خطبة الجمعة القادمة بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 15 ذو الحجة 1445هـ ، الموافق 21 يونيو 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 21 يونيو 2024م بصيغة word بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 21 يونيو 2024م بصيغة pdf بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 21 يونيو 2024م بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم .
أولًا: البحثُ العلمِيُّ سببٌ لتقدّمِ الأممِ والشعوبِ.
ثانيًا: عوائقُ أمامَ البحثِ العلمِي.
ثالثًا وأخيرًا: علّمُوا أولادَكُم فهُم أمانةٌ في أعناقِكُم .
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 21 يونيو 2024م بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم : كما يلي:
البحثُ العلمِيُّ ودورُهُ في تقدّمِ الأممِ
د. مُحمد حرز … بتاريخ: 12 من ذي الحجة 1443هــ – 21 يوليو 2024م
الحمدُ للهِ علّمَ القرآنَ، خلقَ الإنسانَ علّمَهُ البيانَ، الحمدُ للهِ الذي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ، الحمدُ للهِ، القائلِ في محكمِ التنزيلِ: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾المجادلة:11، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، أولٌ بلا ابتداء، وآخرٌ بلا انتهاء، الوترُ الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ القائلُ كما في سننِ الترمذِي مِن حديثِ عثمانَ رضى اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: ( خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ).
وللهِ درُّ حسانَ رضى اللهُ عنهُ:
وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني ** وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّأً مِن كُلِّ عَيبٍ **** كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
فاللهم صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ، خيرُ مَن صلَّى وصامَ وتابَ وأنابَ ووقفَ بالمشعرِ وطافَ بالبيتِ الحرامِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ الذين حجُّوا واعتمرُوا فكان حجُّهُم مقبولًا وسعيُهُم مشكورًا وذنبُهُم مغفورًا وسلمْ تسليمًا كثيرًا. …أمَّا بعدُ ….. فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (أل عمران :102).
عبادَ اللهِ: ( البحثُ العلمِيُّ ودورُهُ في تقدّمِ الأممِ ) عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا.
عناصرُ اللقاءِ:
أولًا: البحثُ العلمِيُّ سببٌ لتقدّمِ الأممِ والشعوبِ.
ثانيًا: عوائقُ أمامَ البحثِ العلمِي.
ثالثًا وأخيرًا: علّمُوا أولادَكُم فهُم أمانةٌ في أعناقِكُم .
أيُّها السادةُ: بدايةً ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ أنْ يكونَ حديثُنَا عن البحثِ العلمِي ودورِهِ في تقدمِ الأممِ، وخاصةً وأنَّ التفوقَ العلمِيَّ في مختلفِ المجالاتِ مطلبٌ شرعِيٌّ ووطنِيٌّ وإنسانِيٌّ، ولا مجالَ لبناءِ دولةٍ قويةٍ بغيرِ العلمِ والتفوقٍ. وخاصةً أنّنَا نرَى العالمَ اليومَ يتقدمُ بعلمائِهِ في جميعِ المجالاتِ المختلفةِ، وخاصةً وأنَّ العالمَ اليومَ وقفَ حائرًا أسيرًا بسببِ الأوبئةِ المنتشرةِ، وبيَّنَ ضعفَنَا وعجزَنَا خاصةً في مجالِ الطبِّ والعلاجِ والدواءِ ،وخاصةً واللهُ جلَّ وعلَا جعلَ العلمَ النافعَ طريقًا مُوصلًا لمرضاتِهِ، وسبيلًا يُوصلُ إلى كلِّ خيرٍ وبرٍّ وهدَى. لذَا كانَ مِن دعائِهِ ﷺ إذا أصبحَ قالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا( رواه ابن ماجه……. وللهِ درُّ القائلِ:
فَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً ***تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
ومَنْ فاتَهُ التَّعْليمُ حالَ شَبابِهِ *** فَكَبِّرْ عليْهِ أرْبَعًا لوَفاتِهِ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم
أولًا: البحثُ العلمِيُّ سببٌ لتقدمِ الأممِ والشعوبِ.
أيُّها السادةُ: البحثُ العلمِيُّ سببٌ لتقدمِ الأممِ والشعوبِ، فلا سعادةَ ولا فلاحَ ولا تقدّمَ ولا رقيَّ إلَّا بالعلمِ، فبالعلمِ تُبنَى الأمجادُ، وتُشَيَّدُ الحضاراتُ، وتَسُودُ الشعوبُ، وتقلُّ الأمراضُ والأوبئةُ، فالعلمُ هوَ الركيزةُ العظمَى لأيِّ نهضةٍ في قديمِ التاريخِ وحاضرِه، وحيثُ كانت النهضةُ كانَ التعليمُ، وحيثُ كانَ التعليمُ كانتْ النهضةُ، فكم مِن أممٍ نهضتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تقدمتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تفوقتْ بسببِ تعليمِهَا، وكم مِن أممٍ تأخرتْ بسببِ جهلِهَا، وكم مِن أممٍ سادَ فيهَا الظلامُ وحلّتْ بهَا الأمراضُ والأوبئةُ بسببِ جهلِهَا، ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.
ومنزلةُ العلمِ رفيعةٌ عاليةٌ، لا تُساويهَا منزلةٌ مِن المنازلِ، ولا تُقاربُهَا مكانةٌ مِن المقاماتِ، وما مِن إنسانٍ إلّا وهو محتاجٌ إلى العلمِ، وكيفَ لا؟ واللهُ تعالى أخرجَنَا مِن بطونِ أمهاتِنَا لا نعلمُ شيئًا، ولا نعرفُ شيئًا، قالَ ربُّنَا: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، ومَن توهَّمَ أنّهُ بلغَ الغايةَ في المعارفِ والعلومِ، ووصلَ إلى النهايةِ فقد أخطأَ وضلَّ ضلالًا مبينًا، فكلُّ ما عندَ الناسِ مِن العلومِ والمعارفِ قليلٌ على كثرتِهِ وتنوعِهِ، كمَا قالَ اللهُ تعالَى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الإسراء: 85.
لذا حثّنَا اللهُ جلَّ وعلَا على العلمِ، وبيَّنَ منزلةَ العلمِ والعلماءِ، والثوابَ العظيم َعندَ اللهِ تعالى لأهلِ العلمِ، فقالَ سبحانَهُ: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) المجادلة: 11. ولم يأمرْ اللهُ -تعالى- نبيَّهُ ﷺ بالاستزادَةِ مِن شيءٍ إلَّا مِن العلمِ، فقالَ لهُ سبحانَهُ وتعالَى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (طه:114). وما ذاكَ إلَّا لِمَا للعلمِ مِن أثرٍ في حياةِ البشرِ، فأهلُ العلمِ هُم الأحياءُ، وسائرُ الناسِ أمواتٌ.
والعلمُ ميراثُ الأنبياءِ والرسلِ، ففِي صحيحِ البخارِي تعليقًا والسننِ الأربعةِ قالَ النبيُّ ﷺ: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظَ وَافِرٍ)، والعلمُ طريقٌ إلى الجنةِ يا سادة، كما صحَّ في صحيحِ مسلمٍ مِن حديثِ أبِي الدرداء -رضي اللهُ عنه- قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ:” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” وفي روايةِ أبي داود: ( وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ )، وفي حديثِ أبِي أمامةَ رضى اللهُ عنهُ قال: ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ ﷺ رجُلانِ، أحدُهُمَا عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: “فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِي على أدنَاكُم“ ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: “إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ” رواه الترمذي. وقال معاذُ بنُ جبلٍ – رضي اللهُ عنهُ – : وهو أعلمُ الأمةِ بالحلالِ والحرامِ بعدَ رسولِ اللهِ ﷺ: (تعلمُوا العلمَ فإنَّ تعلمَهُ حسنةٌ، وطلبَهُ عبادةٌ، ومذاكرتَهُ تسبيحٌ والبحثَ عنهُ جهادٌ وبذلَهُ قربةٌ وتعليمَهُ من لا يعلمُهُ صدقةٌ)، وقال أبو مسلمٍ الْخَوْلاَنِىِّ – رحمَهُ اللهُ –: ( العلماءُ في الأرضِ مثلُ النجومِ في السماءِ إذا بدتْ للناسِ اهتدُوا بهَا، وإذا خفيتْ عليهِم تحيرُوا)، بل العلمُ يبقَى، والمالُ يفنَى، كما في صحيحِ مسلمٍ ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )، وسُئِلَ أحدُ السلفِ: أجمعُ المالِ أفضلُ أم جمعُ العلمِ؟ فقال: بل جمعُ العلمِ؛ لأنَّ المالَ ينقصُ بالإنفاقِ والعلمُ يزدادُ، ولأنَّ مَن جمعَ العلمَ يزدادُ أحباؤهُ، ومَن جمعَ المالَ يزدادُ أعداؤهُ)، العلمُ خيرٌ مِن المالِ، فالعلمُ يحرسُكَ وأنتَ تحرسُ المالَ.
بل استشهدَ اللهُ بالعلماءِ دونَ غيرِهِم على أجلِّ مشهودٍ وهو توحيدُهُ، وقرنَ شهادتَهُم بشهادةِ الملائكةِ الأبرارِ، فقالَ تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18)، فانظرْ كيفَ بدأَ سبحانَهُ بنفسِهِ، وثنَّى بالملائكةِ، وثلَّثَ بأهلِ العلمِ، وناهيكَ بهذَا شرفًا وفضلًا وجلاًء ونبلًا، وقالَ عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الزمر: 9.
علمُ العليمِ وعقلُ العاقلِ اختلفَـا *** مَن ذا الذي منهمَا قد أحرزَ الشرفَا
فالعلمُ قالَ أنَا أحرزتُ غايتَـُه *** والعقلُ قالَ أنا الرحمنُ بِي عُرفَا
فأفصحَ العلمُ إفصاحًا وقال له *** بأيّنَا الرحمنُ في قرآنِهِ اتصفَـا
فبانَ للعقلِ أنّ العلـمَ سيدُهُ *** وقبّلَ العقلُ رأسَ العلمِ و انصرفَا
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم
ثانيًا:عوائقُ أمامَ البحثِ العلمِي.
أيُّها السادةُ: هناكَ عواقُ كثيرةٌ وعديدةٌ أمامَ البحثِ العلمِي، مِن أهمّهَا الجهلُ والغشُّ والمعصيةُ والفقرُ وعدمُ تقديرِ العلماءِ، فالجهلُ داءٌ اجتماعِيٌّ خطيرٌ، ووباءٌ خلقيٌّ كبيرٌ، ما فشَا في أمةٍ إلّا كان نذيرًا لهلاكِهَا، وما دبَّ في أسرةٍ إلّا كان سببًا لفنائِهَا، فهو مصدرُ كلِّ عداءٍ وينبوعُ كلِّ شرٍّ وتعاسةٍ، والجهلُ آفةٌ مِن آفاتِ الإنسانِ، ومدخلٌ كبيرٌ للشيطانِ، مدمرٌ للقلبِ والأركانِ، يفرقُ بينَ الأحبةِ والإخوانِ، يحرِمُ صاحبَهُ الأمنَ والأمانَ ،ويدخلُهُ النيران، ويبعدُهُ عن الجنان، فالبعدُ عنهُ خيرٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.
لذا استعاذَ رسولُ اللهِ ﷺ مِن الجهلِ، كما في مسندِ أحمدَ وغيرِهِ: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنها ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ « بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّى إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ أَوْ أَضِلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ )، ولَقد وردتْ فِي القرآنِ الكريمِ آياتٌ عديدةٌ للتحذيرِ مِن مَخاطِرِ الجَهلِ، فقالَ تعالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ( الفرقان:63 )، بل خاطبَ اللهُ نبيَّهُ ﷺ بقولِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }( الأعراف :199)، بل الجهلُ مِن علاماتِ الساعةِ ففي الصحيحينِ عن أَبي مُوسَى رضي اللهُ عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ ﷺ « إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ ، وَيَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ)، والجهلُ مِن أخطرِ أسبابِ الضلالِ والانحرافِ عن الحقِّ والهدى والصوابِ، ففي الصحيحينِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رضي اللهُ عنهماـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ” إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ” وصدقَ مَن قال: ( خيرُ المواهبِ: العقلُ، وشرُّ المصائبِ: الجهلُ)، والغشُّ يا سادةٌ مِن أخطرِ الأسبابِ المؤديةِ إلى الجهلِ وضياعِ العلمِ، ويساوِي بينَ المجتهدِ والكسولِ وبينَ مَن تعبَ وتعلّمَ وبينَ مَن لعبَ وجهلَ، لذا قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ( مَن غَشَّنا فليسَ مِنا) رواه مسلم. والغشُّ في الامتحاناتِ هلاكٌ ودمارٌ، وخزيٌ وعارٌ، وخرابٌ وضياعٌ، وهو دليلٌ على ضعفِ الإيمانِ وعدمِ مراقبةِ اللهِ جلَّ وعلا.
والمعصيةُ تُؤدِّي إلى نسيانِ العلمِ وحرمانِهِ، يا ربِّ سلّمْ، يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍـ رضي اللهُ عنه ـ في تفسيرِ قولِهِ تعالى: { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }: إنِّي لأحسبُ أنَّ الرجلَ ينسَى العلمَ يعلمِهِ بالذنبِ يعملُهُ. انتبهْ.. فإنَّ كثيرًا مِن طلابِ العلمِ يشتكِى سوءَ حفظِهِ وضعفَ ذاكرتِهِ ولو فتشتَ أيُّهَا الحبيبُ الكريمُ لعلمتَ أنَّ السببَ الرئيسيَّ هو المعاصِي والذنوبُ، لذا يقولُ ابنُ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهمَا: إنَّ للمعصيةِ سوادًا في الوجهِ، وظلمةً في القبرِ وَوَهَنًا في البدنِ، وضيقًا في الرزقِ، وبُغضًا في قلوبِ الخلقِ، وإنَّ للطاعةِ نورًا في الوجِهِ، ونورًا في القلبِ، وقوةً في البدنِ، وسعةً في الرزقِ، ومحبةً في قلوبِ الخلقِ. وهذا هو الشافعيُّ الإمامُ عندمَا أرادَ أنْ يتعلمَ على يديِ الإمامِ مالكٍ بنِ أنسٍ انطلقَ الشافعيُّ ليبحثَ عن كتابِ الإمامِ مالكٍ «الموطأ» فاستعارَ الموطأَ مِن رجلٍ وعكفَ الشافعيُّ مع الموطأِ فحفظَهُ عن ظهرِ قلبٍ في تسعِ ليالٍ. وأخذَهُ في صدرِهِ، وانطلقَ إلى المدينةِ المنورةِ على ساكنِهَا أفضلُ الصلاةِ وأزكَى السلام، وجلسَ الشافعيُّ الإمامُ بينَ يدَي أستاذِهِ وشيخِهِ مالكِ بنِ أنسٍ وافتتحَ الشافعيُّ الموطأَ مِن حفظِهِ، فكلَّمَا نظرَ مالكٌ إلى الشافعِيِّ يقرأُ الموطأَ مِن صدرِهِ أُعجبَ بذكائِهِ، وبحسنِ قراءتِهِ وقوةِ حافظتِهِ وذاكرتِهِ وببلاغتِهِ، يقولُ الشافعيُّ: فكلمَا نظرتُ إلى مالكٍ تهيبتُ أنْ أواصلَ القراءةَ، فنظرَ إلىَّ مالكٌ وقد أُعجبَ بحسنِ قراءتِي وحفظِي وقالَ لِي :زِدْ يا فتَى .. زِدْ يا فتَى .. زِدْ يا فتَى .. حتى أنهيتُ الموطأَ كلَّهُ في أيامٍ قليلةٍ. فلمَّا رأَى مالكٌ هذا الذكاءَ وهذا الحفظَ مِن الشافعيِّ قال: يا شافعيُّ إنِّي أرَى أنَّ اللهَ قد ألقَى على قلبِكَ نورًا فلا تطفئهُ بظلمةِ المعصيةِ، لذا لمَّا ذهبَ يومًا ليتعلمَ ونظرَ في طريقِهِ إلى امرأةٍ نسَي الشافعيُّ ما حفظَهُ فأنشدَ قائلًا:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظِي * * فأرشدنِي إلى تركِ المعاصِي وأخبرنِي بأنَّ العلمَ نورٌ * * ونورُ اللهِ لا يُهدَى لعاصِي
فالعلمُ نورٌ يستضيءُ بهِ الناسُ ويهتدونَ بهِ، والجهلُ ظلمةٌ يجرُّ الناسَ إلى الهلاكِ، العلمُ يدعُو إلى الحكمةِ والتأنِّي، والجهلُ يدعُو إلى العجلةِ والاستعجالِ، قالَ أحمدُ شوقِي:
العلمُ يبنِي بيوتًا لا عمادَ لهَـا *** والجهلُ يهدمُ بيوتَ العزِّ والشرفِ
أهلُ العلمِ أحياءٌ، وأهلُ الجهلِ أمواتٌ ..وللهِ درُّ عليٍّ بنِ أبِي طالبٍ رضى اللهُ عنهُ وأرضاهُ
مَا الفَخْرُ إلا لأَهلِ العِلمِ إنَّهُمُ ***على الهُدَى لِمَن اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرِئٍ مَا كان يُحْسِنُهُ****والجَاهِلُون لأَهلِ العِلمِ أَعدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تِعِش حَيًّا بِه أَبَدا***النَّاسُ مَوتى وأَهلُ العِلمِ أَحْيَاءُ
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم
الخطبة الثانية الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ، وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلّا بهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ …………………… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : البحث العلمي ودوره في تقدم الأمم
ثالثًا وأخيرًا: علمُوا أولادَكُم فهُم أمانةٌ في أعناقِكِم .
أيُّها السادةُ: التعليمُ في هذا الزمانِ أصبحَ مِن ضرورياتِ الحياةِ، والتقدمُ العلمِيُّ أصبحَ لزامًا على كلِّ مُسلمٍ لينهضَ بدينِهِ ووطنِهِ وأمتِهِ، وأولادُكُم أمانةٌ في أعناقِكُم ستُسألونَ عنهُم يومُ القيامةِ بينَ يدَىِ اللهِ جلَّ وعلا، والتفريطُ في تعليمِ الأبناءِ بلا سببٍ جريمةٌ شنعاء، و التخلِّي عن هذه المسؤوليةِ بلا عذرٍ مِن الغدرِ بعينهِ، والخيانةِ بعينِهَا، فالتفريطُ في تعليمِ الأبناءِ والإهمالُ في تربيةِ النشءِ على الكتابِ والسنةِ مِن صورِ الغشِّ والعياذُ باللهِ كما في صحيحِ مُسلمٍ مِن حديثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ : ” مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ”، فإذا لم يعلمْ الرجلُ أولادَهُ كلامَ اللهِ وكلامَ رسولِهِ ﷺ كان غاشًّا لرعيتِهِ، وإذ لم يربِّ الرجلُ أولادَهُ على الكتابِ والسنةِ كان غاشًّا لرعيتِهِ، فاتقُوا اللهَ في أبناءِكُم، فكلّكُم راعٍ ومسئولٌ عن رعيتِه يومَ يقفُ بينَ قاضِي القضاةِ وجبارِ السمواتِ والأرضِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : ” أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ…وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) متفق عليه. فحذارَ حذارَ مِن علمٍ لا ينفعُ، لذا كان مِن دعائِهِ ﷺ: “ اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ، وقلبٍ لا يَخشَعُ، ودُعاءٍ لا يُسمَعُ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ)، بل قالَ النبيُّ ﷺ كمَا في حديثِ أبي هريرةَ رضى اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ:“ مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه ، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ“ رواه أبو دواد. بل إن أولَ مَن تسعرُ بهِ نارُ جهنمَ العالمُ الذي كان يأمرُ الناسَ ، ولا يأتمرُ ، وينهاهُم ولا ينتهِي)، فعلَى كلٍّ منَّا أنْ يسعَى ليخلصَ في علمِهِ وليصلَ لأعلَى درجاتِ التفوقِ في مجالِهِ عالمًا أو باحثًا أو صانعًا أو حرفيًّا. فمصرُ غنيةٌ بفضلِ اللهِ بعلمائِهَا في جميعِ المجالاتِ والتخصصاتِ في الفقهِ والحديثِ والطبِّ والفلكِ والهندسةِ والفضاءِ والتخطيطِ والقيادةِ، وهي في حاجةٍ إلى أبنائِهَا المخلصين لتنهضَ ولتكونَ في مقدمةِ الأممِ في جميعِ المجالاتِ والتخصصاتِ .
مصرُ الكنانةُ ما هانتْ على أحدٍ *** اللهُ يحرسُهَا عطفًا ويرعاهَا
ندعوكَ يا ربِّ أنْ تحمِى مرابعَهَا *** فالشمسُ عينٌ لهَا والليلُ نجواهَا
مَن شاهَدَ الأرْضَ وأَقْطَارَها *** والنَّاسَ أنـواعًا وأجناسًا
ولا رأى مصْـرَ ولا أهلها *** فما رأَى الدنيا ولا الناسَ
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبدُ الفقيرُ إلى عفوِ ربِّه
د/ مُحمد حرز
إمامٌ وخطيبٌ ومدرسٌ بوزارةِ الأوقافِ
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف