خطبة الجمعة القادمة للدكتور محمد حرز : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 12 ذو الحجة 1444هـ ، الموافق 30 يونيو 2023م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 يوينو 2023م بصيغة word بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م بصيغة pdf بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن.
أولًا: الأمنُ والأمانُ نعمةٌ ربانيةٌ ومنحةٌ إلهيةٌ.
ثانيــــًا: أسبابُ جلبِ الأمنِ والأمانِ.
ثالثــــًا وأخيرًا: نماذجُ الأمنِ والأمانِ في ظلِّ الإسلامِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 30 يونيو 2023م بعنوان : حديث القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عن الأمن : كما يلي:
خطبة الجمعة القادمة : حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ المشرفةِ عن الأمنِ.
د/ محمد حرز ، 12 ذو الحجة بتاريخ 1444هـ، الموافق، 30 يونيو 2023م
الحمدُ لله ربِّ العالمين جعلً الأمنَ مقرونًا بالإيمانِ فقالَ في محكمِ التنزيلِ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، أولٌ بلا ابتداء، وآخرٌ بلا انتهاء، الوترُ الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فاللهُمّ صلّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أمّا بعدُ…..
فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}الحشر:.18
عبادَ الله: (حديثُ القرآنِ الكريمِ والسنةِ المشرفةِ عن الأمنِ )، عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا.
عناصر اللقاء:
أولًا: الأمنُ والأمانُ نعمةٌ ربانيةٌ ومنحةٌ إلهيةٌ.
ثانيــــًا: أسبابُ جلبِ الأمنِ والأمانِ.
ثالثــــًا وأخيرًا: نماذجُ الأمنِ والأمانِ في ظلِّ الإسلامِ.
أيُّها السادة: ما أحوجنَا إلى أنْ يكونَ حديثُنا في هذه الدقائقِ المعدودة ِعن حديثِ القرآنِ الكريمِ والسنةِ المشرفةِ عن الأمنِ والأمانِ، وخاصةً وهناكَ دعواتٌ مِن آنٍ لآخرٍ الهدفُ منها النيلُ مِن مصرِنَا الغالية، فمصرُنَا الغاليةُ مستهدفةٌ مِن الداخلِ والخارجِ مِمَّن يريدونَ النيلَ منها ومِن أمنِهَا واستقرارِهَا؛ لتعمَّ الفوضَى والخرابُ والهلاكُ والدمارُ، ولا حولَ ولا قوةَ إِلّا باللهِ، وخاصةً والعالمُ اليومَ محرومٌ مِن الأمنِ والأمانِ، رغمَ هذه الوسائلِ الأمنيةِ المذهلةِ التي وصلَ إليها العلمُ الحديثُ، ورغمَ هذه الاختراعاتِ والابتكاراتِ المذهلةِ التي يكتشفُ ويخترعُ منها كلُّ يومٍ الجديدَ والجديدَ، ورغمَ هذا التخطيطِ الهائلِ المبنِي على الأسسِ العلميةِ والنفسيةِ لمحاربةِ الجريمةِ، بالرغمِ مِن هذا كلِّهِ فإنّ العالمَ بأسرِه لا زالَ محرومًا مِن الأمنِ والأمانِ، وخاصةً وأنّ الملايينَ مِن البشرِ في عالمِنَا اليوم يعيشون في حالةٍ مِن الرعبِ والفزعِ والذعرِ والخوفِ والقلقِ، بل وينتظرون الموتَ في كلِّ لحظةٍ مِن لحظاتِ حياتِهِم ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ، فالعالمُ اليوم يعيشُ صراعًا نفسيًّا، ورعبًا يجتاحُ الأعماق، ويقضي على الطمأنينةِ والرخاءِ، رغم ما حققَهُ مِن التقدمِ في عالمِ الماديات، وما وفرَهُ مِن وسائلِ حمايةِ الأمنِ والاستقرارِ، والسببُ في ذلك هو البعدُ عن منهجِ اللهِ الذي لو رجعَ الناسُ إليه لسكبَ اللهُ في نفوسهِم السكينةَ، ولملأ قلوبَهُم طمأنينةً، وللهِ درُّ القائلِ:
إِذَا اجتَمَعَ الإِسلامُ وَالقُوتُ لِلفَتى *** وَكَانَ صَحِيحًا جِسمُهُ وَهُوَ في أَمنِ
فَقَد مَلَكَ الدُّنيَا جَمِيعًا وَحَازَهَا *** وَحُقَّ عَلَيهِ الشُّكرُ للهِ ذِي المَنِّ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة
أولًا: الأمنُ والأمانُ نعمةٌ ربانيةٌ ومنحةٌ إلهيةٌ.
أيُّها السادة: الأمنُ ضدُّ الخوفِ والرعبِ والفزعِ والهلعِ، والأمنُ طمأنينةُ النفسِ، وزوالُ الخوفِ، والأمنُ ضدُّ القلقِ وضدُّ الانزعاجِ والترقبِ، وهو ضرورةٌ مِن ضرورياتِ الحياةِ بل أهمهَا فهو الهدفُ النبيلُ الذي تنشدهُ المجتمعاتُ، وتتسابقُ إلى تحقيقهِ الشعوبُ وكيف لا؟ وبه تتمُّ مصالحُ العبادِ وتستقيمُ حياةُ الأفرادِ وتهنأُ البلادُ والمجتمعاتُ، وبفقدِه تضيعُ الحقوقُ وتضيعُ المصالحُ ويحصلُ القلقُ والخوفُ، وتعمُّ الفوضَى ويتسلطُ الظلمةُ على الناسِ ويحصلُ السلبُ والنهبُ وتسفكُ الدماءُ وتنتهكُ الأعراضُ إلى غيرِ ذلك مِن مظاهرِ فقدِ الأمنِ في المجتمعاتِ، فلا يأمنُ الإنسانُ منّا على نفسِه وهو في بيتِه ولا يأمنُ على أهلِه وحرمتِه ولا يأمنُ على مالِه ولا يأمنُ وهو في الشارعِ ولا يأمنُ وهو في المسجدِ ولا يأمنُ وهو في مكتبِه ولا يأمن في أيِّ مكانٍ إذا زالتْ نعمةُ الأمنِ عن المجتمعاتِ، لذا هناك مَن يحاولون إزاحةَ الأمنِ عن المجتمعاتِ لأجلِ أنْ تكونَ الدنيا فوضَى لا سيَّمَا في بلادِ المسلمين، وخاصةً في مصرِنَا الغاليةِ حفظَهَا اللهُ، فإذا غابَ الأمنُ لم تستقمْ حياةٌ، إذا غابَ الأمنُ لم يطبْ عيشٌ، إذا غابَ الأمنُ لم تصلحْ الدنيا، إذا غابَ الأمنُ لا يقومُ الدينُ، ولا يَعرفُ قَدْرَ هذه النِّعمةِ إلّا مَن فَقدَها وكيف لا؟ والأمنُ مِن أهمِّ مطالبِ الحياة، بها تتحقَّقُ الحياةُ السعيدةُ، وبه يحصُلُ الاطمئنانُ والاستِقرارُ، به تتحقَّقُ السلامةُ مِن الفتنِ والشُّرورِ، لذا فالأمنُ نعمةٌ ربانيةٌ ومنحةٌ إلهيةٌ ومنَّةٌ عظيمةٌ لا يعرِفُ كبيرَ مقدارِهَا وعظيمَ أهميتِهَا إلّا مَن اكتوَى بنارِ فقدِ الأمنِ والأمانِ، فوقعَ في الخوفِ والقلقِ والذُّعرِ والاضطرابِ ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا ، وكيف لا؟ والأمنُ نعمةٌ عظيمةٌ امتنَّ اللهُ بها على أقوامٍ، فقال -جل وعلا ممتنًا عَلَى سَبَأٍ،{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ} [سبأ: 18]. (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: 18]. ويقولُ سبحانه ممتَنًّا على قريشٍ بنعمةِ الأمنِ: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]، وامتنَّ اللهُ بهذه النعمةِ على أصحابِ نبيِّهِ ﷺ، فقال جل وعلا(( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{[الأنفال: 26] ، وكيف لا؟ وقد فسَّرَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ – رضي الله تعالى عنه – قولَ اللهِ – جلَّ في علاه –: ﴿لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ فقالَ في بيانِ النِّعَمِ المسئولِ عنها: “الأمنُ والصحةُ”. وهذا تفسيرٌ للآيةِ ببعضِ صورِهًا ، وكيف لا؟ وإنَّ أوّلَ أمرٍ طلَبَهُ إبراهيمُ الخليلُ- عليه السلام – مِن ربِّهِ أنْ يجعلَ هذا البلَدَ آمنًا مطمئنةً مكةَ المكرمةَ زادهَا اللهُ تكريمًا وتشريفًا إلى يومِ الدينِ، فقال جل وعلا ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾[4]، وفي آيةٍ أخرى قدَّمَ – عليه السلام – في ندائهِ لرَبِّهِ نعْمَةَ الأمنِ على نعْمةِ العَيْشِ والرِّزْقِ، فقال: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾[5].وكيف لا؟ ولأهميةِ الأمنِ وعظيمِ مكانتِه كان مِن دعائهِ ﷺ: « اللَّهمَّ استُرْ عَوراتي ، و آمِنْ رَوعاتِي »؛ رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم. وكان نبيُّكم ﷺ إذا دَخَلَ شهرٌ جديدٌ، ورأى هلالَهُ، سألَ اللهَ أنْ يجعلَه شهرَ أمنٍ وأمانٍ، قال ﷺ: (اللهُمَّ أهِلَّهُ علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تُحب وترضى).
وكيف لا؟وإنَّ دِينَكُمْ جَاءَ بِحِفْظِ الْأَمْـنِ وذلك من خلال َحِفْظِ الدِّمَاءِ والأموال والاعراض .. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ »؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْـوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ». وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ).وَلَقَدْ صَانَ الْإِسْلَامُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ، قَـالَ : «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» فحرمةُ الدماءِ وحرمةُ الأموالِ وحرمةُ الأعراضِ الهدفُ منها تحقيقُ الأمنِ والأمانِ في الأوطانِ أيُّها الأخيار .
وكيف لا؟ وهذا هو يوسفُ عليه السلام يطلبُ مِن والديهِ دخولَ مصرَ مخبرًا باستتبابِ الأمنِ بها } فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ) (يوسف: 99(ولمَّا خافَ موسى عليه السلام أعلَمَهُ ربُّهُ أنَّه مِن الآمنين ليهدأَ رَوْعهُ، وتسكنَ نفسهُ فقال مخاطبًا إيّاهُ: ( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ {(القصص: 31.و في صحيح مسلم أنَّ النبيَّ ﷺ لمّا رحمَ أهلَ مكةَ يومَ فتحهَا ذكرَهُم بما ينالونَ به الأمن، مِمّا يدلُّ على أهميتِه لدى المؤمنين والكافرين، فقالَ: «مَن دخَل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ، ومَن ألقَى السّلاحَ فهو آمنٌ، ومَن دخلَ المسجدَ فهو آمنٌ . فالْأَمْنُ مَطْلَبٌ عَظِيمٌ، وَغَايَةٌ جَلِيلَةٌ، قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).وَمِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ حُصُولِه وَاسْتِقْرَارِه الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ؛ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ.
وكيف لا؟ وَمَطْلَبُ الْأَمْنِ يَسْبِقُ طَلَبَ الْغِذَاءِ.. فَبِغَيْرِ الْأَمْنِ: لَا يُسْتَسَاغُ طَعَامٌ، وَلَا يُهْنَأُ بِعَيْشٍ، وَلَا يَلِذَّ نَوْمٌ، وَلَا يُنْعَمُ بِرَاحَةٍ..قِيلَ لِحَكِيمٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ: أَيْنَ تَجِدُ السُّرُورَ؟ قَالَ: فِي الْأَمْنِ، فَإِنِّي وَجَدْتُ الْخَائِفَ لَا عَيْشَ لَهُ.وَقَدْ سُئِلَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟ فَقَالَ: «الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ، وَأَنَّهَا إِذَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ، فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَى أَنْ تَمُوتَ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ».
لذا حرَّم الإسلامُ كلَّ فعلٍ يعبَثُ بالأمنِ والاطمئنانِ والاستِقرارِ، وحذَّرَ مِن أيِّ عملٍ يبُثُّ الخوفَ والرعبَ والاضطرابَ، فقال النبيُّ ﷺ: “لا يحلُّ لمُسلمٍ أن يُروِّع مُسلمًا”. رواه أحمد، وأبو داود. بل ولقد بلغَتْ عنايةُ الإسلامِ بالحِفاظِ على الأمنِ بأنْ حرَّمَ كلَّ ما يُؤذِي المُسلمين في طُرقِهِم وأسواقِهِم ومواضعِ حاجاتهِم، فعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ ﷺ: “إذا مرَّ أحدُكم في مساجِدِنَا أو أسواقِنَا ومعه نَبلٌ فليُمسِك بنَصلِهَا أن يُصيبَ أحدًا مِن المُسلمين منها بشيءٍ”. متفق عليه، لذا قدّمَ نبيُّنَا مُحمدٌ ﷺ بدورِه نعمةَ الأمنِ على نعمتَيِ الصحةِ والرزقِ، رُوي في صحيحِ الأدبِ للبخاري وصحيحِ ابنِ حبان وسننِ الترمذي: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» نَسْأَلُ اللهَ الْعَلِيَّ الْقَدِيرَ أَنْ يُدِيمَ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْأَمْنِ وَالاسْتِقْرَارِ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة
ثانيــــًا: أسبابُ جلبِ الأمنِ والأمانِ.
أيُّها السادة: هناك أسبابٌ كثيرةٌ وعديدةٌ تحققُ الأمنَ والأمانَ والاستقرارَ والطمأنينةَ منها على سبيلِ المثالِ لا الحصر:
توحيدُ اللهِ تعالى وعبادتُه وطاعتُه والعملُ الصالح: قال جلّ وعلا ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. فالعبادةُ شرطٌ لتحقيقِ الأمنِ والأمانِ، قال جلّ وعلا ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 3، 4] فعن عبدِاللهِ رضي اللهُ عنه قال: لمّا نزلتْ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أيُّنا لا يظلمُ نفسَهُ؟ قال: ((ليس ذلك، إنّمَا هو الشركُ، ألم تسمعوا ما قال لقمانُ لابنهِ وهو يعظُه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]؟)))؛ رواه البخاري ومسلم.
ومِن أسبابِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ: الحِرصُ على ردِّ كلِّ تنازُعٍ في أمورِ الدينِ والدنيا إلى الأصلَيْنِ العظيمَينِ والوحيَيْنِ الكريمينِ: قالَ جلّ وعلا﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]. قالَ جلّ وعلا﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]. وإنّ مِن أسبابِ توفُّرِ الأمنِ: السمعُ والطاعةُ لوليِّ الأمرِ في المعروفِ وفيما لا معصيةَ فيه للهِ -جل وعلا-، فذلكم أصلٌ مِن أصولِ الدينِ، وبهذا الأصلِ تنتظِمُ مصالحُ الدارَين: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59] وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “عَلَيْكَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ”. رواه مسلم؛ أَيْ: تَجِبُ عَلَيْكَ طَاعَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ فِيمَا يَشُقُّ وَتَكْرَهُهُ النُّفُوسُ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لِلَّهِ، فِي حَالَتَيِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
ومِن أسبابِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ: شكرُ نعمِ اللهِ -تعالى-: ومِن أجلِّهَا نعمةُ الأمنِ، فإنَّه بالشكرِ تدومُ النعمُ وتزدادُ، قال -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7]، والعكسُ بالعكسِ، فبكفرِ النعمِ تزولُ ويحلُّ محلَّهَا العذابُ بالخوفِ، وهذه حادثةٌ واقعيةٌ قصَّهَا علينا القرآنُ الكريمُ قائلًا: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، فقد كانت القريةُ في طمأنينةِ وأمانٍ وفي رزقِ رغدٍ، فلمَّا كفرتْ النعمةَ أبدلَهَا اللهُ الجوعَ محلَّ الرزقِ الرغدِ، والخوفَ محلَّ الطمأنينةِ والأمنِ! وهؤلاء هم أهلُ سبأٍ ما شكروا نعمةَ ربِّهِم، فأعرَضُوا عن المنعمِ، وعن عبادتِه، وبطرُوا النعمةَ، ومَلُّوهَا، فأتاهُم العقابُ والعذابُ، فقال سبحانه: ﴿ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 16، 17].
ومِن أسبابِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ: المودةُ والتآلفُ وإصلاحُ ذاتِ البين: فالأمانُ والطمأنينةُ تبعٌ ونتيجةٌ لانتشارِ الحبِّ والإخاءِ بين المسلمين، وقد حثنَا رسولُنَا ﷺ على الصلحِ بينَ المتخاصمين؛ فإنّ الخصومةَ هي بذرٌ للخوفِ وتبديدٌ للأمنِ في المجتمع، فعن أبي الدرداءِ قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ ؟ قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ . قال : إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ . لا أقولُ : إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ روى أحمد في مسنده “هي الحالقةُ لا أقولُ تحلقُ الشعرَ، ولكن تحلقُ الدينَ) !
ومِن أسبابِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ: عملُ الحسناتِ واجتنابُ السيئاتِ: فإنّ الذنوبَ والمعاصِي نذيرُ الشؤمِ ومجلبةُ الشرِّ وحلولُ الخوفِ محلّ الأمنِ، وإنّ فعلَ الحسناتِ والقرباتِ والصالحاتِ أمانٌ مِن كلِّ خوفٍ وفزعٍ في الدنيا والآخرةِ، قال -تعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)[النمل: 89]. فالذنوبُ مُزِيلَةٌ للنِّعَمِ، وبها تحلُّ النِّقَمِ، قال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾[9].
ومِن أسبابِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ: الدعاءُ بدوامِ الأمنِ والاستقرارِ: فقد سمعنَا الخليلَ إبراهيمَ -عليه السلام- وهو يدعو فيقولُ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا)[البقرة: 126]، ومرةً قالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إبراهيم: 35]، فلندْعُ إذن لأوطانِنَا ولأهلينَا ولبيوتِنَا ولقلوبِنَا ولنفوسِنَا أنْ يرفرفَ عليها الأمنُ والأمانُ والطمأنينةُ والوئامُ والسلامةُ والإسلامُ.
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّـــــــــي *** مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّـــــــي
فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا *** وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَــــنِّ
يَظُنُّ الناسُ بي خَيرًا وَإِنّي *** لَشَرُّ الناسِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية …الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ، وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلّا به، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعد
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة
ثالثــــًا وأخيرًا: نماذجُ الأمنِ والأمانِ في ظلِّ الإسلامِ.
أيُّها السادة: الإسلامُ واقعٌ، ومنهجُ حياةٍ، سيظلُّ العالمُ الإسلاميُّ يعيش ُفي هذا القلقِ والضنكِ بعيدًا عن منهجِ اللهِ جلّ وعلا، وإنْ أرادَ السعادةَ والريادةَ والسيادةَ والقيادةَ، فليرجعْ إلى أصلِ عزّهِ ومصدرِ شرفِه وكرامتِه ألاَ وهو: لقد كنّا أذلَّ قومٍ فأعزّنَا اللهُ بالإسلام، فمهمَا ابتغينَا العزةَ في غيرِه أذلنَا اللهُ. قال جل وعلا ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ))[طه: 124-126]. نعم أيُّها الأحبةُ! لقد حققَ منهجُ اللهِ في الأرضِ الأمنَ والأمانَ والسعةَ والرخاءَ، والطمأنينةَ القلبيةَ والسعادةَ النفسيةَ وانشراحَ الصدورِ، لا أقولُ هذا رجمًا بالغيب، ولكنه واقعٌ، ولكنه تاريخٌ مفتوحةٌ صفحاتُه لكلِّ مَن أرادَ أنْ يقرأَ وأنْ يتعرفَ على الحقائق، أقولُ بملءِ فمِي: لقد حققَ منهجُ اللهِ في الأرضِ الأمنَ والأمانَ، نعم لقد تحققَ الأمنُ والأمانُ، لا أقولُ للمسلمين الذين نفذُوا منهجَ اللهِ فحسب، بل للمسلمين ولليهودِ والنصارى الذين عاشوا تحت ظلالِ منهجِ اللهِ في أيِّ بقعةٍ مِن أرضِ اللهِ جل وعلا. إنّ ذلكُم اليهودي -وكلكُم يعلمُ القصةَ، وغيرَهَا كثيرٌ وكثير- اليهوديُّ الذي سرقَ درعَ عليًّا، وعليٌّ حينئذٍ كان خليفةً المسلمين وأميرًا للمؤمنين، ولما رأى عليٌّ درعَهُ عند اليهودِي قال: هذا درعِي، لا أتركُكَ. فقال اليهودِي: بل هو درعِي. أتدرون ماذا حدث؟ مَثَلَ عليٌّ أميرُ المؤمنين وخليفةُ المسلمين مع اليهودِي أمامَ قاضِي المسلمين، وقفَا في ساحةِ القضاءِ أمامَ شريحٍ رحمه اللهُ رحمةً واسعةً الذي ضربَ بعدلِه المثل، ولمّا دخلَ عليٌّ مع اليهودِي أمامَ شريحٍ، فنادى شريحٌ على عليٍّ قائلًا: يا أبَا الحسن! فغضبَ عليٌّ، فظنَّ شريحٌ سوءًا، قال: ما الذي أغضبَك، فقال عليٌّ -الذي غضبَ للعدلِ والحقِّ- قال: يا شريح! أما وقد كنيتنِي -أي: ناديتَ عليَّ بكنيتِي وقلتَ: يا أبا الحسن – فلقد كان من واجبِك أنْ تكنِي اليهودي هو الآخر، أي: فإمّا أنْ تكنينِي أنا وخصمِي أو تدع. ما هذا الخلقُ وما هذا الدينُ العظيمُ؟! ومَثَلَ عليٌّ واليهوديُّ أمامَ شريحٍ ، فنظرَ شريحٌ إلى عليٍّ وقال: يا عليّ ما قضيتُك؟ قال: الدرعُ درعِي ولم أبعْ ولم أهبْ، أي: لم أهبْ له هذا الدرعَ ولم أبعْه، فنظرَ شريحٌ إلى اليهودِي قال: ما تقولُ في كلامِ عليٍّ؟! فقال اليهودِيُّ: الدرع ُ درعِي وليس أميرُ المؤمنين عندي بكاذب! خبثٌ ودهاءٌ معهودان: الدرعُ درعِي وليس أميرُ المؤمنين عندي بكاذب، فنظرَ شريحٌ إلى عليٍّ وقال: هل عندك مِن بينةٍ؟ يقولُ هذا لـعليٍّ وهو أميرُ المؤمنين، هل عندك مِن بينةٍ؟ فالبينةُ على مَن ادّعَى واليمينُ على مَن أنكر، قاعدةٌ شرعيةٌ عظيمةٌ أولُ مَن وضعهَا أستاذُ البشريةِ ومعلمُ الإنسانيةِ مُحمدٌ ﷺ. قال شريحٌ لـعليٍّ: هل عندك مِن بينةٍ؟ قال: لا، وكان شريحٌ رائعًا بقدرِ ما كان أميرُ المؤمنين عظيمًا، وقضى شريحٌ بالدرعِ لليهودي. وأخذَ اليهوديُّ الدرعَ وخرجَ، ومضى غيرَ قليلِ، ثم عادَ مرةً أخرى ليقفَ أمامَ عليٍّ وأمامَ القاضي وهو يقولُ: ما هذا! أميرُ المؤمنين يقفُ معي خصمًا أمامَ قاضٍ مِن قضاةِ المسلمين ويحكمُ القاضي بالدرع لي! واللهِ ليست هذه أخلاقَ بشرٍ، إنّما هي أخلاقُ أنبياء، أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وأشهدُ أنّ مُحمدًا رسولُ اللهِ، وقال اليهودي: يا أميرَ المؤمنين! الدرعُ درعُك ولقد سقطتْ منك فأخذتُها، فنظرَ إليه عليٌّ مبتسماً وقال: أما وقد شرحَ اللهُ صدرَك للإسلامِ فالدرعُ مني هديةٌ لك! هذا الأمنُ والأمانُ لمَن؟ لأبناءِ يهود، تحت ظلالِ الإسلامِ الوارفةِ.
ذاك يهوديٌّ، وهذا نصرانيٌّ قبطيٌّ سبقَ ابنَ عمروِ بنِ العاص في مصرَ، وغضبَ ابنُ والي مصرَ كيف يسبقُه القبطيُّ؟! وجاء بعصا وضرب هذا القبطيَّ في رأسِه وقال: خذهَا وأنا ابنُ الأكرمين! وما كان مِن هذا القبطيِّ الذي عرفَ عظمةَ الإسلامِ إلّا أنْ يسابقَ الريحَ إلى واحةِ العدلِ، إلى المدينةِ المنورةِ زادَها اللهُ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، إلى أميرِ المؤمنين، إلى فاروقِ الأمةِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللهُ عنه، ويرفعُ له الشكوى. فما كان من عمرَ إلّا أنْ يرسلَ فورًا بأنْ يأتي ابنُ عمرٍو وأبوه عمرو ؛ لأنّ ابنَه ما تجرأَ على فعلتِه إلّا لوجودِ أبيه. ويأتي عمرُو بنُ العاص والي مصرَ مع ولدِه، فيقفان أمامَ أميرِ المؤمنين عمرَ رضي الله عنه، ويقفُ القبطيُّ ويدفعُ عمرُ العصا للقبطِي ويقولُ له: اضربْ ابنَ الأكرمين! هذا إسلامُنَا، هذا هو العدلُ في دينِنا، هذه عظمةُ دينِ مُحمدٍ ﷺ! ويأخذُ القبطيُّ العصا ويضربُ رأسَ ولدِ عمرو ، ويقولُ عمرُ قولتَهُ الخالدةَ التي لا تكتبُ بماءِ الذهبِ فحسب، وإنما تكتبُ بماءِ مِن النور: يا عمرو ! متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتهُم أمهاتُهم أحراراً! لله ما أورعهُ وما أتقاهُ وما أنقاهُ، وللهِ ما أعظمَ إسلامنَا! يا عمرو! متى استعبدتُم الناسَ وقد ولدتهُم أمهاتُهم أحراراً؟! ذاك يهوديُّ وهذا قبطيُّ! ويومَ أنْ فتحَ أبو عبيدةَ بنُ الجراحِ بلادَ الشامِ وفرضَ عليهم الجزيةَ شريطةَ أنْ يدافعَ عنهم وأنْ يحميهُم مِن شرِّ الرومِ على أيدي هرقل ، ويومَ أنْ سمعَ أبو عبيدةَ رضي الله عنه بأنّ هرقلَ قد جهزَ له جيشاً جراراً، خافَ ألّا يستطيعَ أنْ يدافعَ عن هؤلاء الذين أخذَ منهم الجزيةَ، فردَّ عليهم الجزيةَ مرةً أخرى وقال: لقد سمعتُم بـهرقل وأنّه قد جهزَ لنا جيشاً، ونخشى ألا نتمكنَ مِن الدفاعِ عنكم فخذوا جزيتَكُم، وإنْ نصرنَا اللهُ عليهم عاودنَا الحمايةَ والدفاعَ عنكم مرةً أخرى. أيُّ دينٍ هذا! هذا منهجُ اللهِ يحققُ الأمنَ والأمانَ في أرضِ اللهِ، لا للمسلمين فحسب، وإنّما لليهودِ وللنصارى الذين عاشوا في ظلالِه الوارفةِ اليانعةِ! نريدُ أنْ تتضحَ الحقائقُ لهؤلاء الذين يخافون مِن دينِ اللهِ عز وجل الذي وفرّ لهم الأمنَ والأمانَ أكثرَ ممّا وفرتهُ لهم دياناتُهم وقوانينُهم ومواثيقُهم.
فدينُنَا دينُ الأمنِ والأمانِ والاستقرارِ والطمأنينةِ يا سادة،، ولا أمنَ ولا أمانَ إلّا بطاعةِ الرحمنِ وبالبعدِ عن الذنوبِ والمعاصي والآثامِ، فالأمنُ والإيمانُ قرينان، فلا يتحققُ الأمنُ إلّا بالإيمانِ، قال جلّ وعلا:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، ولله در القائل:
إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمان 000 ولا دنيَا لمَـــن لم يحي دينَا
ومَن رضي الحياةَ بغيرِ دينٍ 000 فقد جــعلَ الفناءَ لها قرينـَا
لذا يجبُ أنْ نتقيَ اللهَ في أنفسِنَا في صلاتِنَا، في كتابِ ربِّنَا، في مساجدِنَا، في بيوتِنَا، في تعاملِنَا، في صِلاتِنَا، مع أهليِنَا وأرحامِنَا وجيرانِنَا، يجبُ أنْ نحافظَ على النعمِ مِن التبذيرِ والعبثِ والكفرِ، يجبُ أنْ نحذرَ كلَّ الحذرِ مِن دعاةِ الفرقةِ والشتاتِ والفوضَى واختلالِ الأمنِ، كلُّنَا مسؤولٌ: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [سورة آل عمران: 103]،ويجبُ علينا أنْ نحافظَ على وطنِنَا مصرَ الغاليةِ، فالأمنُ في الأوطانِ مطلبٌ، الكلُّ يريدُه ويطلبُه، ومَن يسعى لزعزعةِ الأمنِ إنّما يريدُ الإفسادَ في الأرضِ، وأنْ تعمَّ الفوضَى والشرُّ بين عبادِ الله، فما يحصلُ في بلادِنَا إنّما هو إرادةٌ للإفسادِ في الأرضِ، فزعزعةُ أمنِ الأمّةِ وترويعُ الآمنين جريمةٌ نكراءُ فيها إعانةُ أعداءِ الإسلامِ على المسلمين، وصدقَ المعصومُ ﷺ إذ يقولُ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا))( البخاري في الأدب المفرد ، والترمذي وابن ماجه) فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَكُونُوا لِوَطَنِكُمْ هَذَا خَيْرَ بُنَاةٍ، وَلِمُقَوِّمَاتِهِ وَأُسُسِهِ حُمَاةً، رَاعُوا نُظُمَهُ وَقِيَمَهُ، وَأَوْفُوا بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ. وحافظوا على أمنه وأمانه واستقراره، وقِفُوا صَفًّا واحِدًا فِي وَجْهِ كُلِّ مُرْجِفٍ، وَتَنَبَّهُوا لِسَعْيِ كُلِّ مُفْسِدٍ، اغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ بِإِنْجَازَاتِهِ الحَاضِرَةِ وَمَجْدِهِ التَّلِيدِ، حَتَّى يُحَقِّقُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى المُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ، فَهُمْ أَمَلُ الوَطَنِ وَبُنَاةُ الغَدِ.
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز
إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف