خطبة الجمعة بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، للدكتور خالد بدير
بتاريخ 12 شوال 1446 هـ ، الموافق 11 أبريل 2025م

خطبة الجمعة بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 12 شوال 1446 هـ ، الموافق 11 أبريل 2025م.
تحميل خطبة الجمعة القادمة 11 أبريل 2025م ، للدكتور خالد بدير بعنوان : كلمة أنا نور ونار:
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 11 أبريل 2025م ، للدكتور خالد بدير بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، بصيغة word أضغط هنا.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 11 أبريل 2025م ، للدكتور خالد بدير بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، بصيغة pdf أضغط هنا.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 11 أبريل 2025م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : كلمة أنا نور ونار : كما يلي:
أولًا: أنَا بينَ النارِ والنورِ.
ثانيًا: أنَا بينَ الكبرِ والتواضعِ.
ثالثًا: أنَا وتزكيةُ النفسِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 11 أبريل 2025م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : كلمة أنا نور ونار : كما يلي:
كلمةُ أنَا نورٌ ونارٌ
بتاريخ: 12 شوال 1446هـ – 11 أبريل 2025م
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
العنصر الأول من خطبة الجمعة بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، للدكتور خالد بدير
أولًا: أنَا بينَ النارِ والنورِ.
إنَّ كلمةَ أنَا مِن أشهرِ الكلماتِ التي تجرِي كثيرًا على الألسنِ في الحياةِ العمليةِ للإنسانِ، وهذه الكلمةُ قد تكونُ هلاكًا ودمارًا ونارًا لصاحبِهَا وهي الأكثريةُ، وقد تكونُ نورًا وهدايةً وتوفيقًا لصاحبِهَا.
فمِن أمثلةِ القسمِ الأولِ: قولُهُ تعالَى على لسانِ فرعونَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، [النازعات: 24]، وقـال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، وعلى لسانِ النمرودِ قالَ تعالي: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، [البقرة: 258]، وقائدُهُم جميعًا إبليسُ -عليهِ لعائنُ اللهِ- حيثُ قالَ لخالِقِهِ ومولاه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}، [الأعراف: 12]، ثُمَّ الظالمُ لنفسِهِ صاحبُ الجنتينِ الذي التفتَ إلى ما في يدهِ وأعرضَ عن ربِّهِ: { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا }.[الكهف: 34].
لهذا كرَهَ الرسولُ ﷺ كلمةَ أنَا في مثلِ هذه المواقفِ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا» فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا”. (البخاري مسلم).
إنَّ كلِمةَ “أنَا” تبدأُ بزَهوِ النفسِ ينتفِخُ شيئًا فشيئًا، حتى يُصبِحَ ورَمًا عقليًّا وخُلُقيًّا، لا يُحسِنُ صاحبُهُ بسببِهِ نُطقًا إلَّا بكلِمةِ “أنَا”. ولا يُباشِرُ بسببِهِ تعامُلاً إلّا بعدَ أنْ يقولَ: “وماذا لي أنَا؟!”، “أنَا ومِن بعدِي الطوفان”. ليتشبَّهَ برَكبِ أصحابِ “الأنَا” مِن أمثالِ إبليسَ وفِرعونَ والنمرودِ وقارونَ وغيرِهِم.
أمَّا كلمةُ أنَا المحمودةُ والمشروعةُ فقد قالَهَا يوسفُ عليهِ السلامُ طمأنينةً لأخيهِ: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يوسف: 69)، وقالَهَا ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». (البيهقي والحاكم وصححه). )، وقالَهَا ﷺ: ” أَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ؛ وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ.” [مسلم]، وفي مجالِ الشفاعةِ يومَ القيامةِ كلُّ رسولٍ يقولُ نفسِي نفسِي وحبيبُنَا ﷺ يقولُ”: أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا…”. (البخاري ومسلم).
( أنَا لهَا..أنَا لهَا ) * * مَن غيرُ أحمدَ قالَهَا ؟
يا ربِّ هذِي أمتِي * * شكراً لهُ.. بُشرَى لهَا
وفي الحوضِ قالهَا ﷺ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» (البخاري ومسلم)، (فرطكُم) هو الذي يتقدمُ الواردينَ ليصلحَ لهُم الحياضَ والدلاءَ ونحوهَا مِن أمورِ الاستقاءِ، (تعليق مصطفى البغا)، فأبشرُوا أمةَ الحبيبِ، الرسولُ ﷺ ينتظرُكُم على بابِ الجنةِ: «أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ». (مسلم).
ومِمَّــــــا زادنِي فخـــــــــرًا وتيهـــــــًا ……………… وكـــــدتُ بأخمــــــــــصِي أطــــأُ الثــــــــــريـَّا
دخولِي تحتَ قولِكَ يا عبادِي …………….. وأنْ صــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَّرتَ أحمدَ لِي نبيّـــــــًا
أيُّها المسلمون: إنَّ كلمةَ “أنَا” في مقامِ الإصلاحِ بينهَا وبينَ كلمةِ “أنَا” في مقامِ الإفسادِ والكِبرِ والغُرورِ كمَا بينَ الثَّرَى والثُّريَّا، فحسنٌ قولُ مَن قالَ: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}. [النمل: 40] استجابةً لأمرِ نبيٍّ مِن الأنبياءِ… وحسنٌ قولُ مَن قالَ: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45]؛ سعيًّا منهُ في تفسيرِ مُعضِلةٍ أحلَّت بهِم.. وحسنٌ قولُ مَن قالَ: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]؛ استِحضارًا للأمانةِ والمصلحةِ العامَّةِ، لأنَّ شيئًا مِن تلكُم الأمورِ لم يكُن لمصلحةٍ شخصيَّةٍ تُقدَّمُ فيهَا مصلحةُ النفسِ على المصلَحةِ الأعمِّ.
وهذا هو ما يُسمَّى بالإيثارِ الذي امتدَحَهُ اللهُ بقولِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. [الحشر: 9]، فربَّمَا تنازلَ المرءُ عن مصلحَتِهِ لتحقيقِ المصلحةِ الأعمِّ، وتلكَ خصلةٌ لا يُوفَّقُ لهَا إلّا مَن رحِمَ اللهُ وأسبغَ عليهِ نِعَمَهُ ظاهرةً وباطنةً، وذلك فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاءُ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيمِ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، للدكتور خالد بدير
ثانيًا: أنَا بينَ الكبرِ والتواضعِ.
إنَّ كلمةَ أنَا في مقامِ العظمةِ والتكبرِ توحِي بالغرورِ والعجبِ والأثرةِ، قالَ تعالى في شأنِ المتكبرِ النمرودِ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }. (البقرة : 258)، هذا هو النمرودُ بنُ كنعان، ادَّعَى الألوهيةَ، وكان في زمنِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، فلَمّا دعاهُ إبراهيمُ عليهِ السلامُ إلى عبادةِ اللهِ الذي يُحي ويميتُ، جاءَ النمرودُ برجلينِ فقتلَ أحدَهُمَا وتركَ الآخرَ فقالَ: أنَا أُحيِ وأُميتُ، فقالَ له إبراهيمُ عليهِ السلامُ: إنَّ اللهَ يأتِي بالشمسِ مِن المشرقِ فأتِ بهَا مِن المغربِ، فبهتَ وسكتَ ولم يجبْ.
فانظرْ كيف كانت نهايتُهُ؟!! بعثَ اللهُ عليهِ بعوضةً، فدخلتْ في منخرهِ وفي أمِّ رأسِهِ، فمكثَ أربعمائةَ سنةٍ يُضربُ رأسُهُ بالمطارقِ والنعالِ، ولا يهدأُ حتى يُضرَبَ بالنعالِ، فإذا وقفَ الضربُ دوَّت البعوضُ في أمِّ رأسِهِ فيأمرهُم بضربِهِ، وأرحمُ الناسِ بهِ مَن جمعَ يديهِ، ثُم ضربَ بهمَا رأسَهُ، وكان جبارًا في ملكِهِ أربعمائةِ سنةٍ، فعذّبَهُ اللهُ أربعمائةَ سنةٍ كملكِهِ، ليكونَ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ، ثم أماتَهُ اللهُ، وهو الذي كان بنَى صرحاً إلى السماءِ، { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ } [النحل : 26 ]، فقد أخرجَ ابنُ المنذرِ، عن ابنِ عباسٍ في الآيةِ، قال: هو نمرودُ بنُ كنعان ” (انظر تفسير ابن كثير).
ونحن نعلمُ قصةَ قارونَ الذي ضُرِبَ بهِ المثلُ في كثرةِ المالِ، فيُقالُ: فلانٌ عندَهُ مالٌ كمالِ قارونَ، قالَ تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ……….الآيات} . (القصص: 76 – 83)، فقارونُ لم ينسب الفضلَ للهِ، وإنّمَا تكبرَ بمالِهِ: { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي بمهارتِي وتجارتِي أنَا، فكانت النهايةُ، { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ }، هكذا في لمحةٍ خاطفةٍ ابتلعتْهُ الأرضُ وابتلعتْ دارَهُ، وذهبَ ضعيفاً عاجزاً، لا ينصرُهُ أحدٌ، ولا ينتصرُ بجاهٍ أو مالٍ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:” بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ ؛ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ” . ( متفق عليه ) .
وهذا فرعونُ طغَى وتجبرَ في الأرضِ وادّعَى الألوهيةَ، { فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ( النازعات: 23، 24 )، واعتقدَ أنَّ الملكَ ملكُهُ والأنهارَ تجرِي مِن تحتِهِ، { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزخرف: 51)، فأبَى اللهُ إلّا أنْ يجريهَا مِن فوقِهِ ليكونَ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ وهو الغرقُ والأنهارُ تجرِى مِن فوقِهِ، وهذه هي نهايةُ وعاقبةُ المتكبرينَ بكلمةِ أنَا.
إنَّ كثيرًا منَّا يفتخرُ بنسبِهِ وحسبِهِ ويترفعُ على الناسِ بأنّهُ فلانٌ بنُ فلان، ويعاملُ الناسَ بأنفةٍ وعلوٍّ واستكبارٍ، أنَا أنَا، وكأنَّهُ خُلِقَ مِن مادةٍ غيرِ التي خُلِقَ منهَا الناسُ جميعًا، وليعلمَ هذا المفتخرُ أنَّهُ يسعَى بعنصريتِهِ وقبليتِهِ وحسبِهِ ونسبِهِ إلى النارِ وبئسَ القرار، كمَا أخبرَنَا بذلكَ النبيُّ المختارُ، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بْنُ فُلاَنٍ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، ابْنُ الْإِسْلَامِ، قَالَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوْ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ”. (أحمد والبيهقي بسند صحيح). وقد أخبرنا ﷺ أن أكثر أهل الجنة الضعفاء وأكثر أهل النار المتكبرون؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ” احْتَجَّتِ النَّارُ، وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ: هَذِهِ يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا “. (مسلم).
إنَّ عاقبةَ أصحابِ “الأنَا” هي الصَّغارُ والنَّكالُ والهلاكُ، ولا أدلَّ على ذلكَ مِمّا انتهَى إليهِ أمرُ مَن تقدَّمَ ذكرهُم مِنَ المتكبرينَ والمغرورينَ، وإنَّ في قصصِهِم لَعِبرةً.
والخلاصةُ: ليس كلُّ مَن قالَ: أنَا، فهو بالضرورةِ قد وقعَ في داءِ الأنانيةِ والغرورِ، كلّا، قد قال خيرُ البشرِ ﷺ يومَ حُنينٍ: “أنَا النبيُّ لا كذب، أنَا ابنُ عبدِ المطلب”، وقال: “أنَا سيّدُ ولدِ آدمَ ولا فخر”. فقد يتحدثُ المرءُ عن نفسِهِ لحاجةٍ، لا كبرًا ولا مفاخرةً، وإنّمَا مِن بابِ الاقتداءِ بهِ، أو للتحدثِ بنعمةِ اللهِ عليهِ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. [الضحى: 11]، والميزانُ في ذلكَ مقصدُ القلبِ، وما يكنهُ الصدرُ لا يعلمُهُ إلّا علّامُ الغيوبِ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}. [البقرة: 235].
العنصر الثالث من خطبة الجمعة بعنوان : كلمة أنا نور ونار ، للدكتور خالد بدير
ثالثًا: أنَا وتزكيةُ النفسِ.
خلقَ اللهُ تعالى الإنسانَ ووهبَهُ جميعَ الجوارحِ منّةً ونعمةً منهُ سبحانَهُ وتعالَى فقالَ: { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ( البلد: 8 -10 )، والمعنَى: أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أنعمَ على الإنسانِ بهذهِ الجوارحِ وعرَّفَهُ طريقَي الخيرِ والشرِ، عرّفَهُ طريقَ الخيرِ كي يسلَكَهُ ويلزمَهُ، كما عرفَهُ طريقَ الشرِّ حتى يجتنبَهُ ويبتعدَ عن مسالكِهِ، وبهذَا لا يكونُ للعبادِ على اللهِ حجةٌ يومَ القيامةِ، وفي هذا المعنى يقولُ ﷺ: ”اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ ؛ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ ”. (متفق عليه).
فعلَى العاقلِ أنْ يهذبَ نفسَهُ ويخلصَهَا مِن شوائبِ الأنَا والأثرةِ والشرورِ والمعاصِي، قالَ تعالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس: 7 ـــ 10)، قالَ مجاهدٌ: عرفهَا الشقاءَ والسعادةَ، وقال الطبريُّ: بيّنَ لهَا ما ينبغِي لهَا أنْ تأتِيَ أو تذرَ مِن خيرٍ، أو شرٍّ أو طاعةٍ، أو معصيةٍ.
فينبغِي على العبدِ أنْ يحاسبَ نفسَهٌ على جميعِ أقوالِهِ وأفعالِهِ أولًا بأولٍ، فإنْ وجدَ خيرًا حمدَ اللهَ، وإنْ وجدَ غيرَ ذلكَ فلا يلومَنَّ إلّا نفسَهُ، وعليهِ أنْ يستدركَ هذا التقصيرَ قبلَ فواتِ الأوانِ، وفي ذلكَ يقولُ عمرُ بنُ الخطّابِ- رضي اللُّه عنه-: “حاسبُوا أنفسَكُم قبلَ أنْ تحاسبُوا، وزنُوا أنفسَكُم قبلَ أنْ توزنُوا، فإنّهُ أهونُ عليكُم في الحسابِ غدًا، أنْ تحاسبُوا أنفسَكُم اليوم، وتزيّنُوا للعرضِ الأكبرِ، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} (الحاقة/ 18)، فهذا الفاروقُ عمرُ رضي اللهُ عنه يشهدُ لهُ الرسولُ بالجنةِ وأنَّ الشيطانَ يفرُّ منهُ، ومع كلِّ ذلكَ يستحقرُ نفسَهُ ويتجاهلُهَا، ولم يقلْ أنا أميرُ المؤمنين، أنَا أنَا ! تأمَّل حالَهُ “رضي اللهُ عنهُ “ وهو يخاطبُ نفسَهُ – عمرُ بنُ الخطابِ أميرُ المؤمنينَ! -: واللهِ لتطيعنَّ اللهَ أو ليعذبنَّكِ.. يا ليتَ أمَّ عمرَ لم تلدْ عمرَ.. وددتُ لو خرجتُ منهَا كفافاً لا لِي ولا عليَّ. وحينَ أشرفَ على الموتِ قال لابنِهِ عبدِ اللهِ -رضي اللهُ عنه-: ضعْ خدِي على الأرضِ، ثم قالَ: ويلِي إنْ لم يغفر اللهُ لي. وهذا أميرُ المؤمنينَ عليٌّ رضي اللهُ عنه يتململُ في محرابِهِ قابضاً على لحيتِهِ يخاطبُ الدنيا: يا دُنيا غُرِّي غيرِي، إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت؟ لقد بتتُكِ ثلاثاً لا رجعةَ فيهَا، فعمرُكِ قصيرٌ، وخطرُكِ حقيرٌ.
وهذا الخليفةُ الراشدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ كان يجمعُ الفقهاءَ والقراءَ في كلِّ ليلةٍ فيتذاكرونَ ثمَّ يبكونَ كأنَّ بينَ أيديهِم جنازةً.. وبكَى ليلةً فبكَى أهلُ الدارِ ببكائِهِ، فلَمّا انجلتْ عنهُ العبرةُ سألوهُ: ممَّ بكيت؟ قال: قرأتُ قولَهُ تعالَى: {فَرِيقٌ فِي الْـجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: ٧]، فلا أدرِي في أيِّ الفريقينِ أكونُ؟
إنّهَا مدرسةُ النبوةِ التي انصبغُوا بصبغتِهَا وطهرتهُم مِن الأنَا والأثرةِ… مدرسةُ التعلقِ بالآخرةِ كأنَّهَا رأيُ عينٍ، واحتقارِ الدنيا، حتى لا تحدثُ أدنَى تغييرٍ أو تلويثٍ لنفوسِهِم، حتى لو صاروا ملوكَ الدنيا.
إنَّ فلاحَ الإنسانِ أنْ يزكيَ نفسَهُ وينميهَا إنماءً صالحًا بتحليتِهَا بالتقوى وتطهيرِهَا مِن الفجورِ، والخيبةِ والحرمانِ مِن السعادةِ لِمَن يدسيهَا. ولذلك كان ﷺ يكثرُ مِن الدعاءِ بقولِهِ: “اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا ”. (مسلم) .
فعليكَ أنْ تتجاهلَ نفسَكَ، مهمَا فعلتَ وقدمتَ، فهذا الإمامُ الشافعيُّ الذي ملأَ الدنيا بعلمِهِ يتجردُ – مخلصاً – مِن كلِّ حظوظِ الدنيا والأنَا قائلاً : ” وددتُ أنَّ الخلقَ يتعلمونَ هذا العلمَ ولا يُنسَبُ إليَّ منهُ شيءٌ ” .
وفي هذا المعنى يقولُ رسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» (مسلم).
نسألُ اللهَ أنْ يطهرَ أنفسَنَا مِن الأنَا والأثرةِ والخديعةِ، وأنْ يجعلَنَا متعاونينَ
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية د / خالد بدير بدوي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف