خطبة الجمعة القادمة : الكسب الحلال ، للدكتور محروس حفظي
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 25 نوفمبر 2022م : الكسب الحلال ، للدكتور محروس حفظي ، بتاريخ 1 جماد أول 1444هـ ، الموافق 25 نوفمبر 2022م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 25 نوفمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الكسب الحلال .
ولتحميل خطبة الجمعة القادمة 25 نوفمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الكسب الحلال ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 25 نوفمبر 2022م ، للدكتور محروس حفظي : الكسب الحلال ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة : الكسب الحلال ، للدكتور محروس حفظي :
1 الإسلامُ ينهَى عن أكلِ الحرامِ بكلِّ وسيلةٍ، ويأمرُ بالعملِ.
2 – وسائلُ الكسبِ الحلالِ التي حثَّ عليها الإسلامُ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة الكسب الحلال ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
أولا- الإسلامُ ينهَى عن أكلِ الحرامِ بكلِّ وسيلةٍ، ويأمرُ بالعملِ: لقد أمرَ الإسلامُ بضرورةِ طلبِ الحلالِ فعَنْ أَنَسِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (الطبراني، وسنده حسن)، وقد قدَّمَ لنَا الصحابةُ رضي اللهُ عنهم نماذجَ عديدةً، وأمثلةً فريدةً، فكانُوا يتركونَ بعضَ الحلالِ؛ حذرًا مِن الوقوعِ في الحرامِ، وفي سبيلِ تحقيقِ ذلك حرَّمَ الإسلامُ أكلَ الحرامِ بكلِّ أنواعهِ فقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾، وحرّمَ الغشَّ بكلِّ طرقهِ ووسائلهِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» (مسلم)، ويدخلُ في ذلك قطعًا قضايَا النصبِ الالكترونِي الذي يتمُّ عن طريقِ التسويقِ الكاذبِ المذيفِ، وكذا مَن يروجُ أو يبيعُ البضائعَ الفاسدةَ التي انتهتْ تاريخُ استعمالِهَا؛ لأنَّ هذا فيهِ إلحاقُ أذى وضررٍ ونشرٌ للأمراضِ بينَ الناسِ، ولذا توعدَ رسولُنَا ﷺ هؤلاء الذين نسوا اللهَ فأنساهُم أنفسَهُم، وراحُوا يكنزونَ المالَ الحرامَ بأنَّه سيكونُ زادَهُم إلى النارِ فعن رِفَاعَةَ «أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ إِلَى المُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ، وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ، وَبَرَّ، وَصَدَقَ» (الترمذي وحسنه)، كما حرّمَ أيضًا التطفيفَ في الكيلِ والميزانِ بل جعلَ مَن يفعل ذلك كأنَّهُ لا يؤمنُ بيومِ البعثِ؛ إذ لو كان يعتقدُ أنَّ هناك حسابًا لمَا أقدمَ على فعلِ ذك قال تعالى:﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾، وقد كان هذا الداءُ مِن أهمِّ الأمراضِ التي بُعِثَ شعيبٌ عليه السلامُ كي يعلاجَهَا في قومهِ حيثُ استشرتْ وانتشرتْ بصورةٍ لا مثيلَ لهَا في تاريخِ البشريةِ ﴿وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ .
كما حرّمَ دينُنَا بيعَ الإنسانِ على أخيهِ الإنسان؛ لأنَّ هذا يُدخِلُ الضغينةَ، ويُورِثُ الكراهيةِ في النفوسِ، وينشرُ الفوضَى في المجتمعِ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لَا يُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ لِبَيْعٍ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» (متفق عليه).
إنّ تحرِّي أكلِ الحلالِ يجلبُ للإنسانِ خيرَيِ الدنيا والآخرةِ، فالحرامُ مهمَا كَثُرَ فمآلُهُ إلى زوالٍ وبوارٍ، وما ربحَهُ هذا إلّا جذوةً مِن لهيبٍ وقَبَسٍ مِن نارٍ، يتأججُ في بطنهِ قال ربُّنَا: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وهذا رجلٌ استجمعَ مِن صفاتِ الذلِّ والمسكنةِ ما يدعُو إلى رثاءِ حالهِ، وتقطعتْ بهِ السبلُ، واغبرتْ قدماهُ، لكنَّهُ حيلَ بينَ دعائهِ والقبولِ بأكلِ الحرامِ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟” (مسلم) .
إنَّ الإسلامَ تجنبًا للمعاملاتِ المحرمةِ والمشبوهةِ أمرَ الإنسانَ بالعملِ وحثَّ عليهِ، ورغبَ فيهِ؛ ولذا ربطَ اللهُ في القرآنِ بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ، فلا تجد آيةً وردَ فيها الإيمانُ باللهِ إلّا قُرِنَ فيها العملُ، كما وردَ لفظُ العملِ في القرآنِ «360» مرةً تضمنتْ الحديثَ عن أحكامِ العملِ، ومسؤوليةِ العاملِ وعقوبتهِ ومثوبتهِ، وأوجبَ على الخلقِ أنْ يكونُوا إيجابيينَ بالجدِّ ليفيدُوا ويستفيدُوا، وكرهَ لهم الحياةَ السلبيةَ، والانزواءَ عن العملِ فقال:﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ .
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة
2 – وسائلُ الكسبِ الحلالِ التي حثَّ عليها الإسلامُ:
أولًا: مباشرةُ التجارةِ بكلِّ أنواعِهَا: لقد أمرَ الإسلامُ الإنسانَ بمباشرةِ التجارةِ، ورغبَ في السيرِ في الأرضِ من أجلِ تحصيلِ الكسبِ الطيبِ دونَ أنْ يحددَ نوعيةَ هذا العملَ طالمَا بعيدًا عن التعاملاتِ المحرمةِ فعن رافعِ بنِ خديج قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الكَسبِ أَطيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» (أحمد)، وابتغاءُ المالِ الحلالِ ضرورةٌ لاستقامةِ الحياةِ الاجتماعيةِ واستقرارِهَا، والإسلامُ في جانبِ المعاملاتِ الماليةِ ربطَها بسياجِ التقوى وعدمِ نسيانِ الآخرةِ حتى يبقَى الضميرُ الإنسانيُّ حيًّا مراقبًا للهِ في جميعِ تعاملاتِه، وقد رسَّخَ هذا المعنَى رسولُنَا في كثيرٍ مِن أحاديثِه، وبيَّنَ أنَّ اللهَ قد ضمنَ للإنسانِ رزقَهُ وكسبَهُ فلا يستعجلهُ بالحرامِ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرِّزْقَ لَيَطْلُبُ الْعَبْدَ كَمَا يَطْلُبُهُ أَجَلُهُ» وفي رواية: «أَكْثَرَ مِمَّا يَطْلُبُهُ أَجْلُهُ» (الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)، فالتاجرُ الوطنيُّ هو الذي يتخذُ من تجارتِهِ سبيلًا لمرضاةِ اللهِ تعالَى، فيصيرُ المالُ عبدًا لهُ تحتَ قدميهِ لا أنْ يكونَ هو عبدًا للمالِ، فيذهب يجمعُهُ مِن حِلِّ أو حرامٍ، لا يُراعِي فيه حقَّ الفقيرِ والمسكينِ قال ﷺ:«تَعسَ عبدُ الدينارِ، والدرهمِ، والقطيفةِ، والخميصةِ، إنْ أعطي رضيَ، وإنْ لم يُعطَ لم يرضَ»(البخاري)، وقد بشّرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التاجرَ الذي يرحمُ عبادَ اللهِ باستحقاقهِ الرحمة؛ ليكونَ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ فعَنْ جَابِرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى» (البخاري).
ثانيًا: العملُ بالزراعةِ، وإعمارُ الأرضِ: لقد وجهنَا سبحانَه إلى إحياءِ الأرضِ وزراعتِهَا واستثمارِهَا؛ لأنَّهَا هي مصدرُ الغذاءِ، وأساسُ الموادِ الخامِ للصناعةِ، كما أنَّ مهنةَ الزراعةِ مِن أعظمِ المهنِ، وأكثرِهَا أجرًا؛ لأنَّ خيرَهَا متعدّ للزراعِ وللبشرِ وغيرِهِم مِن الطيورِ والبهائمِ والحشراتِ، لكنَّهَا تحتاجُ إلى دراسةٍ وفقهٍ وحسنِ استغلالِ فحينئذٍ تحصلُ الخيراتُ، وتأتي البركاتُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (متفق عليه)، وقد صرَّحَ نبيُّنَا ﷺ أيضًا أنَّ الزراعةَ والغرسَ مِن الأعمالِ التي تبقَى للرجلِ بعدَ موتهِ فقالَ ﷺ: «سَبْعَةٌ يجْرِي عَلَى الْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي بِرِّهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ أَكْرَى نَهْرًا، أَو حَفْرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ» (شعب الإيمان)، وبما أنَّ النباتاتِ تقعُ في أسفلِ الهرمِ في السلسلةِ الغذائيةِ وهي المنتجُ الأولُ للغذاءِ وما لها مِن فوائدَ جمةٍ نجدُ أنَّ الاسلامَ قد حثَّ على الزراعةِ بكلِّ أنواعِها، وعدمِ تركِ الأرضِ بدونِ زراعةٍ فعَنْ جَابِرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ» (مسلم)، ومنعَ قطعَ الاشجارِ إلا لمنفعةٍ ظاهرةٍ، وأوجبَ الرفقَ بالفلاحين وحرَّمَ ظلمَهُم، وقد فهَمَ الصحابةُ ومَن جاء بعدهُم مغزى هذا التوجيهِ الكريمِ، وطبقُوهُ في حياتِهِم العمليةِ بكلِّ إخلاصٍ طمعًا في ثوابِ اللهِ، وعمارةِ للأرضِ، ولذا كانوا رضوانُ اللهِ عليهم سابقِين في أمرِ الزرعِ، فكانَ “سيدُنَا طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ رضِي اللهُ عنه أوَّلَ مَن أدخلَ زراعةَ القمحِ للمدينةِ، وكان يزرعُ على عشرينَ ناضحًا، وينتجُ ما يكفِي أهلَهُ بالمدينةِ سنتهم” (تاريخ دمشق 25/103)
وقد سخَّرَ اللهُ للإنسانِ كلَّ ما يحتاجهُ لإعمارِ الأرضِ، وذلَّلَ له العقباتِ التي قد تقفُ في طريقِه، وقد حفلَ القرآنُ بكثيرٍ مِن الآياتِ التي تلفتُ انتباهَ الخلقِ إلى أنَّ الزراعةَ أحدُ المهنِ اللازمةِ لحياةِ البشريةِ، والتي لا تحيَا بدونِهَا، ومِن هذا المنطلقُ وعملًا بقولهِ: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾، وتأسيًّا بأقوالِ الحبيبِ ﷺ، وعملِ الصحبِ الكرامِ يفترضُ على الإنسانِ العاقلِ أنْ يقومَ برسالةِ عمارةِ الأرضِ، واستخراجِ كنوزِها، والمحافظةِ عليها نقيةً صالحةً، مواصلًا الليلَ بالنهارِ لتحقيقِ الاكتفاء الذاتِي من الزراعةِ، ولا يقعدَنَّ عن الطلبِ يقولُ سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ: «لا يقعدنَّ أحدُكُم عن طلبِ الرزقِ ويقولُ: اللهمَّ ارزقنِي، فقد علمتُم أنَّ السماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فضةً.
ثالثًا: اتخاذُ الحرفِ والمهنِ: المستقرءُ لنصوصِ الكتابِ العزيزِ يجدُ أنَّ اللهَ قد ألهَم بعضَ رسلِهِ وأنبيائِهِ صناعاتٍ وحرفٍ متنوعةٍ قال ربُّنَا:﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾، وهذا نوحٌ عليه السلامُ قد أمرَهُ بصنعِ سفينةٍ في زمنٍ قلتْ فيهِ الاختراعاتُ وندرتْ فيهِ الابتكاراتُ، فحينمَا أرادَ اللهُ أنْ يُهلكَ قومَهُ أمرَهُ فقالَ تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ﴾، وبدأَ نوحٌ بصناعةِ سفينةٍ عظيمةٍ لا يُشبههَا فلكٌ في العالمِ؛ لأنَّه سيحملُ فيهِ مِن كلِّ صنفٍ مِن الحيواناتِ زوجينِ اثنينِ، وكان في قدرةِ اللهِ أنْ ينزلَ تلك السفينةَ مِن السماءِ، أو يرفعَ بنوحٍ وأتباعهِ الأرضَ فلا يصلُ الماءُ إليهِم، ولكنَّ اللهَ أمرَهُ أنْ يضربَ بمسمارهِ على أخشابهِ؛ ليبنيَ أعظمَ فُلكٍ في الدنيا، وهذا الأمرُ يشملُ جميعَ البشرِ إلى يومِ القيامةِ، فهم مأمورون بشقِّ السفنِ والتفننِ في اتقانِهَا واختراعِ كلِّ ما هو جديدٌ في عالمِ هذه الصناعةِ بما يتناسبُ مع عصرهِم ومكانهِم .
وهذا داودُ عليه السلامُ يمتنُّ اللهُ عليه بتعليمهِ مبادئَ الصناعةِ العسكريةِ، فكان يستخدمُ الحديدَ في مباشرةِ صناعةِ الدروعِ والسيوفِ وآلالاتِ الحربِ المختلفةِ التي تقي المحاربَ الأخطارَ، فكان له قدمُ السبقِ في ذلك، وكان أولَ مَن سردَهَا وحلَّقَهَا كما قال ربُّنَا: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وكان إذا أتمَّ صنعَ درعٍ باعَهَا، فتصدقَ بثلثِهَا، واشترى بثلثِهَا ما يكفيهِ وعيالهِ، وأمسكَ الثلثَ يتصدقُ بهِ يومًا بيومٍ إلى أنْ يعملَ غيرَهَا، فهو عليه السلامُ يقتاتُ مِن تلك الصناعةِ مع أنَّ اللهَ جمعَ لهُ بينَ الملكِ والنبوةِ فعن الْمِقْدَامِ عن رسولِ اللهِ ﷺ: «ما أكلَ أحدٌ طعامًا قط خيرًا مِن أنْ يأكلَ مِن عملِ يدهِ، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ مِن عملِ يدهِ» (البخاري).
تابع/ خطبة الجمعة القادمة
إنَّنَا عندما نستعرضُ هذه الأخبارَ القرآنيةِ نحسبُ وكأنَّنَا نتحدثُ عن حضارةٍ في زمانِنَا هذا! ولا غروَ في ذلك، فالقرآنُ كتابُ دُنيَا ودين؛ فاتخاذُ حرفةٍ أو صنعةٍ يحتاجُ إلى أولًا حسنِ التوكلِ على اللهِ ثم الأخذِ بالأسبابِ التي أمرَ الشارعُ الحكيمُ بمباشرتِهَا فعن عُمَرَ قال: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا» (ابن ماجه، وإسناده صحيح)، أمَّا أنْ ينامَ الإنسانُ وينتظرَ فرجَ السماءِ فهذا لا يقبلهُ دينٌ ولا عقلٌ ولا عرفٌ، يقولُ سيدُنَا عمرُ بنُ الخطابِ: “إنِّي لأرَى الرجلَ فيعجبنِي، فأقولُ: له حرفةٌ؟ فإنْ قالوا: لا، سقطَ مِن عينِي” (كنز العمال) .
كما حفلَ القرآنُ الكريمُ بذكرِ نماذجَ لصناعاتٍ متعددةٍ كصناعةِ المنسوجاتِ والموادِ الغذائيةِ والدوائيةِ وصناعةِ الأسلحةِ، وصناعةِ الغوصِ واستخراجِ اللؤلؤِ والمرجانِ، وصناعةِ الزجاجِ …الخ، وتنفيذًا للأوامرِ الربانيةِ والأقوالِ النبويةِ برعَ مِن الصحابةِ صناعٌ مهرةٌ اشتهرُوا بالعديدِ مِن الصناعاتِ، فكان خبابُ حدادًا يصنعُ السيوفَ، وكان سلمانُ يعملُ في صناعةِ نسيجِ السِّلالِ، وكان سعدُ يبرِي النبلَ، وكان عثمانُ بنُ طلحةَ خياطًا رضي اللهُ عنهم أجمعين، وصدقَ سيدُنَا عليٌّ بنُ أبي طالبٍ حيثُ قالَ:
لحملي الصخرَ مِن قمَمِ الجبالِ *** أحبُّ إليَّ مِن مننِ الرِّجَالِ
يقولُ الناسُ في الكسبِ عارٌ *** فقلتُ العارُ في ذلِّ السُّؤَالِ
إنَّ أكلَ الحلالِ وإنْ كان يُتعبُ صاحبَهُ في دارِ الفناءِ لكنَّهُ يُيسرُ على صاحبهِ الحسابَ في دارِ البقاءِ، فإنَّه سيسألُ عن مالهِ «مِن أينَ اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟»، فتكونُ لديهِ الحجة، ويدخلُهُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – الجنةَ، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» (مسلم) .
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا حسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنَّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، وأنْ يجعلَ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمنًا أمانًا، سلمًا سلامًا وسائرَ بلادِ العالمين، ووفق ولاةَ أُمورِنَا لما فيه نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: د / محروس رمضان حفظي عبد العال عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف