خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ 25 شعبان 1444هـ ، الموافق 17 مارس 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت.
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، للدكتور محروس حفظي :
(1) حثُّ الإسلامِ على ضرورةِ التكافلِ المجتمعِي.
(2) أساليبُ الإسلامِ في تحقيقِ التكافلِ المجتمعِي .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023 م بعنوان : التكافل المجتمعي واجب الوقت ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويكافىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِك، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أمَّا بعدُ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
(1) حثُّ الإسلامِ على ضرورةِ التكافلِ المجتمعِي:
إنَّ حياةَ الإنسانِ لا تسيرُ على وتيرةٍ واحدةٍ، فهو معرضٌ للصحةِ والمرضِ والفقرِ والغنَى، والقوةِ والضعفِ قالَ تعالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾، ومِن سننِ اللهِ الكونيةِ أنْ ينزلَ على البشرِ مِن وقتٍ لآخر بعضَ الأزماتِ والمحنِ؛ ليختبرَهُم حسبمَا قال: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ﴾، ودينُنَا أرشدَنَا أنْ نقفَ بجوارِ بعضنَا البعض وقتَ البلايَا والمصائبِ فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وشبك أصابعه (متفق عليه).
وصورُ التعاونِ كثيرةٌ ومتنوعةٌ لا تقفُ عندَ حدٍّ معينٍ، ومنها التعاونُ المعنويُّ والماديُّ وها هو رسولُنَا يوجهنَا إلى حسنِ التعاطفِ والترابطِ فيمَا بينَنَا فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ» (الْبَزَّار، وَإِسْنَاده حَسَنٌ)، وهناكَ بعضُ الخَلْقِ انتكستْ فطرتُهُم، وضاعتْ إنسانيتُهُم، وفقدُوا وطنيتَهُم، فباتُوا لا يشعرونَ بمَن حولَهُم، وصارُوا يستغلُّون حاجةَ الناسِ وقتَ شدتِهِم وعوزِهِم، فملأَ الجشعُ والطمعُ قلوبَهُم، وحبُّ الذاتِ والتكالبُ على الحطامِ نفوسَهُم، وهم في سبيلِ جشعِهِم لا يمانعُون أنْ يزدادَ مالُهُم مِن قوتِ المساكين وعرقِهِم، فيرتكبونَ بعضَ المخالفاتِ في التجارةِ، وهؤلاءِ نسُوا أنَّ المالَ في ذاتهِ وسيلةٌ إلى الانتفاعِ بهِ، وليس منفعةً بذاتهِ فأنت لا تلبسُ الدنانيرَ إذا عريتَ، ولا تأكلهَا إذا جعتَ، ولا تقيكَ حرَّ الشمسِ، وبردَ الشتاءِ، ولكنَّهَا وسيلةٌ إلى تحقيقِ ذلك، وعلى العكسِ فهناكَ صاحبُ الضميرِ الحيِّ، والإيمانِ القوي، والوطنيةِ الحقيقةِ لا المزيفةِ الذي يسعَى في تحقيقِ مصالحِ الناسِ، ويقدمُ يدَ العونِ لهم، ويسدُّ خُلتَهُمْ، فحقٌّ لهُ أنْ يُحشرَ في أعلَى عليين مع النبيينَ والصديقين، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ ، قَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» (الترمذي وحسنه) .
يجبُ على كلِّ مستطيعٍ بذلُ المعروفِ، وقضاءُ حاجةِ أخيهِ الإنسان على قدرِ طاقتهِ، وأنْ يحتسبَ أجرَ ذلك عندَ اللهِ قالَ ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (متفق عليه) .
إنَّ التكافلَ خلقٌ مدحَهُ رسولُنَا ﷺ وأثنَى على مَن يتصفونَ بهِ ويحققونَ مبدأَهُ ويحرصونَ عليهِ، واعتبرَ نفسَهُ ﷺ منهُم وهم منهُ، وهؤلاءِ هم الأشعريونَ فعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه)، بل جعلَهُ مِن أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ فعَنِ ابن عمر أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَبي ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ ﷺ: “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ” (الطبراني في الكبير).
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
(2) أساليبُ الإسلامِ في تحقيقِ التكافلِ المجتمعِي:
وضعَ دينُنَا منهجًا متكاملًا في تحقيقِ التكافلِ المجتمعِي خاصةً في وقتِ الأزماتِ التي ترتبطُ بمعاشِ الناسِ، وفيمَا يلِي عرضٌ لجانبٍ مِن هذا المنهجِ المتكاملِ:
أولًا: حسنُ التدبيرِ والاقتصادِ في المعيشةِ: إنَّ الإنسانَ عندمَا يقتصدُ في معيشتهِ سيجدُ فائضًا عن حاجتهِ يكفلُ بها الفقير، ويسدُّ خلتهُ ويسترهُ فلا يلجئهُ للسؤالِ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قال ﷺ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ» (مسلم)، يقولُ الإمامُ النوويُّ: (في هذا الحديثِ الحثُّ على الصدقةِ والجودِ والمواساةِ والإحسانِ إلى الرفقةِ والأصحابِ، والاعتناءِ بمصالحِ الأصحابِ، وأمرَ كبيرُ القومِ أصحابَهُ بمواساةِ المُحتاج) أ.ه .
وإذا كانَ الإنسانُ – في الأوقاتِ العاديةِ – مطالبًا أنْ يحسنَ التدبيرَ في أمورهِ الماليةِ والمعيشيةِ، فمِن بابِ أولَى وقتُ الأزماتِ، وهو مقصدٌ قرآنيٌّ أصيلٌ حيثُ مدحَ اللهُ التوسطَ في مواضعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ، وربطَهَا في أغلبِهَا بالإنفاقِ الماديِّ كقولهِ تعالي: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، وحثَّ عليهِ نبيُّنَا ﷺ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَا عَالَ مُقْتَصِدٌ قَطُّ» (الطَّبَرَانِيُّ وَرِجَالُهُ وُثِّقُوا، وَفِي بَعْضِهِمْ خِلَافٌ)، والإسرافُ والتبذيرُ يؤثرُ على حياةِ الإنسانِ وأولادهِ مِن بعدهِ، قالِ ﷺ: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ» (متفق عليه) .
إنَّ منهجَ الإسلامِ هو تربيةُ الإنسانِ على ثقافةِ الاستغناءِ عن الأشياءِ لا على الاستهلاكِ والبذخِ حتى لا تستعبدَهُم المادةُ خاصةً عندما تشتدُّ بهم الفاقةُ، وهذا ما ربَّى عليه رسولُنَا أصحابَهُ ووجهَهُم إليهِ، فعَنْ مُعَاذٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ ; فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» (أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)، ثم أبرزَ مَن سلكَ هذا المنهجَ مِن بعدهِ سيدُنَا عمرُ مع عمالهِ ومَن استخلفَهُم فعَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ: «وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَاخْشَوْشِنُوا وَاخْلَوْلِقُوا» (ابن حبان).
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
ثانيًا: حثَّ الإسلامُ على تعجيلِ الزكاةِ والإكثارِ مِن الصدقاتِ وقتَ الأزماتِ: إنَّ بذلَ الصدقاتِ أحدُ أهمِّ الركائزِ الاجتماعيةِ التي تنشرُ الترابطَ والتكاتفَ، وتبثُّ روحَ التعاونِ والتراحمِ خاصةً في وقتِ الشدةِ، إذ لا يصحُّ شرعًا ولا عرفًا أنْ يستحوذَ على المالِ فئةٌ معينةٌ فلا تنظر إلى غيرهِ، فالمسلمون جميعًا كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكَى منهُ عضوٌ تأثرَ باقِي جسدهِ قَالَ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (مسلم)، وقد رغّبَ ربُّنَا في غيرِ آيةٍ على الإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ فقالَ: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ولذا أجازَ الفقهاءُ وقتَ حلولِ الأزماتِ تعجيلَ دفعِ الزكاةِ إلى مستحقيهَا متَى بلغَ المالُ النصابَ المقررَ شرعًا حتى يتحققَ المغزَى والمقصدَ منها وهو سدُّ حاجةِ الفقيرِ والسائلِ، وهذا ما أفتَى بهِ رسولُنَا فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ العَبَّاسَ بْن عَبْد الْمُطَّلِب سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ» (الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) .
لقد كانَ مِن أخلاقِ الجيلِ الأولِ مِن الصحابةِ الإيثارُ وعدمُ الضنِّ والبخلِ على الآخرينَ بمَا يملكونَهُ وقد مدحَهُم اللهُ على هذا فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وانظرْ في هذا الأنموذجِ الذي قلَّمَا يجودُ الزمانُ بمثلهِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «مَنْ يَضُمُّ – أَوْ يُضِيفُ – هَذَا؟» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتٌ لِلصِّبْيَانِ، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْلِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْلَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ – أَوْ: عَجِبَ – مِنْ فَعَالِكُمَا فأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾» (البخاري) .
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
لقد بيَّنَ رسولُنَا ﷺ حالَ المجتمعِ عندمَا يمنعُ حقَّ المالِ فعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مَنَعَ قَوْمٌ الزَّكَاةَ إِلَّا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالسِّنِينَ» (الطَّبَرَانِي، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)، فانظرْ كيف يكونُ حالُ المجتمعاتِ عندما تأكلُ حقَّ الفقيرِ ولا تكفلُ المسكين، فالإسلامُ لا يريدُ مِن أتباعهِ أنْ يعيشُوا في دائرةٍ منغلقةٍ على أنفسِهِم متغافلين واجبَهُم تجاهَ الآخرينَ مِن الضعفاءِ والمحتاجين، ولذا مَن يفعلْ ذلك معرضٌ لسخطِ أحكمِ الحاكمين، واستمعْ إلى هذا المشهدِ القرآنِي- الذي يجعلُ الولدان شيبًا- حيثُ جاءَ على لسانِ المتقين- على سبيلِ التوبيخِ والتحسيرِ لهؤلاءِ المجرمين- ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾، فها هُم قد اعترفُوا وأقرُّوا بأنَّ الإلقاءَ بهِم في جهنَّم إنَّما كان بسببِ عدمِ إطعامِ الجائعِ، وتركِ كسوتهِ، ورعايةِ حالهِ، بل يزيدُ اللهُ الأمرَ إيضاحًا فيجعلَ في رقبةِ كلِّ موحدٍ بهِ حقًا للمسكين أنْ يحضَّ غيرَهُ على إطعامهِ والاهتمامِ بهِ، ويجعلً تركَ هذا الحضِّ مِن لوازمِ الكفرِ والتكذيبِ بيومِ الوعيدِ ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ﴾
إنَّ تفعيلَ دورِ الصدقاتِ يحققُ التكافلَ المجتمعيَّ، ويقضِي على الرذائلِ الإنسانيةِ كالتسولِ؛ إذ يشعرُ كلُّ فردٍ أنْ لهُ حقوقًا وعليهِ واجبات، فينشأُ الأمنُ، ويعمُّ الرخاءُ والتقدمُ، ويحيا الناسُ حياةً طيبةً ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وكما قِيل:
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ … فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
مَنْ كَانَ لِلْخَيْرِ مَنَّاعًا فَلَيْسَ لَهُ … عَلَى الحَقِيقَةِ إِخْوَانٌ وَخِلاَّنُ
أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ … فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِنْسَانِ إِمْكَانُ
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
ولذا عندمَا يضنُّ الأغنياءُ على الفقراءِ والأيتامِ، ينشأُ عدمُ التوازنِ داخلَ الأوطانِ، وصدقَ ﷺ حيثُ قالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ، وَلَنْ يُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِذَا جَاعُوا وَعَرَوْا إِلَّا بِمَا يُضَيِّعُ أَغْنِيَاؤُهُمْ» (الطَّبَرَانِيُّ)، وعندئذٍ يأتِي العقابُ الإلهِي لهذا الممتنعِ عن أداءِ زكاتهِ وصدقَ ﷺ حيثُ قالَ: «يا مَعْشَرَ المهاجرينَ خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: … ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا» (ابن ماجه) .
إنَّ الإنفاقَ علامةٌ على صدقِ الإيمانِ وكمالهِ كمَا قالَ ﷺ:”وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ” (مسلم)، ومِن المعلومِ أنَّ الإنفاقَ حالةُ السَّرَّاءِ يكونُ أمرًا طبيعيًّا لكن حالةُ العُسْرِ يحملُ دلالةً مثاليةً على مصداقيةِ الإيمانِ والتكافلِ بينَ أفرادِ المجتمعِ الواحدِ قالَ تعالَى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
ثالثًا: حاربَ كلَّ أنواعِ الاستغلالِ: إذا كان دينُنَا قد أرشدَ إلى الكسبِ الحلالِ فقالَ ربُّنَا: ﴿وَأَحَلَّ ﷲ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وقد ضبطَ وقيدَ هذه المعاملاتِ بما يجبُ أنْ تكونَ عليهِ مِن مراعاةِ حقوقِ الناسِ، والتزامِ العدلِ فيمَا بينَهُم، وعدمِ أكلِ أموالِهِم بالباطلِ فقالَ ربُّنَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، وفي سبيلِ تحقيقِ ذلك حرَّمَ ربُّنَا معاملاتٍ فيها استغلالٌ لظروفِ وحاجةِ الناسِ: كالاحتكارِ الذي هو حبسُ السلعِ عن الخلقِ رغمَ حاجتِهِم إليهَا؛ ليبيعَهَا المستغلُّ وقتَ الغلاءِ بسعرٍ أعلَى، ونظرًا لنيتهِ الخبيثةِ، وسوءِ طويتهِ المريضةِ بشرَهُ نبيُّنَا ﷺ بالإفلاسِ فعَنْ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، يَقُولُ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ، ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ» (ابن مَاجَهْ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ)، بل حكمَ عليهِ بالطردِ مِن رحمةِ اللهِ؛ فهو كما لم يرحمْ خلقَهُ ولم يشفقْ عليهِم – بل مصَّ دمَّهُم، ومنعَ قوتَهُم – كان عقابَهُ مِن جنسِ عملهِ، ودعَا بالبركةِ للذي يقلِّبُ سلعتَهُ، ويبعَهَا دونَ استغلالٍ فقَالَ ﷺ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» (ابن ماجه، إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ)، والاحتكارُ لا يكونُ في الأقواتِ فحسب، وإنَّمَا في كلِّ ما يحتاجُ إليهِ الناسُ مِن منافع، وقد أجمعَ العلماءُ على أنَّهُ لو احتكرَ إنسانٌ شيئًا، واضطرَّ الناسُ إليهِ، ولم يجدُوا غيرَهُ أُجبرَ على بيعهِ، قال الإمامُ النوويُّ: «أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أُجبر عَلَى بَيْعِهِ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ» أ.ه، فالمستغلُّ مهمَا حقّقَ مِن ربحٍ إلّا أنَّه إلى زوالٍ وفناءٍ؛ لأنَّه ركنَ إلى مالهِ، فملأَ بهِ جيبَهُ، وغزَّى بهِ بطنَهُ، وصارَ عبدًا لهُ قالَ ربُّنَا: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، ولذا دعَا عليهِ رسولُنَا بالخيبةِ والخسرانِ قالَ ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» (البخاري) .
تابع/ خطبة الجمعة القادمة 17 مارس 2023
إنَّ الاستغلالَ جريمةٌ دينيةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ وثمرةٌ مِن ثمراتِ الانحرافِ عن منهجِ اللهِ؛ إذ يترتبُ عليهِ فقدانُ خلقِ التكافلِ والتراحمِ؛ إذ يصيرُ كلُّ إنسانٍ يبحثُ عن نفسهِ وحالهِ ألَا فليتُبْ فاعلُهُ، ويرجعْ إلى رشدهِ وصوابهِ وإلّا فقد برئتْ منهُ ذمةُ اللهِ، قالَ ﷺ: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ» (أحمد، وسنده صحيح)؛ ولذا شرعَ الإسلامُ للمسئولِ، – حمايةً للصالحِ العامِ وضبطًا لحياةِ الخلقِ- مراقبةَ هؤلاء ومعاقبتَهُم بكلِّ وسيلةٍ يراهَا مناسبةً لردعِ مَن تسولُ لهُ نفسُهُ الإضرارَ بالمجتمعِ، أو إحداثَ خللٍ داخلَ صفوفهِ ولا أدلَّ على ذلك مِمَّا فعلَهُ سيدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ في عامِ المجاعةِ لمَّا وجدَ أنَّ القحطَ قد اشتدَّ، والطعامَ قد ندرَ، والناسَ متفاوتةُ الأرزاقِ حيثُ صادرَ كثيرًا مِن الطيباتِ وأودعهَا بيتَ المالِ، وقسمَهَا على الناسِ كلّ بقدرِ حاجتهِ – طبقًا لإحصاءاتٍ دقيقةٍ- ولم ينكرْ عليهِ أحدٌ مِن الصحابةِ فعلَهُ، بل أقرُّوهُ فيمَا عملَ .
هذا هو التكافلُ المجتمعيُّ الذي نادَى بهِ الإسلامُ قبلَ أنْ تنادِي به النظرياتُ الاجتماعيةُ الوضعيةُ، وحثَّ أتباعَهُ عليهِ، وكان رسولُنَا ﷺ قدوةَ الناسِ؛ ليعلمَ الأمةَ أهميةَ أنْ يشعرَ بعضُهُم بهمومِ بعضٍ، وأنْ يساعدَ بعضُهُم بعضًا، فينشأَ الشعورُ بالرضَا بمَا قسمَ اللهُ، وصدقَ ﷺ حيثُ قالَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» (الترمذي وصححه) .
اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ تحفظَ دينَنَا الذي هو عصمةُ أمرِنَا، ودنيانَا التي فيهَا معاشُنَا، وآخرتَنَا التي إليهَا مردُّنَا، وأنْ تجعلَ بلدنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، ووفق ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ
كتبه: د / محروس رمضان حفظي عبد العال
عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف