خطبة بعنوان: “فضل العمل الخيري وصناعة المعروف في المجتمع”، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، بتاريخ 20 محرم 1438، الموافق 21 أكتوبر 2016هـ
خطبة بعنوان: “فضل العمل الخيري وصناعة المعروف في المجتمع”، لفضيلة الشيخ عبد الناصر بليح، بتاريخ 20 محرم 1438، الموافق 21 أكتوبر 2016هـ.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
الحمد لله رب العالمين على فضله وإحسانه لا أحصى ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين .. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قال وما ينطق عن الهوى :” مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ”(أبو داود). “اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله وعلى آلك وصحبك وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد فيا جماعة الإسلام : إن صناعة المعروف معاملة مع الله قبل أن تكون مع الخلق كما جاء في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه وتعالي:” ابن آدم مرضت فلم تعدني قال :”يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده, ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال :”يارب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ قال أما استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي, ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال :”يارب كيف أسقيك وأنت رب العالمين ؟ قال أما استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي”(مسلم).
ولذا فالمعروف يبذل ولو كان لكافر قال الله تعالى :” يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً”(الإنسان/7-10). وصناعة المعروف يقصد بها خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم وهي حسية ومعنوية ….
فالحسية : مثل الإطعام وسقاية الماء وسداد الديون والإصلاح بين المتخاصمين . والمعنوية : كالدلالة على الهداية والتعليم وكف الشر عن الآخرين. فخدمة الناس وقضاء حوائجهم، ونفعهم بشتي صور النفع المختلفة، كالإطعامِ وسقاية الماء، وسدادِ الديون، والإصلاحِ بين المتخاصمين، وبذلِ الشفاعةِ لتحصيل خير أو دفع شر، والسعي في شأن الأرملة والمسكين، وكفالة اليتيم, وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وغير ذلك من سائر المصالح التي يحتاجها الناس، وهو ما نسميه بصناعة المعروف للآخرين كل ذلك كان من خُلُقِ الأنبياء والصالحين وعلي رأسهم النبي صلي الله عليه وسلم ..
فلا شك أنهم أهل المعروف والبر فهم صناع المعروف فقد حازوا قصب السبق في ذلك ولنا فيهم الأسوة الحسنة والقدوة قال الله تعالى:” أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ “(الأنعام /90). فهذا نوح عليه السلام : يبذل المعروف في سبيل هداية قومه ((أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ”(نوح /2-3).
وذاك موسى عليه السلام : يصنع المعروف كذلك:” وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ “((القصص /23). وعيسى عليه السلام:” وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً”((مريم /31). أي واجعلني نفاعا للناس أينما اتجهت وحللت.
وهذا هو نبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من قبل وبعد بعثته كان أكثرَ الناس نفعاً للآخرين، وأشدهم حرصاً على قضاء حوائجهم، فقد كان الحصن الحصين في ذلك فكان عليه الصلاة و السلام أشد الأنبياء حرصاً على قضاء حوائج الناس فتصفه أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ في أول بعثته، فتقول:” والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق “(البخاري) .
وعن عبد الله بن شقيق ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: “هل كان النبي صلي الله عليه وسلم – يصلي وهو قاعد؟، قالت: نعم، بعد ما حطمه الناس )”مسلم). وفي الحديث :”أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربه أو تقضى عنه دينا أو تطرد عنه جوعا ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرا و من مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام”(صحيح الترغيب والترهيب).
فهذه امرأة تأتي إليه عليه الصلاة والسلام فتقول له :” إن لي إليك حاجة فلم يضجر عليه الصلاة و السلام منها . ويصفه ابن أبي أوفى بقوله:”.. ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضى له الحاجة”(النسائي). وقد علمنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن بذل المعروف معاملة مع الله، لا توزن بالقلة والكثرة، بل تُحْمد عند الله على كل حال، فقليلها عند الله كثير، وصغير العمل عند الرب الكريم كبير كما قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ:”اتقوا النار ولو بشق تمرة “(البخاري).
كما علمنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن صُنَّاع المعروف هم مفاتيح الخير للمجتمع فهنيئا لهم، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل اللهُ مفاتيحَ الخير على يديه، وويل لمن جعل اللهُ مفاتيح الشر على يديه “(ابن ماجه). أخوة الإيمان والإسلام : صناعة المعروف عبادة لله : وبذل المعروف عبادة لا غناء لنا عنها، نحتاجها في منافع الدنيا، وهي سبيل كذلك لنجاتنا في الآخرة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا إلى بذل المعروف في أحاديث كثيرة، منها عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -:” المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة “( مسلم) . وعن أم سلمة هند بنت أمية ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم : ” صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب “( الطبراني). وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم – قال: ” على كل مسلم صدقة، فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟، قال: يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟، قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يجد؟، قال: فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة “( البخاري). وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:” كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تُفرغ من دلوك في إناء أخيك “( الترمذي). وقال صلي الله عليه وسلم حاثا وآمرا ومحفزا على رعاية اليتيم وبذل المعروف له والإحسان إليه: :” أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً “( البخاري).
قال ابن بطال : ” حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الجنة ، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك وكذلك أخبرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن التقصير في بذل المعروف سبب للعقوبة في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم .. ) فذكر منهم ( ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك ) رواه البخاري، قال ابن بطال: “وفيه عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل في معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه “
والأمثلة العملية في بذل النبي ـ صلى الله عليه وسلم للمعروف ـ كثيرة، منها : مع الضعيف والأرملة والمسكين : عن سهل بن حنيف – رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم ) رواه الحاكم . وعن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ في وصفه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( .. ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته ) رواه النسائي وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن : ( امرأة أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها ) رواه مسلم . فلم يضجر النبي – صلى الله عليه وسلم – منها لخفة عقلها، بل سار معها وقضى لها حاجتها قال النووي: “(خلا معها في بعض الطرق) أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها لكن لا يسمعون كلامها لأن مسألتها مما لا يظهره والله أعلم”.. مع الأقارب وذي الأرحام
أخوة الإيمان والإسلام : إن هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط ، ففضلا عن معانيه التعبدية ، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس ، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة ، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي ، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة ، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة ، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح -والذي من وراءه بسط الرزق- والتوازن الاجتماعي ، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح: “من سره أن يبسط له فيرزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه”(البخاري ومسلم). روي البخاري من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه عن أنس قال : وقال ثابت عن أنس : قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لأبي طلحة : اجعله لفقراء أقاربك ، وقال الأنصاري : حدثني أبي عن ثمامة عن أنس مثل حديث ثابت : اجعلها لفقراء قرابتك ترحم ، هذا كله إذا أوقف أو أوصى لأقاربه ، وفي التنزيل قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ سورة البقرة آية 215 ، و كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ سورة البقرة آية 180 . ومن مكارم أخلاقه صلي الله عليه وسلم صناعته للمعروف ودعوته الدائمة إليه ومعروفه وبره لمن حوله لم ينقطع.
فيقول صلى الله عليه وسلم:” إن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر وتقي الفقر، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة وإن فيها شفاء من تسعة وتسعين داء أدناها الهم”. وفي رواية: صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف”. (الطبراني وغيره).
وأخرج البخاري ـ في الأدب المفرد من حديث ابن عمر ـ مرفوعا: من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره، وثرى ماله، وأحبه أهله. بذل المعروف للحيوان : أخوة الإيمان والإسلام : الإسلام قد أولي الاهتمام بالحيوان وبذل المعروف له من قبل مايسمي بجمعيات الرفق بالحيوان بقرون عديدة واعتبر ذلك صدقة تكفر السيئات والذنوب وتقي من النار وتدخل صاحبها الجنة
وما قصة الجمل الذي جاء يشتكى للنبي عليه الصلاة والسلام صاحبه منكم ببعيد فعن يعلى بن مرة الثقفيى قال : ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن نسير معه إذ مررنا ببعير لبني علية فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه فوقف عليه رسول صلى الله عليه الصلاة السلام فقال أين صاحب هذا البعير فجاء فقال عليه الصلاة و السلام بعنيه فقال بل أهبه لك وإنه لأهل بيت ما لهم غيره قال ( أما إذا ذكرت هذا من أمره فإنه شكى كثرة العمل وقلة العلف فأحسن إليه)أحمد). وفي رواية عن عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليه وسلم: “دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبيَ – صلى الله عليه وسلم – حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلي الله عليه وسلم فمسح ذِفراه فسكت، فقال: من رب (صاحب) هذا الجمل؟!، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟، فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئِبُه (تتعبه”( أبو داود .(
وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:” ما من مسلم يغرِس غرساً إلا كان ما أُكِل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطيرُ فهو له صدقة، ولا يرزؤه ( يسأله ) أحد إلا كان له صدقة “(مسلم) . وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:”بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟!، فأجابهم صلي الله عليه وسلم “: في كل ذات كبد رطبة أجر “( البخاري) .
لقد كان صنعُ المعروف وبذله شيمةً وصفة لا تغادر نبينا ـ صلي عليه وسلم وأحاديثه وسيرته شاهدة على ذلك، فما أحوجنا إلي التأسي والاقتداء به ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لنسعد في الدنيا والآخرة .. مع الكافر : أخوة الإيمان والإسلام : من المفاهيم الخاطئة عند البعض أن علاقة المسلم بالكافر هي علاقة عنف وشدة بإطلاق، وهو خلاف هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التعامل مع الكفار، وصناعة المعروف معاملة مع الله قبل أن تكون معاملةً مع الخلق، لذا يُبْذل المعروف للإنسان ولو كان كافراً، وقد وصف الله ـ عز وجل ـ المؤمنين بقوله: ” يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً “(الإنسان: 7 – 10). فقوله: ” وَأَسِيراً ” يقصد به الأسير الكافر ولا ريب، فالآية توصي بإطعامه الطعام على حبه، قال ابن عباس: ” كان أُسراؤهم يومئذ مشركين “. وعقَّب ابن كثير بالقول: ” يشهد لهذا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء “. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: ذُبِحتْ شاة لابن عمرو في أهله، فقال: أهديتم لجارنا اليهوديّ؟ قالوا: لا، قال : ابعثوا إليه منها ، فإني سمعتُ رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: “ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه”( أحمد) .
وعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ : جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَدْنَى الْجِيرَانِ حَقًّا ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ : فَجَارٌ مُشْرِكٌ لا رَحِمَ لَهُ ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ : فَجَارٌ مُسْلِمٌ ، لَهُ حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ : فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ ، لَهُ حَقُّ الإِسْلامِ ، وَحَقُّ الْجِوَارِ ، وَحَقُّ الرَّحِمِ “(قَالَ الْبَزَّارُ:”لا نَعْلَمُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا بِهَذَا الإِسْنَاد). مع المنافقين :أخوة الإيمان والإسلام بلغ من أخلاق رسول الإنسانية محمد صلي الله عليه وسلم أنه قد أسدي المعروف للكافر واليهودي وليس ذلك فحسب بل للمنافق فلما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله : إنما خيرني الله فقال:اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ”(التوبة/80). وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق. يقول ابن عمر: فصلى عليه رسول الله، فأنزل الله عز وجل هذه الآية:”وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ “(التوبة/84). وفي رواية أنه لما كان عبد الله مريضا عاده رسول الله فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني، فرده وطلب منه الذي يلي جسده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه: لا تعط قميصك الرجسَ النجس، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله يدخل به ألفا في الإسلام وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله»، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، فلما مات جاءه ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه: «صل عليه وادفنه»، فقال: إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم، فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه فنزل قوله تعالى: “وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ”(التوبة/84). وعن عبد الله بن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول ودعي رسول الله للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمتُ في صدره فقلت: يا رسول الله أتُصلي على عدو الله عبد الله بن أُبي القائل يوم كذا، كذا وكذا، أعدِّد أيامه ورسول الله عليه السلام يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال:”أخِّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت وقد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت» قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه، قال: أتعجب لي وجرأتي على رسول الله صلي الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرٌ حتى نزلت هاتان الآيتان ولا تصل على أحد منهم مات أبدا فما صلى رسول الله على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. بذل المعروف علي نفسه
أخوة الإيمان والإسلام : وصناعة المعروف صدقة يتصدق بها الإنسان عن أعضاء بدنه كما جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :”يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة و يجزئ عن ذلك ركعتان من الضحى “(مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم:” إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء”( الترمذي وغيره). قال العلماء: والمراد بميتة السوء أو مصارع السوء: ما استعاذ منه النبي صلي الله عليه وسلم كالهدم والتردي والغرق والحرق، وأن يتخبطه الشيطان عند الموت، وأن يقتل في سبيل الله مدبرا. وقال بعضهم: هي موت الفجاءة. وقيل ميتة الشهرة ـ كالمصلوب. ومثل ذلك: الحوادث والكوارث التي تشاهد اليوم في كل مكان. والذي يقي من ذلك: هو صنائع المعروف ـ من الصدقة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، والإحسان إلى الناس، وعمل الخير بصفة عامة. قال رسول الله: “صنائع المعروف تقي مصارع السوء ،والصدقة خفيآ تطفئ غضب الرب ،وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة ،وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، واول من يدخل الجنة هم أهل المعروف” لذلك كانت خديجة تبشر رسول الله وتعلمه أن الله يجنبه مصارع السوء ـ بقولها لنبينا صلى الله عليه وسلم: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. (متفق عليه).
وقد أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكافأة من صنع إلينا معروفاً فقال :” مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ”(أبو داود). من صنع إليكم معروفا أي من قدم لكم إحسانا قولياً أو فعلياً”فَكَافَئُوهُ” : أَيْ : أَحْسِنُوا إِلَيْهِ مِثْل مَا أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ .”فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوه” أَيْ : بِالْمَالِ .فادعوا الله له حتي تروا أنكم قد كفأتموه .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف الخلق أجمعين .أما بعد فيا جماعة الإسلام يحظى العمل في الإسلام بمنزلة خاصة واحترام عظيم ، ويكفي في إظهار قيمته ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها ، فليفعل”(أحمد وغيره).
ثم أعلموا حفظكم الله أن هناك آدابا لصناعة المعروف ينبغي مراعاتها منها:
1-أن المعروف معاملة لله لا توزن بالقلة ولا بالكثرة قال عليه الصلاة والسلام :” اتقوا النار ولو بشق تمرة “(البخاري).
2- قبول الشيء وأن كان قليلا: قال عليه الصلاة والسلام :” لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت”(البخاري).
3- أن صاحب المعروف مأجور ولو وقع في يد من لا يستحقه . عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “قال رجل لأتصدقنَّ الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون : تـُـصِّـدق على زانية ..فقال : اللهم لك الحمد .. على زانية ؟! لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون : تـُـصِّـدق على غني .. قال : اللهم لك الحمد .. على غني ؟! لأتصدقن الليلة فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون : تـُـصِّـدق الليلة على سارق .. فقال : اللهم لك الحمد .. على زانية وعلى غني وعلى سارق ؟! فأتي فقيل له : أمّـا صدقتك فقد قـُـبِـلتْ ؛ و أمّـا الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا ، و لعلَّ الغني يَـعتبِـر فينفق مما أعطاه الله ، و لعلَّ السارق أن يستعف بها عن سرقته “(أحمد والشيخان ).
4- عدم المن للمعروف فإن ذلك يبطله . قال تعالي :”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”(البقرة/264).
5- الإخلاص قدر الاستطاعة وغيرها من الآداب. عن النبي صلي الله عليه وسلم في قصة الثلاثة الذين حُبسوا في الغار ، ليقرر أن أحد أسباب دفع البلاء واستجابة الدعاء ، هو الإخلاص لله والأمانة في أداءِ حق العامل ، لما تصنعه الأمانة في النفوس من التوازن ، واليقين بأن جهد العامل لا يضيع مع مرور الوقت : “…وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب ، فثمَّرتُ أجره حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري ، فقلت: كل ما ترى من أجرك : من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا أستهزئ بك ، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون”(متفق عليه).
ولا تقتصر صناعة المعروف على ما ذكرنا بل الشفاعة تعتبر من صناعة المعروف : فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام:” اشفعوا تؤجروا ويقضي الله علي لسان رسوله ما يشاء”)البخاري).وقد كان عليه الصلاة والسلام مثالا يحتذى به في الشفاعة فكم من شفاعة قضاها لأصحابه.
أخوة الإسلام : إن من المؤسف كثيرا أنك تجد من وسع الله عليهم يحبسون أموالهم عن الإسهام في الخير ويحرمون أنفسهم من الثواب وهم قادرون على ذلك فيكون ممن جمع فأوعى . فيا حسرة على من كان جماعا للمال مناعا للخير لا يقدم لنفسه ما يجده عند الله خيرا وأعظم أجرا. فاتقوا الله عباد الله وقدموا لأنفسكم وأعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين. فاللهم أكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحمنا واجعلنا مفاتح للخير مغاليق للشر وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.