خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 22 ربيع الثاني 1446هـ ، الموافق 25 أكتوبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 25 أكتوبر 2024م بصيغة word بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 25 أكتوبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 25 أكتوبر 2024م بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا.
أولًا : عوِّدْ لسانَكَ على الخيرِ.
ثانيًا: الكلامُ مسطورٌ ومحفوظْ.
ثالثــــًا وأخيرًا: أحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 25 أكتوبر 2024م بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا : كما يلي:
( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) د محمد حرز
بتاريخ: 22 ربيع الآخر 1446هــ – 25 أكتوبر 2024م
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عباد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
عبادَ الله: ) وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا (عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا .
عناصرُ اللقاءِ:
أولًا : عوِّدْ لسانَكَ على الخيرِ.
ثانيًا: الكلامُ مسطورٌ ومحفوظْ.
ثالثــــًا وأخيرًا: أحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ.
أيُّها السادةُ: ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلي أنْ يكونَ حديثُنَا عن وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا الناسُ في حاجةٍ إلى المخاطبةِ بأحسنِ الأقوالِ وأرقِّ العباراتِ وأجملِ الكلماتِ، فالحياةُ مرهقةٌ فلا تحملْ الناسَ فوقَ طاقتِهِم وتعاملْ معهُم بالحسنَى ، وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا انتشرَ فيهِ الخداعُ وبذاءةُ اللسانِ وفحشُ الأقوالِ والكذبُ، خاصةً بعدَ انتشارِ مواقعِ التواصلِ الاجتماعِي وبلغتْ الأفاقَ، وصدقَ المعصومُ ﷺ إذ يقولُ: ( كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ)، وانتشرتْ الصفحاتُ الوهميةُ على تلكمُ المواقعِ واختفَى أصحابُهَا خلفَ الشاشاتِ الزرقاءِ للنيلِ مِن الناسِ وأعراضِهِم وتتبعِ عوراتِهِم ونسَي المسكينُ قولَ النبيِّ ﷺ: ( لا تَتَّبِعوا عَوْراتِ المُسلِمينَ؛ فإنَّ مَن تَتَبَّعَ عَوراتِهم تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَه فَضَحَه في بَيتِه )، ونسَى المسكينُ قولَ القائلِ:
وما مِن كاتبٍ إلَّا سيــفنَى .. و يبقَي الدهرُ ما كتبتْ يداهُ
فلا تكتُبْ بكفِّكَ غيرَ شيءٍ .. يـسـرُّكَ في القيامةِ أنْ تراهُ
ونسَى المسكينُ قولَ الشافعِيِّ رحمَهُ اللهُ:
لِسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ *** فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ.
وَعَيْنَاكَ إنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايِباً *** فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
أولًا : عوِّدْ لسانَكَ على الخيرِ.
أيُّها السادةُ: إنَّ مِن أجلِّ النعمِ التي أنعمَ اللهُ بهَا على الإنسانِ هي نعمةُ الإفصاحِ والبيانِ، قالَ جلَّ وعلا: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 – 4]، فالبيانُ: هو الإعرابُ عمَّا في الضميرِ مِن المقاصدِ والأغراضِ وهو النطقُ، وبهِ تميزَ الإنسانُ عن بقيةِ أنواعِ الحيوانِ فهو مِن أعظمِ النعمِ، وأجلِّهَا.
ولقد خلقَ اللهُ جلَّ وعلا للبيانِ آلةً وهي اللسانُ بهِ ينطقُ ويتخاطبُ مع أبناءِ جنسِهِ، فمَن استعملَ لسانَهُ في القولِ النافعِ والكلامِ الطيبِ وقضاءِ الحوائجِ وقيدَهُ بلجامِ الشرعِ، فقد أقرَّ بالنعمةِ وأدَّى شكرَهَا، ومَن أطلقَ لسانَهُ في الفحشِ والتفحشِ مِن الأقوالِ، سلكَ بهِ الشيطانُ كلَّ طريقِ شرٍّ وسوءٍ حتي يكبَّهُ في النيرانِ على وجهِهِ .
فلسانُ المرءِ سلاحٌ ذٌو حدينِ إما أنْ يستعملَهُ في ما يرضِي اللهَ وما طابَ مِن الأقوالِ فيغرسْ شجرةً تُؤتِي ثمارَهَا كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّهَا، وإمَّا أنْ يستعملَهُ فيمَا يورثُ سَخطَ اللهِ فيكونَ سببًا في هلاكِهِ ودخولِهِ النار، وللهِ درُّ القائلِ:
يموتُ الفتَى مِن عثرةٍ بلسانِهِ**** وليسَ يموتُ المرءُ مِن عثرةِ الرِّجلِ
فالمسلمُ الحقيقيُ ياسادة تظهرُ حقيقةُ إسلامِه أوّلَ ما تظهرُ في لسانِه ويدهِ كما في البخارِي ومسلمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) رواه البخاري. لذا فإنَّ المرءَ يُقاسُ بلسانِهِ، كما قال عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنهُ وأرضاهُ: ” الْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ : قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ “، لم يقلْ بمالِهِ ولا سلطانِهِ ولا عملِهِ ولا بجسدِهِ إنّمَا بقلبِهِ ولسانِهِ لذَا لمَّا سُئِلَ معاذُ بنُ جبلٍ رضي اللهُ عنهُ أستاذَ البشريةِ ﷺ قائلًا له: ( إِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ) رواه الترمذي، لذا قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ ـ :{ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ } مَعَ صِغَرِ حَجْمِهِ ولِكِبَرِ جُرْمِهِ وَكَثْرَةِ جِنَايَتِهِ وَصُعُوبَةِ حِفْظِهِ )، لذا كان يقولُ: يا لسانُ قُلْ خيرًا تنعمْ واسكتْ عن شرٍّ تسلمْ قبلَ أنْ تندمَ”، لذا قالَ ﷺ كما في صحيحِ البخارِي منْ حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ” رواه البخاري، أي مَن ضمنَ لسانَهُ وحافظَ عليهِ وتكلَّمَ خيرًا ضمنَ لهُ سيدُ الخلقِ وحبيبُ الحقِّ ﷺ الجنةَ )، وللهِ درُّ القائلِ:
احْفَظْ لِسَانَك أَيُّهَا الْإِنْسَانُ *** لَا يَلْدَغَنَّكَ إنَّهُ ثُعْبَانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قتيل لِسَانِهِ *** كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
والسؤالُ أيُّها الحبيبُ هل سلمَ الناسُ مِن لسانِكَ ويدِكَ؟ أم أنّكَ أطلقتَ العنانَ للسانِكَ يسبُّ هذا ويشتمُ هذا ويتطاولُ على عرضِ هذا، إمَّا على مواقعِ التواصلِ الاجتماعِي وإمَّا في الواقعِ الذي نعيشُ فيهِ !! إيَّاكَ أنْ تكونَ مفلسًا يومَ القيامةِ بلسانِكَ ويدِكَ كما في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ كما في صحيحِ مسلمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمتى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)، وللهِ درُّ القائلِ:
عوِّدْ لسانَكَ قولَ الصِّدقِ تحظَ بهِ *** إنَّ اللِّسانَ لِمَا عوَّدتَ مُعتادُ
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
ثانيًا: الكلامُ مسطورٌ ومحفوظٌ.
أيُّها السادةُ: لقد أخبرَنَا ربُّنَا جلَّ جلالُهُ أنَّ على الناسِ ملائكةً يحفظونَ عليهِم أعمالَهُم ويلازمونَهُم أينَمَا كانُوا، ويكتبونَ كلَّ ما صدرَ عنهُم مِن الأفعالِ والأقوالِ فالكلامُ مطلوبٌ والقولُ محسوبٌ فقالَ سبحانَهُ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقالَ جلَّ وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقالَ جلَّ وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)}[الانفطار: 10 – 12]، لذا ينبغِي على المرءِ أنْ يحفظَ لسانَهُ وأنْ ينتقِيَ كلامَهُ وألَّا يتكلمَ إلَّا بالخيرِ، فربَّ كلمةٍ لا ترضِي اللهَ تُوبِقُ على المرءِ دنياهُ وآخرتَهُ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقولُ: ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )، وقالَ جلَّ وعلا: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) (البقرة : 83)اجبُرُوا الخَواطِرَ ورَاعُوا المشَاعِرَ وانتقُوا كلماتِكُم وتلطَّفُوا بأفعالِكُم وتذكرُوا العِشْرةَ ولا تؤلمُوا أحدًا وعِيشُوا أنقياءَ أصفياءَ فهذا منهجُ الأنبياءِ وأخلاقُ النُبلاءِ.
وكيف لا؟ والقرآنُ الكريمُ بيّنُ لنَا أهميةَ الكلمةِ الطيبةِ وعظيمَ أثرِهَا واستمرارَ خيرِهَا، وبيّنُ خطورةَ الكلمةِ الخبيثةِ وجسيمَ ضررِهَا وضرورةَ اجتثاثِهَا، فالكلمةُ الطيّبةُ مغنَمٌ، والكلِمةُ الخبيثةُ مأثمٌ، قالَ جلَّ جلالُهُ: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ﴾ ْ[إبراهيم: 24 -25 -26].
وكيف لا؟ والكلمةُ الطيبةُ هي عمادُ الدعوةِ إلى اللهِ، وهي وسيلةٌ لقبولِ الخيرِ والحقِّ، فهذا نبيُّنَا ﷺ على أعلَى درجاتِ الصدقِ والإخلاصِ في الدعوةِ، وصحابتُهُ مِن خيرةِ الناسِ قبولًا للخيرِ ومع ذلكَ كلِّهِ قالَ تعالَى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]. ومهمَا بلغَ الإنسانُ مِن الطغيانِ، فإنَّ الكلمةَ لهَا سحرُهَا البلاغيُّ في تحويلِ البغضاءِ إلى محبةٍ، والكفرِ إلى إيمانٍ، ففرعونُ طاغيةُ التاريخِ وموسَى كليمُ اللهِ وخيرتُهُ مِن خلقهِ أُعطِيَ التوجيهَ مِن ربِّهِ قبلَ رحلةِ الصراعِ مع فرعونَ وملئِهِ، فقال تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]. هذا مع مَن قالَ أنَا ربُّكُم الأعلَى فمَا بالُكُم بمَن قالَ سبحانَ ربِّيَ الأعلَى، وكيف لا؟ والكلمةُ الطيبةُ بَعَثَ اللهُ بهَا الأنبياءَ والمرسلينَ ليُخرجُوا العبادَ مِن ظلماتِ الكُفرِ والشِّركِ إلى نورِ التَّوحيدِ والعلمِ، ومِن عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ ربِّ العبادِ. والكلمةُ الطيبةُ سخَّرَ اللهُ لها العلماءَ والدعاةَ والمصلحينَ لتنويرِ القُلوبِ بمحبةِ الخالقِ العظيمِ ودلالتِهم على طريقِه القويمِ الموصلِ إلى مرضاتِه وجنَّتِه. وكيف لا؟ والكلمةُ الطيبةُ، هدايةُ اللهِ وفضلُهُ لعبادِهِ، ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ ْ[الحج: 24]، وهي رسالةُ المرسلينَ، وسمةُ المؤمنينَ، دعَا إليهَا ربُّ العالمينَ في كتابِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ ْ[الإسراء: 53، ما قالَ حسنًا، بل قال التي هي أحسنُ فينبغِي على المسلمِ أنْ يختارَ أحسنَ الكلماتِ وأجملَ العباراتِ عندمَا يريدُ أنْ يتكلمَ مع الناسِ، كلِّ الناسِ مع الكبيرِ والصغيرِ، مع القريبِ والبعيدِ، مع المسلمِ وغيرِ المسلمِ، هذا مِن أخلاقِ الإسلامِ ، تتكلمُ مع الناسِ بالكلامِ الذي يعجبُكَ أنْ تسمعَهُ منهُم، مِن غيرِ استهزاءٍ ولا تكبرٍ ولا تحقيرٍ، لا يطعنُ في الاخرينَ ولا يلعنُ ولا يتكلمُ بكلامٍ فاحشٍ أو بذئٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ). سننُ الترمذِي.
وللهِ درُّ القائلِ:
جراحاتُ السنانِ لهَا التئامُ …. ولا يلتئمُ ما جرحَ اللسانُ
وكيفَ لا؟ والكلمةُ الطيبةُ تَرْتَفِعُ المنازِلُ بهَا في الجنَّاتِ، فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لما سَأَلَهُ رَبُّهُ عَنِ الدَّرَجاتِ قالَ: «إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»
ففي مُسْنَدِ الإِمامِ أَحْمَدَ مِنْ حديِثِ أَبِيِ مُوَسَىَ الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الْكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ» فابْتَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ في ذِكْرِ مَنِ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الفَضْلُ بِإِلانَةِ الكَلامِ، بِلِيِنِ الكَلامِ وَهُوَ لُطْفُهُ وَحُسْنُهُ وَطِيِبُهُ.
تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
وكيف لا؟ والكلمةُ الطيبةُ هي الترجمانُ المعبِّرُ عن مستودعاتِ الضمائرِ، والكاشفُ عن مكنوناتِ السرائرِ، فإِذا أردتَ أنْ تستدلَّ على ما في قلبِ الإنسانِ فانظرْ إلى كلماتِهِ وألفاظِهِ، فإنَّهَا الدليلُ على ما يكنُّهُ في قلبِهِ مِن خيرٍ أو شرٍّ، شاءَ أمْ أبَى، قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْقُلُوبُ كَالْقُدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا، وَأَلْسِنَتُهَا مَغَارِفُهَا، فَانْظُرْ إِلَى الرَّجُلِ حِينَ يَتَكَلَّمُ فَإِنَّ لِسَانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ بِمَا فِي قَلْبِهِ، حُلْوٌ وَحَامِضٌ، وَعَذْبٌ وَأُجَاجٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ)، وكيف لا؟ والكلمةُ الطيّبةُ -عباد الله- تغسلُ الضغائنَ، وتجمعُ الأفئدةَ، وتجلبُ المودّةَ، ولكُم في رسولِ اللهِ ﷺ أُسوةٌ حسنةٌ، فقد قالَ: “لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيئًا، وَلَو أنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِقٍ” رواه مسلم. قال عمرُ بنُ الخطابِ -رضي اللهُ عنه-: “البرُّ شيءٌ هيّنٌ، وجهٌ طَليقٌ، وكلامٌ ليّنٌ“.
وكيف لا؟ والكلمةُ عنوانُ المرءِ، تُتَرجِمُ عن مُستَودعاتِ صَدرِهِ، وتبرهِنُ على مكنوناتِ قَلبِهِ، وتدَلِّلُ على أصلِهِ وعقلِهِ، وتنبئُ عن إيمانِهِ أو نفاقِهِ، وها هو يوسفُ -عليهِ وعلى نبيِّنَا الصلاةُ والسلامُ- يطلبُهُ الملكُ بعدَ أنْ سمعَ مِن النسوةِ تبرئتَهُ: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54]، فلمَّا كلمَهُ، وسمعَ منطقَهُ، وعلمَ مِن كلامِهِ صدقَهُ ونصحَهُ ورجاحةَ عقلِهِ، قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ). وكيف لا؟ والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ كما قال نبيُّنَا ﷺ في الحديثِ المتفقِ عليهِ، وأنَّهَا تحجبُ المؤمنَ مِن النارِ، ففي حديثِ عدي بنِ حاتمٍ رضي اللهُ عنهُ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ في الحديثِ المتفقِ عليهِ: « اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ » رواه أحمد في مسنده.
وكيف لا؟ الكلمةُ الطيبةُ شعبةٌ مِن شعبِ الإيمانِ، عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: « مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ » متفق عليه.
وكيف لا؟ الكلمةُ الطيبةُ هي كلمةُ الحقِّ ثابتةُ الجذورِ، سامقةُ الفروعِ لا تُزعزعُهَا أعاصيرُ الباطلِ، ولا تحطِّمُهَا معاولُ الهدمِ والطغيانِ، تقارعُ الكلمةُ الطيبةُ كلمةَ الباطلِ فتجتثّهَا فلا قرارَ لهَا ولا بقاءَ، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ ْ[الأنبياء: 18].
وكيف لا؟ الكلمةُ الطيبةُ مِن صفاتِ عبادِ الرحمنِ، قالَ جلَّ وعلا: { وَعِبَادُ الرَّحْمَـنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} الفرقان:63 .
فكم مِن كلمةٍ طيبةٍ كتبَ اللهُ بهَا الرضوانَ، تدفعُ عن مسلمٍ أذَى، أو تنصرُ مظلومًا ، أو تفرِّجُ كُربةُ، أو تعلّمُ جاهلًا ، أو تذكّرُ غافلًا ، أو تهدِي ضالًا ، أو ترأبُ صدعًا، أو تطفئُ فتنةً؟! وكم مِن مشاكلَ حُلّتْ، وكم مِن صِلاتٍ قَوِيَتْ، وكم مِن خصوماتٍ زالتْ بكلمةٍ طيبةٍ؟!
وكم مِن كلمةٍ خبيثةٍ مزقتْ بينَ القلوبِ، وفرقتْ بينَ الصفوفِ، وزرعتْ الأحقادَ والضغائنَ في النفوسِ وخربتْ كثيرًا مِن البيوتٍ؟ فمَن ألجمَ لسانَهُ بلجامِ الإيمانِ وعطّرَهُ بطيبِ الأقوالِ قادَهُ الرحمنُ إلى الرضوانِ وأعالِي الجنانِ، ومَن لطَّخَ لسانَهُ بقبحِ الكلامِ مِن زورٍ وفُحشٍ وكَذِبٍ وبهتانٍ هوَى بهِ الشيطانُ إلى دركاتِ النارِ « وهل يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم أو على مناخرِهِم إلّا حصائدُ ألسنتِهِم ؟!»رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
فبكلمةٍ تدخلُ في دينِ اللهِ، وبكلمةٍ تخرجُ مِن دينِ اللهِ، وبكلمةٍ تنالُ رضوانَ اللهِ، وبكلمةٍ تتعرضُ لسخطِ اللهِ، وبكلمةٍ تبنِي بيتًا، وبكلمةٍ تهدمُ بيتًا !! كم بهذه الكلماتِ تفرقتْ قلوبٌ ونزفتْ دماءٌ وقُتِلَ أبرياءٌ وطُلِّقَتْ نساءٌ، ونُهبَتْ أموالٌ، وقُذِفَتْ محصناتٌ !!
وصدقَ المعصومُ ﷺ إذْ يقولُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ) رواه البخاري
آدمُ عليهِ السلامُ ما قالَ إلّا كلمةً تابَ اللهُ عليهِ ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[ الأعراف: 23]، إبليسُ اللعينُ ما قالَ إلَّا كلمةً ما زادَ عليهَا فأصبحَ شيطانًا رجيمًا (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ (78))سورة ص.
فالبِــرُّ شيءٌ هيِّنٌ: وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ، فلنرطِّبْ ألسنتَنَا بالكلمةِ الطيبةِ التي تزيلُ الجفاءَ، وتذهبُ البغضاءَ والشحناءَ، وتدخلُ إلى النفوسِ السرورَ والهناءَ والمحبةَ والمودّةَ والوئامَ.
لتكنْ كلماتُنَا مفتاحًا للخيرِ مغلاقًا للشرِّ، نبنِي حياتَنَا بوحيٍ مِن هداهَا، نتنسّمُ عبيرَ شذاهَا مستجيبينَ لنداءِ ربِّ العالمين: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، حتى وإنْ كنتَ تدافعُ عن دينِكَ فلا تنفعلْ، فالدفاعُ يكونُ بالقولِ الحسنِ بل الأحسن: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل : 125.
وزنِ الكلامَ إذا نطقتَ فإنّمَا *** يُبدِي عقولَ ذوي العقولِ المنطقُ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.
الخطبةُ الثانيةُ الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
ثالثــــًا وأخيرًا: أحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ.
أيُّها السادةُ: لقد جاءتْ الشريعةُ الإسلاميةُ الغراء، وحثتنَا على اختيارِ الطيبِ مِن القولِ، وأمرتنَا بحسنِ الكلامِ، ولينِ الجانبِ، ونهتنَا عن الفحشِ والتفحشِ في الأقوالِ والأفعالِ ، فقالَ جلَّ وعلا: ( لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114]، وقال جلَّ وعلا: (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء:148)، فما أجملَ أنْ يكونَ الإنسانُ ذا كلمةٍ طيبةٍ مع الناسِ جميعاً، مع مَن عرفَ ومَن لم يعرفْ! ولكنْ أجملُ الجميلِ أنْ تكونَ مع أخصِّ الناسِ بهِ وهم الوالدانِ فمِن العجيبِ أنْ ترَى بعضَ الشبابِ والفتياتِ يتعاملونَ مع آبائِهِم معاملةً فظةً فيرفعونَ أصواتَهُم وينهرونَهُم ويسيئونَ إليهِم ويؤذونَهُم بمنطقِهِم السيئِ حتى لو أنَّ إنسانًا رآهُم ولم يكنْ يعلمُ أنَّ هذا هو الوالدُ أو أنَّ هذه هي الأمُّ لظنَّ أنهمَا خادمانِ يعملانِ لدى الأبناءِ مِن شدةِ غلظةِ وقسوةِ الألفاظِ التي يستخدمُهَا بعضُ الأبناءِ مع الوالدينِ، فأحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ هما الوالدانِ: فهمَا وصيةُ الرحمنِ كما قالَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [العنكبوت: 8] فالكلمةُ الطيبةُ مع الوالدينِ واجبةٌ ولو قسَا وأغلظَا في الكلامِ والتعاملِ، فإنَّ لهمَا حقاً في حسنِ الخطابِ ولينِ الكلامِ ، قال جلَّ وعلا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) [الإسراء:23]. أي: وقُل لهمَا قولًا جميلًا حسنًا ليِّنًا سهلًا مِن أحسنِ ما تجدُ مِن القولِ لكنْ مَن نراهُ مِن الأبناءِ في هذه الأيامِ مِن قسوةٍ وغلظةٍ وسوءِ معاملةٍ مع الوالدينِ لا يُرضِي اللهَ جلَّ وعلا ولا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله .
وأحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ الزوجانِ فلقد أخبرَنَا ربُّنَا تباركَ وتعالى في كتابِهِ عن الأساسِ الذي تُبنَى عليهِ البيوتُ فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21] فيحتاجُ كلٌّ مِن الزوجينِ لاختيارِ أفضلِ الألفاظِ وأحسنِهَا للتخاطبِ في ما بينَهُم وإبداءِ مشاعرِ الحُبِّ والمودةِ والرحمةِ، وإنَّ في هديِ نبيِّنَا ﷺ خيرَ مثالٍ على ذلكَ وأفضلَ دليلٍ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى)) قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ” أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ ” قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ. هكذا كان النبيُّ ﷺ يعاملُ أهلَهُ فلنقتدِي بهِ فإنَّ لنَا فيهِ أسوةٌ، كما قالَ سبحانَهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21].والزوجُ أو الزوجةُ بصفةٍ خاصةٍ إنْ لم تسمعْ مِن زوجِهَا الكلامَ الطيبَ والكلماتِ الرقيقةَ الرقراقةَ ستسمعُهَا مِن خبيثٍ على مواقعِ الانفصالِ وليستْ التواصلَ الاجتماعِي ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ، وصدقَ المعصومُ ﷺ إذ يقولُ: ( ليسَ منَّا من خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها أو عبدًا علَى سيِّدِه)، فالحذرَ الحذرَ مِن الذئابِ البشريةِ على مواقعِ التواصلِ الاجتماعِي يا سادةٌ.
وأحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ القراباتُ: وإنّمَا سُميتْ القراباتُ بهذا الاسمِ؛ لتقاربِهِم وتلاصقِهِم ببعضِهِم البعض، وهم أصولُ الرجلِ وأرحامُهُ، فمَن وصلَهُم وصلَهُ اللهُ، وباركَ لهُ في رزقِهِ، ووسَّعَ لهُ في عيشِهِ، كمَا أخبرَ بذلكَ النبيُّ ﷺ بقولِهِ: ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ) . فقرابةُ المرءِ هُم أولَى الناسِ بحسنِ القولِ والمعاملةِ، فلا تقلْ: الأقاربُ عقاربٌ، وإنّمَا قُل: الأقاربُ أرحامٌ أمرَنَا الرحمنُ بالإحسانِ إليهِم بالليلِ والنهارِ، قالَ جلَّ وعلا: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) الاسراء.
والكلمةُ الطيبةُ بينَ الإخوةِ والأخواتِ والأقاربِ والأرحامِ، والكلمةُ الطيبةُ بينَ الجيرانِ في المنازلِ والأسواقِ والوظائفِ وأماكنِ العملِ. والكلمةُ الطيبةُ بينَ المديرِ وموظفيهِ والمعلمِ وتلاميذِهِ، والكلمةُ الطيبةُ بينَ السائقينَ والراكبين، وبينَ الباعةِ والمشترين. والكلمةُ الطيبةُ مِن الغنيِّ للفقيرِ ومِن ربِّ المالِ للسائلِ بدلاً مِن النهرِ والمنِّ ورفعِ الأصواتِ بالطردِ، قال تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى:10]. وقال: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [البقرة:263].
وأحقُّ الناسِ بحُسنِ المَنطِقِ غيرُ المسلمين: فاللهُ جلَّ وعلا أمرَنَا بالإحسانِ إلى الناسِ عمومًا فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا }، فظاهرُ هذه الآيةِ يدلُّ على العمومِ كما قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ أي: “للناسِ كلِّهِم”، قالَ جلَّ وعلا: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 34-44]، وقالَ جلَّ وعلا: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)) [فصلت:34]، وقال جلَّ وعلا: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ العنكبوت 46، ومِن القولِ الحسنِ أمرُهُم بالمعروف، ونهيهُم عن المنكرِ، وتعليمُهُم العلمَ، وبذلُ السلامِ، والبشاشةُ وغيرُ ذلكَ مِن كلِّ كلامٍ طيبٍ. ولمَّا كان الإنسانُ لا يسعُ الناسَ بمالِهِ، أُمِرَ بأمرٍ يقدرُ بهِ على الإحسانِ إلى كلِّ مخلوقٍ، وهو الإحسانُ بالقولِ، فيكونُ، في ضمنِ ذلك النهيِ عن الكلامِ القبيحِ للناسِ حتى للكفار. وللهِ درُّ القائلِ:
أحسنْ إلى الناسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُم فَطَالمَا استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
فَاحْرِصْ عَلَىَ القَوْلِ الحَسَنِ، القَوِلِ الميْسوُرِ، القَولِ الطَّيِّبِ، القَوْلِ الكَريمِ، القوْلِ المعْروُفِ فَإِنَّ ذَلِكَ ممَّا أَمَرَكَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ في كِتابِهِ، تَجْلِبُ بِذَلِكَ مَحَبَّةَ النَّاسِ، وَتَسْتَدْفِعُ بِهِ عَداوَتَهُمْ كَما قالَ تَعالَىَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فاتّقوا اللهَ رحمَكُم اللهُ، واحفظُوا ألسنتَكُم، وطهّرُوهَا مِن الخُبْثِ والخبائثِ، واجعلوهَا رطبةً بذكرِ اللهِ -تعالى- وطاعتِهِ، واعلمُوا أنّكُم لن تسعُوا الناسَ بأموالِكُم، ولكن يسعُهم منكُم بسطُ الوجهِ، وكفُّ الأذَى، وحسنُ الخُلُقِ، وطيبُ الكلام.
وتذكرُوا قولَ الحقِّ جلَّ وعلا: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]. وتذكرُوا قولَ الحقِّ جلَّ وعلا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} سورة البقرة:83 ، أي تخيرُوا مِن الكلماتِ أحسنهَا ومِن العباراتِ أدقهَا ومِن الألفاظِ أجملهَا جبرًا لخواطرِ الناسِ تسعدُوا في الدنيا والآخرةِ.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على مَن أمرَكُم اللهُ -تعالى- بالصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ في قولِهِ -عزَّ من قائلٍ-: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقالَ ﷺ: “مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا” رواه مسلم.
حفظَ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز
إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
نحتاج الخطب بصيغة الورد