خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م : الإيجابية ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م بعنوان : الإيجابية ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ 24 جماد الأول 1445هـ ، الموافق 8 ديسمبر 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : الإيجابية.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : الإيجابية ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : الإيجابية ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م بعنوان : الإيجابية ، للدكتور محروس حفظي :
(1) الإنسانُ يحتاجُ دائمًا إلى الإيجابيةِ في حياتِهِ.
(2) الإيجابيةُ في القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ.
(3) وسائلُ تعينُ الإنسانَ على تحقيقِ الإيجابيةِ في معيشتِه.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م بعنوان : الإيجابية ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبة بعنوان: «الإيجابيةُ»
بتاريخ 24 جمادى الأولى 1445 هـ = الموافق 8 ديسمبر 2023 م
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ، أمَّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م
(1) الإنسانُ يحتاجُ دائمًا إلى الإيجابيةِ في حياتِه:
المسلمُ ينبغِي أنْ يكونَ فيضًا مِن العطاءِ، قويًّا في البناءِ، لا ييأسُ حين يقنطُ الناسُ، ولا يتراخَى عن العملِ حين يفترُ العاملون، يصنعُ مِن الظلمةِ نورًا، ومِن الحزنِ سرورًا، متفائلٌ في حياتِه، شاكرٌ في نعمائِه، صابرٌ في ضرائِه، قانعٌ بعطاءِ ربِّه له، مؤمنٌ بأنَّ لهذا الكونِ إلهًا قدّرَ مقاديرَهُ قبلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ في كتابٍ عندَهُ، ولهُ سبحانَهُ ألطافٌ لا يدركهَا عبادُه، وحكمٌ يجهلونَهَا تخفَى عليهم، قالَ ربُّنَا:﴿وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ وقَالَ ﷺ:«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (مسلم) .
إنَّ المسلمَ يحتاجُ لهذه الإيجابيةِ؛ لأنَّه المسؤولُ عن نفسِه، وسيحاسبُ يومَ القيامةِ فردًا، وأنَّه كما قال ربُّنَا: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ومِن هذا المنطلقِ يجبُ أنْ ينحصرَ تفكيرُ الإنسانِ فيمَا يجلبُ لهُ الخير، ويقربُهُ مِن الطاعةِ دونَ أنْ يكونَ تبعًا، وأنْ يمتلكَ زمامَ المبادرةِ إلى الطاعاتِ دونَ الالتفاتِ إلى عملِ أحدٍ مِن الناسِ، وليكونَ رسولُ اللهِ ﷺ قدوةً عمليةً أمامَ عينيهِ، ولا يجعل الأشخاصَ المثبطين مثلًا له، فقد يفتحُ اللهُ عليهِ الهمةَ أكثرَ مِمّا عندَ الآخرين، أو يوفقهُ اللهُ تعالى إلى عملٍ يتفردُ بهِ، أو إلى فضلٍ يؤثرُ فيهِ، فللهِ – عزَّ وجلَّ- في خلقِه شؤون، وهو المتفضلُ على عبادِه، يختصُّ برحمتِه مَن يشاءُ وكيفما يشاء، وقد حذرنَا ﷺ أنْ نسيرَ خلفَ كلِّ ناعقٍ نقلدُهُ دونَ وعيٍ أو فكرٍ، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» (الترمذي وحسنه) .
إنَّ الإيجابيةَ فيها نجاةُ الأممِ والشعوبِ قالَ اللهُ:﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ ولم يقلْ “صالحون” إنّمَا قال: “مُصْلِحُونَ”، وهناكَ فارقٌ، ف “الصالحُ”: صلاحُهُ بينَهُ وبينَ خالقِهِ، أمّا “المصلحُ”: فإنّهُ يقومُ بإصلاحِ نفسِه ودعوةِ غيرِه، إذ الإيجابِيُّ يصنعُ الأحداثَ، والسلبِيُّ تصنعُهُ الأحداث، والإيجابِيُّ ينظرُ للمستقبلِ بينمَا السلبِيُّ يخافُ المستقبل، كما أنَّ الإيجابِيَّ يزيدُ في هذه الدنيا أمَّا السلبِيُّ فهو زائدٌ عليهَا .
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م
(2) الإيجابيةُ في القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ:
حين نتأملُ الإيجابيةَ في القرآنِ الكريمِ نجدُ أنَّهُ تكررَ بصورٍ شتَّى وأساليبَ متنوعةٍ، ويتجلَّى ذلك مِن خلالِ قصصِه وأحداثِه، وها أنَا اقتطفُ مِن أزهارِه اليانعةِ وثمارِه الدانيةِ كي نفيدَ بهَا واقعنَا المعيش:
*إيجابيةُ حشرةٍ صغيرةٍ: حكَى اللهُ- سبحانه- ما قالتْهُ نملةٌ عندَما رأتْ جيشَ سليمانَ – عليه السلام- العظيمَ المنظمَ: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، فتأملْ كيف تحملتْ نملةٌ واحدةٌ مسؤوليةَ الإنذارِ والتحذيرِ وصاحتْ في النملِ، ولم تكتفِ بنجاةِ نفسِهَا بل حرصتْ على نجاةِ الجميعِ، وأتَى التعبيرُ “قَالَتْ نَمْلَةٌ” منكرًا لا معرفًا، وجاءتْ المخاطبةُ كمَن يعقلُ؛ لأنَّهَا أمرتْهُم بما يؤمرُ به مَن يعقلُ.
يقولُ أبو السعودِ: (كأنَّها لمَّا رأتهُم متوجهينَ إلى الوادِي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِهَا مِن النملِ لمرادِهَا فتبعَهَا في الفرارِ فُشبِّهَ ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهِم فأُجرُوا مُجراهُم حيث جُعلتْ هي قائلةً وما عداهَا مِن النملِ مقولًا لهم) أ.ه. (إرشاد العقل السليم 6/ 278) .
ومِن ثمَّ فأيُّ واحدٍ منَّا يتحملُ المسؤوليةَ يكونُ موضعَ تقديرٍ واحترامٍ؛ لأنَّهُ يصبحُ إيجابيًّا وإلّا لو عاشَ كلُّ واحدٍ منَّا بمبدأِ السلبيةِ في حياتِه لهلكَ بل لو عمَّ ذلك لعمَّ الضررُ للجميعِ، فعن النُّعْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا” (البخاري) .
*إيجابيةُ موسَى عليهِ السلامُ: أخبرَنَا اللهُ – تعالى- ما كان مِن موسَى عليه السلامُ عندَما توجهَ إلى جهةِ مدينَ فقالَ سبحانَهُ: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، حينَ وصلَ موسَى- عليهِ السلامُ- إلى الماءِ الذي تستقِي منهُ قبيلةُ مدينَ وجدَ جماعةً كثيرةً مِنَ النَّاسِ يسقونَ إبلَهُم وغنمَهُم، ودوابَّهُم المختلفةَ، ووجدَ بالقربِ منهُم. أو في جهةٍ غيرِ جهتِهِم امرأتينِ تطردانِ وتمنعانِ أغنامَهُمَا أو مواشيهِمَا عن الماءِ حتى ينتهِى الناسُ مِن السقيِ، ثُمّ بعدَ ذلك هما تسقيانِ دوابَهُمَا؛ لأنّهُمَا لا قدرةَ لهمَا على مزاحمةِ الرجالِ.
ماذا كان منه عليهِ السلامُ هل وقفَ مكتوفِي الأيدِي رغمَ أنَّهُ كان جائعًا مُجهدًا مِن السفرِ غريبًا في هذه البلدِ؟! فإذا لم يقدمْ المساعدةَ لهما فلا لومَ ولا عتابَ عليه لكنَّ الهمةَ العاليةَ، والمروءةَ الساميةَ، والنفسَ الوثابةَ نحوَ نصرةِ المحتاجِ تأبَى ذلك، فسقَى لهما مواشيهِمَا سريعًا مِن أجلِ أنْ يريحَهُمَا ويكفيهمَا عناءَ الانتظارِ، ولم يطلبْ على ذلك أجرًا وإنَّما فعلَ ذلك رغبةً في المعروفِ وإغاثةً للملهوفِ.
*إيجابيةُ ذي القرنينِ: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ بعدَ أنْ بلغَ مغربَ الشمسِ ومشرقهَا سارَ في طريقٍ ثالثٍ معترضٍ بينَ المشرقِ والمغربِ آخذًا فيهِ حَتَّى إِذا بَلَغَ في مسيرِه ذلك بَيْنَ الجبلينِ وجدَ أمةً مِن الناسِ، لغتُهُم لا تكادُ تُعرفُ لبعدِهِم عن بقيةِ الناسِ، فقالوا لذِي القرنينِ، بعد أنْ توسمُوا فيهِ القوةَ والصلاحَ يا ذا القرنين إنَّ قبيلةَ يأجوجَ ومأجوجَ مفسدون في الأرضِ بشتَّى أنواعِ الفسادِ والنهبِ والسلبِ، فعرضُوا عليهِ مقدارًا كبيرًا مِن أموالِهِم على سبيلِ الأجرِ، كي يقيمَ بيننَا لهم سدًّا يحولُ بينَهُم وبينَ هؤلاء؟
فهل رفضَ ذو القرنينِ متعللًا بأنَّهُ لا يعرفُهُم ولا تربطهُ بهم سابقُ معرفةٍ؟! لا بل ردَّ عليهم بما يدلُّ على قوةِ إيمانِه وحرصِه على إحقاقِ الحقِّ، كما سخرَ جميعَ طاقاتِ المجتمعِ وما لديهِم مِن إمكانياتٍ، وفتحَ لهُم بابَ الأملِ والخيرِ فصنعُوا السدَّ بإحكامٍ وإتقانٍ، وهكذا حالُ المسلمِ مع جميعِ البشرِ لا ينزوِي في محرابِ عبادتِه تاركًا الجميع، يعيشُ في عالمٍ والخلقُ في عالمٍ آخرٍ، وتأملْ كيفَ ربطَ رسولُنَا ﷺ بينَ تلك القصةِ وبينَ الإيجابيةِ بالنصحِ والإرشادِ، وأنَّ تركهَا يُؤْدِّي بالإنسانِ حتى ولو كان صالحًا إلى الهلاكِ، فعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» (متفق عليه) .
تابع / خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م
لقد ذمَّ القرآنُ الشخصيةَ السلبيةَ التي تحملُ معانِي التقوقعِ والانزواءِ والبلادةِ، والانغلاقِ، فهو شخصٌ يدورُ حولَ نفسِهِ لا تتجاوزُ اهتماماتُهُ أرنبةَ أنفِهِ، ولا يمدُّ يدَهُ إلى الآخرين، ولا يخطُو إلى الأمامِ، قالَ ربُّنَا:﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾، فتأملْ لفظَ: “كَلٌّ” التي تدلُّكَ على أنَّهُ شخصٌ غيرُ فعالٍ ثقيلٌ كسولٌ، وقبلَ هذا فهو “أَبْكَمْ” لا يتكلمُ ولا يرتفعُ لهُ صوتٌ، وتلك صفةُ اليهودِ ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ .
*الإيجابيةُ في السنةِ المطهرةِ: حضَّ الرسولُ ﷺ على الاختلاطِ بالناسِ، وحضورِ جمعِهِم ومجالسِ الذكرِ وزيارةِ المريضِ وحضورِ الجنائزِ ومؤاساةِ المحتاجِ وإرشادِ الجاهلِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» (ابن ماجه)، واهتمَّ ﷺ بالمواقفِ الايجابيةِ والأخلاقِ النبيلةِ التي كان يتمتعُ بها العربُ في عصرهِ وإشادتِهِ بها ودعوتِهِ إلى الأخذِ بها مع التأكيدِ على أنَّ مِن الضرورِي أنْ يشتركَ المسلمُ بالعملِ الايجابِي مِن أيِّ جهةٍ أتَى بل ويبادرُ إلى ذلك كحلفِ الفضولِ الذي اهتمَّ بنصرةِ المظلومين وقال فيهِ ﷺ: “شَهِدْتُ حِلْفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ لَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ لَأَجَبْتُ، رَدُّ الْفُضُولِ إِلَى أَهْلِهَا، وَأَلَّا يُقِرَّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا” (سنن البيهقي) .
ولو فتشنَا في السنةِ النبويةِ نجدُ أنَّ النبيَّ ﷺ أوصَى بل أمرَ بالإيجابيةِ في أبهَى حللِهَا، فها هو يأمرُنَا بإعمارِ الكونِ ولو أَزِفَ يومُ القيامةِ فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» (الأدب المفرد)، فليس هناكَ حثٌّ على الإيجابيةِ أقوَى مِن هذا الحديثِ؛ لأنَّه يدلُّ على الطبيعةِ المنتِجَةِ والخيِّرةِ للإنسانِ، فهو بفطرتِه عاملٌ مِعطاءٌ كالنبعِ الفيَّاضِ لا ينضبُ ولا ينقطعُ حتى إنَّهُ ليظلَّ يعملُ حتى تلفظَ الحياةُ آخرَ أنفاسِهَا، فلو أنَّ الساعةَ تُوشكُ أنْ تقومَ لظلَّ يغرسُ ويزرعُ، وهو لن يأكلَ مِن ثمرِ غرسِهِ، ولا أحدٌ غيرهُ سيأكلُ منهُ؛ لأنَّ الساعةَ تدقُّ طبولَهَا، فالعملُ هنا يُؤدَّى لذاتِ العملِ؛ لأنَّه ضربٌ مِن العبادةِ، والقيامُ بحقِّ الخلافةِ للهِ في الأرضِ إلى آخرِ رمقٍ، يقولُ الإمامُ المناوي:«والحاصلُ أنَّهُ مبالغةٌ في الحثِّ على غرسِ الأشجارِ، وحفرِ الأنهارِ لتبقَى هذه الدارُ عامرةً إلى آخرِ أمدِهَا المحدودِ المعدودِ المعلومِ عندَ خالِقِهَا، فكما غرسَ لك غيرُكَ فانتفعتَ بهِ فاغرسْ لمَن يجيءُ بعدَكَ لينتفعَ وإنْ لم يبقَ مِن الدنيا إلّا صبابةٌ، وذلك بهذا القصدِ لا يُنافِي الزهدَ والتقللَ مِن الدنيا» (فيض القدير) .
وفي موقفٍ عمليٍّ يُعلمُنَا ﷺ الإيجابيةَ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ بِغُلَامٍ يَسْلُخُ شَاةً، فَقَالَ لَهُ:«تَنَحَّ حَتَّى أُرِيَكَ، فَإِنِّي لَا أَرَاكَ تُحْسِنُ تَسْلُخُ، قَالَ: فَأَدْخَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَدَحَسَ بِهَا حَتَّى تَوَارَتْ إِلَى الْإِبْطِ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: هَكَذَا يَا غُلَامُ فَاسْلُخْ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَمَسَّ ماء» (ابن حبان)، لم يستكبرْ ﷺ أنْ يساعدَ الغلامَ في عملِه، ويذللَ لهُ الصعابَ، ولم يقلْ كيف أُلطخُ ثيابِي وأنا متوضىءٌ، فقد كان يمكنُ أنْ يخاطبَهُ مشافهةً أو يأمرَ غيرَهُ مِن صحابتِهِ بفعلِ ذلك لكنَّهُ ﷺ آثرَ أنْ يفعلَ ذلك بنفسِهِ طمعًا في تعليمِ هذا الشابِ.
بل علّمَنَا ﷺ المشاركةَ الإيجابيةَ فكان يشاركُ الصحابةَ في الأعمالِ المتنوعةِ كبناءِ المسجدِ، وحفرِ الخندقِ وكان يحملُ ﷺ بنفسِه الحجارةَ والترابَ، بل أمرَنَا بالمشاركةِ الفعالةِ حتى لِمَن يخدمُنَا ويقومُ على أعمالِنَا فعَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي ﷺ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (متفق عليه) .
ونرى النبيَّ ﷺ يستعملُ إيجابيةَ كلِّ صحابِي بما هو قادرٌ عليهِ وبمَا هو أهلٌ له حتى صار كلُّ صحابِي أمةً وحدَهُ، ففي الجانبِ العسكرِي استفادَ مِن فكرِ سلمانَ الفارسِي وخلفيتِه الحضاريةِ فاقترَحَ الخندقَ، والحبابُ بنُ المنذرِ يقترحُ الوقوفَ على الماءِ يومَ بدرٍ، وآخرُ ينصبُ المنجنيقَ في غزوةِ الطائفِ، وأبو بصيرٍ يخططُ لحربِ عصاباتٍ بعيدًا عن بنودِ صلحِ الحديبيةِ، وأمَّا الجانبُ الاقتصاديُّ فنرَى ذلك الصحابِيَّ الذي يؤرقُهُ كثرةَ أبناءِ المهاجرين والأنصارِ فينقلُ زراعةَ القمحِ إلى الحجازِ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ يصفقُ بالسوقِ حتى لا يكونَ عالةً على غيرهِ، وفي جانبِ الفكرِ والتربيةِ يسارعُ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ لتدوينِ الحديثِ، وزيدُ بنُ ثابتٍ لجمعِ القرآنِ، ويسارعُ في تعلمِ العبرانيةِ والسريانيةِ … إلخ .
لقد كان مِن النتائجِ المبهرةِ التي ورثتهَا هذه التربيةُ النبويةُ أنْ خُرِّجَ القادةُ والوزراءُ والعلماءُ والجنودُ والمرابطون، يتسابقون في البذلِ والعطاءِ والتضحيةِ؛ لعلمِهِم أنَّ المرءَ يهيئُ لنفسِهِ مقعدًا في الجنةِ.
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م
(3) وسائلُ تُعينُ الإنسانَ على تحقيقِ الإيجابيةِ في معيشتهِ:
أولًا: العلمُ والوعيُ: بَيَّنَ ربُّنَا في كتابِه أنَّ سنتَهُ الكونيةَ اقتضتْ أنَّ خلقَ البشرِ مِن أجلِ الكدحِ والكفاحِ وإلّا لمَا كان للحياةِ طعمٌ أو مذاقٌ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾، ومَن فهمَ هذا القانونَ الربانِيَّ هانَ كلُّ شيءٍ في طريقِه، وعافرَ وواصلَ الليلَ بالنهارِ، وحاولَ مرةً بعدَ أُخرى بغيةَ الوصولِ إلى مرماه؛ وتتعجبُ مِن حالِ الإنسانِ الذي هو الوحيدُ مِن بينِ الكائناتِ الحيةِ الذي يرفضُ قانونَ «الجهدِ المهدورِ» ذاك قانونُ رجالِ الأعمالِ، والقادةِ العظامِ، والعباقرةِ الجسامِ، فتجدُ الأسودَ مثلًا لا تنجحُ في الصيدِ إلّا في ربعِ محاولاتِهَا أي تفشلُ في 75% مِن صيدِهَا ومع ذلك لا تيأسُ مِن محاولاتِ المطاردةِ والمتابعةِ، وتجدُ نصفَ مواليدِ الدببةِ تموتُ قبلَ البلوغِ، ونصفَ بيوضِ الأسماكِ يتمُّ التهامهَا ومع ذلك ما زالَ هذا القانونُ الإلهيُّ مستمرًا لا ينقطعُ عن الطبيعةِ، لكنَّ الإنسانَ إذا أخفقَ في مشروعٍ أو فشلَ في عملٍ لا يريدُ أنْ ينهضَ مرةً أخرى، بل يستسلمُ ويتكاسلُ، ويريدُ الحصولَ على كلِّ ما يريدُ بسهولةٍ دونَ عَرَقٍ أو تعبٍ .
لا شكَّ أنَّ البحثَ والمثابرةَ والمحاولةَ المبينةَ على العلمِ والوعيِ تساعدُ الإنسانَ على اكتشافِ جوانبَ كثيرةٍ مِن الممكنِ أنْ تكونَ غائبةً عنه، ومنافذَ قد تكونُ غالبًا مبهمةً له مما يساعدُهُ على اقتحامِهَا، وقد قِيل: “مَن يتهيبْ صعودَ الجبالِ يعشْ أبدَ الدهرِ بينَ الحفرِ” .
ثانيًا: التأنِّي وعدمُ التسرعِ مع تصحيحِ النيةِ: إنَّ أهمَّ ما يميزُ المسلمُ الإيجابيُّ أنَّهُ يتعاملُ مع الأحداثِ والمواقفِ بحذرٍ، فهو لا يتعجلُ الأحكامَ ولا يقدمُ رأيَهُ إلّا بعدَ تأنٍّ بل يزنُ الأمورَ بميزانِ الشرعِ، فمَا وافقهَا أخذَ وما خالفَهَا تركَ.
يستبطئُ الإِنسانُ ويستعجلُ بغيتَهُ فيطلبهَا مِن طرقٍ محرمةٍ ووجوهٍ غيرِ مشروعةٍ مع أنَّ العجلةَ في الأمرِ مع العشوائيةِ ليس بمحمودٍ على الإطلاقِ، وهذا منهجٌ نبويٌّ حريٌّ بنَا السيرَ عليهِ فعن أبي أُمامةَ قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «… فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلاَ يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَه لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ» (البزار)، فليتحلَّى المسلمُ دائمًا بالصبرِ حتى يتبينَ ويستوضحَ ثم يتأخذَ القرارَ، وهل القرارُ هذا سيكونُ محمودَ النتائجِ أم نتائجُهُ سيئةٌ؟ وما هي النتائجُ والعواقبُ؟ فهذا الصبرُ يهديكَ إليه، والعجلةُ والانفعالُ والسرعةُ في اتخاذِ القرارِ، وعدمُ الصبرِ يؤدِّي دائمًا إلى الندامةِ، وقد حذرَنَا ﷺ مِن ذلك فقال: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرَ مَعَاذِيرَ مِنَ اللَّهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَمْدِ» (أبو يعلى)، وللهِ درُّ الشاعرِ:
قَدْ يُدْرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجِتِه …. وَقَد يَكُوُنُ مَعَ المُستَعجِل الزَّلَلُ
في هذا الطريقِ الطويلِ يحتاجُ الإنسانُ إلى تصحيحِ نيتهِ كي يخدمَ دينَهُ ومجتمعَهُ ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾ بهذهِ النيةِ تعلُو همةُ المرءِ ولا يضيعهُا قال الجنيدُ – رحمَهُ اللهُ- “عليكَ بحفظِ الهمةِ؛ فإنَّ الهمةَ مقدمةُ الأشياءِ”، وقال بعضُهُم: “إذا فتحَ لأحدكُم بابُ خيرٍ فليسرعْ إليهِ، فإنَّه لا يدري متى يغلقُ عنه”، فيجنو ثمارَ ذلك إيجابيةً وفلاحًا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» (ابن ماجه) .
ثالثًا: تركُ الالتفاتِ عن المثبطين والمحبطين: أمرَنَا اللهُ – عزَّ وجلَّ- في كتابِه العزيزِ بالتحولِ عن خائرِي العزائِم وعدمِ مجالستِهِم فقالَ سبحانَهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾، وانظرْ قولَ ربِّنَا على لسانِ نعيمِ بنِ مسعودٍ الأشجعِي لمَّا أرادَ إحباطَ المؤمنين في “غزوةِ بدرٍ” قائلًا لهم: إنَّ أعداءَكُم المشركين قد جمعُوا لكم جموعًا كثيرةً ليستأصلوكُم فلا تخرجُوا لقتالِهِم ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾، وتأملْ حذفَ مفعولِ “جَمَعُوا” فلم يقلْ: “جمعُوا جيشًا كبيرًا” أو “جمعُوا أنفسَهُم وعددَهُم وأحلافَهُم” وذلك ليذهبَ الخيالُ كلَّ مذهبٍ في مقدارٍ ما جمعُوا مِن رجالٍ وسلاحٍ وأموالٍ ولكنَّ هذا القولَ الذي صدرَ مِن هؤلاء المثبطين لم يلتفتْ إليهِ المؤمنون الصادقون المخلصون في جهادِهِم وفي اعتمادِهِم على خالقِهِم بل كانوا كما أخبرَ اللهُ عنهم ﴿فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فما قالَهُ المثبطون زادَ المؤمنين إيمانًا على إيمانِهِم، ويقينًا على يقينِهِم، وثباتًا على ثباتِهِم، وجعلَهُم يقولون للمرجفين بثقةٍ اللَّهُ كافينَا فهو الموكولُ إليهِ أمرنَا ومصيرنَا، فكانت النتيجةُ المحتومةُ ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ .
مهما أظلمَ الليلُ، ومهما انتفشَ هؤلاء المحبطين القاعدين عن العملِ، فهم إلى زوالٍ وانتهاءٍ، ويبقَى مَن يفتحُ بابَ النجاةِ، ويبثُّ الإيجابيةَ في حياةِ الناسِ عاليًا خفاقًا ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ .
تابع / خطبة الجمعة القادمة 8 ديسمبر 2023 م
رابعًا: أبدأْ بنفسِكَ أولًا: مَن عرفَ نفسَهُ فانشغلَ بإصلاحِ عيوبِهَا، ونمَّى ميزاتِهَا، وابتعدتْ جوارحُهُ عن التنقيصِ في أخلاقِ وسلوكِ الآخرين، كُنْ أيُّها المسلمُ سيدًا على نفسِكَ، وأقبضْ على زمامِ شهواتِهَا، وحررهَا مِن أغلالِ أطماعِهَا، وحركهَا نحو الصوابِ والطريقِ القويمِ لا إلى دروبِ الشقاءِ، وسبيلِ الإمعةِ، وأعزَّ نفسَكَ عن التدنِّي والتخبطِ، وترفعْ عن النزواتِ والهفواتِ ثم أبدأْ بعدَ ذلك بمَن تعولُ وترعَى كمَا قالَ ربُّنَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ثم حاولْ ولا تيأسْ مع مَن حولكَ علَّكَ تجد أذنًا منصتًا وقلبًا واعيًا، وليكنْ شعارُكَ المصطفَى ﷺ حين قال جاءَهُ ملكُ الجبالِ حينمَا عرضَ نفسَهُ على “ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْن عَبْدِ كُلاَلٍ” فأعرضوا عنه: “فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” (البخاري) .
نسألُ اللهَ أنْ يفرجَ كروبَنَا، وأنْ يزيلَ همومَنَا، وأنْ يُذهِبَ أحزانَنَا، ونسألُكَ يا اللهُ أنْ تجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، وأنْ توفقَ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ .
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان
د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف