
بمعنى أن أنظر إلى العبادة ، لماذا شُرعت ؟ وما الغاية منها؟ فلو حققت الغاية التى شرعت من أجلها العبادة فاعلم أنها مقبولة وإلا فلا، وإليك بعض الأمثلة:
* الصلاة ، لماذا شُرعت ؟ قال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }( العنكبوت : 45)، فالغاية من إقامة الصلاة أن تنهك عن الفحشاء والمنكر ، فالصلاة إذاً معيار لتهذيب الأخلاق، فإذا كنت تصلي تنقر الصلاة نقراً ثم تخرج من المسجد تسب هذا وتشتم هذا وتضرب هذا ……إلخ، فاعلم أنه لا صلاة لك، لأنك لم تحقق الغاية التى شرعت من أجلها العبادة، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له.
* الصيام ، لماذا شُرع ؟ قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }( البقرة : 183)، فالغاية منه التقوى، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فمن صام ولم يحقق التقوى فلا صيام له، لقوله -صلى الله عليه وسلم-:” رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر “( ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وصححه)، وبهذا المقياس تستطيع أن تقيس جميع العبادات فإذا لم تحقق الغاية من العبادة، فاعلم أن العمل غير مقبول عند الله – عز وجل-.
وقس على ذلك شعيرة الحج وبقية العبادات .
العلامة الرابعة: الخوف والوجل من عدم قبول العمل
فالمؤمن مع شدة إقباله على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (المؤمنون: 60) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: “لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات.”( الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي) ، يعطي ويخشى أن لا يقبل منه، يتصدق ويخشى أن ترد عليه، يصوم ويقوم ويخشى أن لا يكتب له الأجر، وورد في الآية آثارٌ كثيرةٌ عن سلفنا الصالح ، منها ما جاء عن أبي الدرداء قال : لأن أستيقن أن الله تقبل مني صلاةً واحدةً أحب إليّ من الدنيا وما فيها إن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين}، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما إذا دخل في الصلاة ارتعش واصفر لونه … فإذا سئل عن ذلك قال : أتدرون بين يدي من أقوم الآن ؟!! وكان أبوه سيدنا علي رضي الله عنه إذا توضأ ارتجف فإذا سئل عن ذلك فقال : الآن أحمل الأمانة التي عرضت على السماء والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها أنا، وسئل حاتم الأصم – رحمه الله – كيف تخشع في صلاتك؟ قال: أقوم فأكبر للصلاة، وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدمي, والجنة عن يميني والنار عن شمالي, وملك الموت ورائي, وأن رسول الله يتأمل صلاتي، وأظنها آخر صلاة , فأكبر الله بتعظيم، وأقرأ بتدبر، وأركع بخضوع وأسجد بخضوع، وأجعل في صلاتي الخوف من الله والرجاء في رحمته، ثم أسلم ولا أدري أقبلت أم لا؟! ، وروى أنه دخل سائل على ابن عمر رضي الله عنه فقال لابنه أعطه ديناراً ، فأعطاه ، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدةً واحدةً أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إليَّ من الموت تدري ممن يتقبل الله { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين}، وروى أن عامر بن عبدالله العنبري حين حضرته الوفاة بكى، فقيل له ما يبكيك فقد كنت وكنت ؟ فقال يبكيني أني أسمع الله يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين}، فمن منا أشغله هذا الهاجس !! قبول العمل أو رده , في هذه الأيام ؟ ، وقال عبدالعزيز بن أبي رواد رحمه الله: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا ؟ ، وكان بعض السلف يقول في آخر ليلة من رمضان: ياليت شعري من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه، أيها المقبول هنيئا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك، وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟، ورأى وهب بن الورد قوماً يضحكون في يوم عيد، فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين، فيا أهل الصيام تذكروا أنكم إلى ربكم راجعون ويا أهل القيام تأملوا هل بلغ بكم من الخوف والوجل بعد رمضان ما يجعلكم من أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، مواصلة العبادة بعد رمضان، دوام على القيام والصيام والصدقة والذكر وقراءة القرآن، فعلى الرغم من حرصه على أداء هذه العبادات الجليلات فإنه لا يركن إلى جهده، ولا يدل بها على ربه، بل يزدري أعماله، ويظهر الافتقار التام لعفو الله ورحمته، ويمتلئ قلبه مهابة ووجلاً، يخشى أن ترد أعماله عليه، والعياذ بالله، ويرفع أكف الضراعة ملتجئ إلى الله يسأله أن يتقبل منه.
العلامة الخامسة: استصغار العمل وعدم العجب والغرور به :
بمعنى أن تنظر إلى الطاعة كأنها شيء صغير وأن تنظر إلى المعصية وكأنها جبل تخشي أن يقع عليك، والذي يحدث الآن العكس يري العبد الذنب أنه صغير، ويستكثر عبادته ويستعظمها وكأنه يمنّ على الله بهذه الطاعة، فالرجل منا لو صلى ركعتين أو صام يوماً أو قرأ جزءاً من القرآن يعد نفسه من أولياء الله ويود لو بنى له بذلك مقام، وهذا في حد ذاته دليل على عدم قبول الطاعة عند الله – تبارك وتعالى -، ولذلك يقول الإمام الغزالي – رحمه الله – : ” إن العبد ليسجد سجدةً لله يظن أنه تقرب بها إلى الله والذي نفسي بيده لو وُزع ذنب هذه السجدة على البلدة كلها لكفتهم ، قيل له : لماذا ؟ قال : لأنه يسجد برأسه لمولاه وقلبه منشغلٌ بدنياه “
ويقول أنس – رضي الله عنه – كما في البخاري: ” إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات ” ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ” إن المُؤمنَ يَرى ذَنبَهُ كأنَّهُ في أصل جَبَل يَخافُ أن يَقَعَ عَليه وإنّ الفاجرَ يَرى ذُنوبَهُ كَذُباب وَقَعَ عَلى أنفه فقال لَهُ هكذا “( الترمذي وأحمد والبخاري موقوفاً علي ابن مسعود .)، ولذلك قال الله لنبيه : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } (المدثر : 6)،فمن معاني الآية ما قاله الحسن البصري: ” لا تمنن بعملك على ربك تستكثره” ، فكل العمل الذي تعمله لا يدخلك الجنة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ ” قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ “،(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وصحيح الترغيب والترهيب.)، فلا تظن أن عملك يدخلك الجنة وأين أنت من أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما ـــ؟!! ، فهذا عمر الذي قال له النبي ” لو لقيك الشيطان سالكاً فجاً لسلك فجاً غير فجك يا عمر ” ومع ذلك يقول عمر – رضي الله عنه : ” لو نادي منادٍ يوم القيامة: كل الناس يدخلون الجنة إلا واحداً لظننت أنه عمر بن الخطاب “، وهذا أبو بكر الذي لو وُزن إيمان الأمة في كفة وإيمانه في كفة لرجحت كفة أبي بكر ومع ذلك يقول : ” والذي نفسي بيده لو أن إحدى قدماي في الجنة والأخرى على بابها لا آمن مكر الله ” ، وهذا سيدنا عمر – رضي الله عنه ـــ لما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذهب إلي حذيفة بن اليمان أمين سر النبي والذي أعطاه النبي أسماء المنافقين وقال له عمر : ” أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ، يَعْنِي فِي الْمُنَافِقِينَ ؟ فَيَقُولُ: لَا ، وَلَا أُزَكِّى بَعْدَكَ أَحَدًا ” ، إن العبد المؤمن مهما عمل وقدَّم من أعمالٍ صالحة ,فإن عمله كله لا يؤدي شكر نعمة من النعم التي في جسده من سمع أو بصر أو نطق أو غيرها، ولا يقوم بشيء من حق الله تبارك وتعالى، فإن حقه فوق الوصف، ولذلك كان من صفات المخلصين أنهم يستصغرون أعمالهم، ولا يرونها شيئاً، حتى لا يعجبوا بها، ولا يصيبهم الغرور فيحبط أجرهم، ويكسلوا عن الأعمال الصالحة، ومما يعين على استصغار العمل:معرفة الله تعالى، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير.
العلامة السادسة: طهارة القلب من البغضاء والشحناء:
بمعني أنك تصلي وتصوم وتخشع لله – عز وجل – وتحج بيت الله الحرام؛ ولكن القلب مملوء بالنفاق والشحناء والخصام والعداوة والبغضاء فلا يُقبل عملك عند الله وتكون أعمالك كلها هباءً منثوراً، إن رفع ليلة القدر وعدم تعيينها بسبب خصام وشحناء بين رجلين، فعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: “إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ”( البخاري)، قلت في نفسي: إذا كان الله رفع الرحمة والمغفرة والفضل فى ليلة القدر بسبب رجلين متشاحنين، فما بالكم لو كانت الأمة كلها متشاحنة متباغضة متخاصمة كما هى الآن؟!!! ، لذلك فإن الشحناء والخصام والعداوة والبغضاء تحلق الدين والحسنات حلقاً، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ” ألا أدلكم علي أفضل من الصيام والصلاة والصدقة، قلنا : بلي يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن تحلق الدين .”( أحمد والترمذى وصححه) ونحن نعلم أن الأعمال ترفع إلي الله في يومي الاثنين والخميس فيغفر الله لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا المتشاحنين فيقول الله – عز وجل – : ” أنظروا هذين حتى يصطلحا “( مسلم) ، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : ” كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ ، صَدُوقِ اللِّسَانِ ” ، قَالُوا : صَدُوقُ اللِّسَانِ ، نَعْرِفُهُ ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ ؟ قَالَ :” هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ ، لاَ إِثْمَ فِيهِ ، وَلاَ بَغْيَ ، وَلاَ غِلَّ ، وَلاَ حَسَدَ. ” (ابن ماجة بسند صحيح) ، وقال الله في وصف أصحاب الجنة:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ( الحجر : 47 )، إن من أهم علامات القبول أن يتخلص القلب من أمراضه وأدرانه فيعود إلى حب الله تعالى وتقديم مرضاته على مرضاة غيره، وإيثار أوامره على أوامر من سواه، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يترك الحسد والبغضاء والكراهية، وأن يوقن أن الأمور كلها بيد الله تعالى فيطمئن ويرضى، ويوقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليُخطئه، وبالجملة يرضى بالله وبقضائه ويحسن الظن بربه.
العلامة السابعة: كثرة الدعاء والاستغفار بعد كل طاعة:
بمعني أن كل عمل تعمله تطلب من الله فيه التوفيق والسداد وتستغفر الله بعد العمل ، ولذلك جعل الله بعد كل عبادة دعاءً واستغفاراً جبراً للخل الذي حدث في هذه العبادة، فبعد الانتهاء من الصلاة استغفار وتسبيح وتحميد وتكبير ، لماذا ؟ لجبر الخلل الذي وقع في الصلاة ، وفى الحج قال تعالي : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام } ( البقرة : 198 ) ، وقال تعالي : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } ( البقرة : 200 ). وهذا سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل دعوا الله أثناء بناء الكعبة ، قال تعالي : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ( البقرة : 127 )، وعند الانتهاء من المجلس تختمه بدعاء كفارة المجلس : “سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ” فما من لغو أو رفث إلا غفر الله لك ، ولذلك كان الصحابة يدعون الله ستة أشهر قبل رمضان أن يبلغهم رمضان ، وبعد رمضان يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان ، فعود نفسك علي الدعاء والاستغفار بعد كل عمل تعمله ، لأنك مهما حرصت على تكميل عملك فإنه لابد من النقص والتقصير.
فعليكم بالدعاء والاستغفار بعد كل طاعة ؛فإن ذلك يجبر لك كل ما كان فيها من لغو أو تقصير .
كما أنه ينبغي على كل عبد أن يعرض نفسه على هذه العلامات؛ فإن توافرت حمد الله ؛ وإلا سارع في تحقيقها حتى تقبل الأعمال .
تقبل الله من ومنكم؛ وكل عام وأنتم بخير؛؛؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي