خطبة الجمعة : الحال أبلغ من المقال.. قصص ونماذج وقضايا ملهمة الدكتور/ أحمد علي سليمان
الدكتور/ أحمد علي سليمان ، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية : 1 شعبان 1446هـ / 31 يناير 2025م
خطبة الجمعة بعنوان: الحال أبلغ من المقال.. قصص ونماذج وقضايا ملهمة، بقلم المفكر الإسلامي الدكتور/ أحمد علي سليمان ، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية : 1 شعبان 1446هـ / 31 يناير 2025م
لتحميل خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 31 يناير 2025م ، للدكتور أحمد علي سليمان بعنوان : الحال أبلغ من المقال :
لتحميل خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 31 يناير 2025م ، للدكتور أحمد علي سليمان بعنوان: الحال أبلغ من المقال ، بصيغة pdf أضغط هنا.
ولقراءة جزء من خطبة الجمعة القادمة 31 يناير 2025م ، للدكتور أحمد علي سليمان ، بعنوان : الحال أبلغ من المقال : كما يلي:
خطبة الجمعة بعنوان:
الحال أبلغ من المقال( )
قصص ونماذج وقضايا ملهمة
بقلم المفكر والداعية الإسلامي
الدكتور/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
الجمعة: 1 شعبان 1446هـ / 31 يناير 2025م
الحمد لله الذي أمرنا بالعمل الصالح، وأرشدنا إلى أن نكون قدوة في أفعالنا قبل أقوالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 2-3) . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه والمثيل والند والكفء والنظير، وأشهد أن سيدنا محمدًا (ﷺ) عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثَّر به بعد القلة.
فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، ما ذكره الذاكرون الأبرار، وما تعاقب الليل والنهار… اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا محمد (ﷺ)، إلى يوم الدين.
أحباب سيدنا رسول الله:
أَدَامَ اللَّهُ عِزَّكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ خَيْرَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ عِلْمَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ أَثَرَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ حُبَّكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ سَخَائَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ فَائِدَتَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ مسِرَّاتكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ حِلْمَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ سُرُورَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ نَجَاحَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ بَرَكَاتِكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ طُهْرَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ صِحَّتَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ سَتْرَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ فَرَحَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ أَلْقَكُمْ
أَدَامَ اللَّهُ مَجْدَكُمْ… أصلح الله أحوالنا وأحوالكم … يارب
عباد الله: أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله.. يقول الحق (تبارك وتَعَالَى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران: 102) ..أما بعد
أخوة الإيمان والإسلام:
جاء الإسلام الحنيف بمنهج عظيم لإصلاح الإنسان والكون والحياة… إنه المنهج الكامل الشامل للدين والدنيا معا… جاء لإسعاد الإنسان والأكوان والأوطان…
ورسالة الإسلام تستهدف بناء الإنسان المسلم:
يستهدف الإسلام بناء إنسان قوي في علاقته بربه، قوي في علمه وحلمه وأخلاقه، قوي في حسن عمله وسلوكه، يسهم في تكوين مجتمعات مسلمة قوية.. قوية في علاقتها بربها، قوية في إخلاصها… قوية في علومها وإبداعها وريادتها.. قوية برجالها الذين يتكلمون قليلا، ويعلمون كثيرًا، ويعملون كثيرًا، ويبدعون ليل نهار…
ولسان حال الواحد منهم: أنا من أتباع رسول عظيم، قال الله (سبحانه وتعالى) عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، وقال (ﷺ) هو عن نفسه: (إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ)( )، وقال: (إنَّما بُعِثْتُ لأُتممَ صالحَ الأخلاقِ)( )، وقال: (بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ حُسْنَ الأخلاقِ)( ).
وهكذا فإن الإسلام يرمي إلى تكون المسلم:
– المتوكل دوما على الله، الذي يعمل ويبدع ويبرع من أجل الله، ومن أجل ترقية الحياة.
– الصالح المصلح النافع لنفسه ولغيره، كثير العمل… كثير الإتقان… كثير التجويد والإبداع… قليل الكلام، لا يتكلم إلا بما يرضي الله.
– الرحيم بشتى مخلوقات الله (جل في علاه).
– المحافظ على شتى مفردات الطبيعة والكون والحياة، والمشارك في تنميتها وتعظيم الإفاة منها.
الأداء الحضاري المتميز .. الطريق إلى لسان الحال المنشود:
نطالب المسلمين في كل مكان -لاسيما مَن يعيشون في بلاد الشرق والغرب- بأن يضربوا أروع الأمثال بأحوالهم الملهمة المبدعة البانية المنبثقة من: أقوالهم، وأفعالهم، وأخلاقهم، وأحوالهم، وفي كل لحظات حياتهم، بأن يضربون المثل في الإبداع، والاتقان، والأمانة، والإخلاص، والصدق، والعمل المتقن والأداء الحضاري بالغ التميز، الذي يسهم في بناء الأوطان الذين يعيشون فيها، ومن ثم يعبر كل واحد منهم عن الأخلاق العظيمة التي تعلموها من رسولنا العظيم (ﷺ) بحيث تتجسد هذه الأخلاق في الواقع العملي في الحياة، ومن ثم إبهار الآخرين بأعمالهم وأحوالهم التي تدفعهم للتعرف على ديننا، فيسألون: من هؤلاء؟
فيقال لهم: إنهم أتباع نبي الله سيدنا محمد (ﷺ) فيقبلون على ما جاء به النبي العظيم، دراسة، وتمحيصا، ثم إيمان عميق لمن أراد له الهداية والتوفيق.
الفرق بين الدعوة باللسان والدعوة بالحال
الدعوة إلى الله من أعظم الأعمال، وهي مسؤولية كل مسلم، بأخلاقه وأحواله وسلوكياته …
فالمسلم عليه عبء البلاغ عن الله بحاله الحسن، وعلمه المتقن، وإبداعه وصدقه وأمانته… فكثير من الناس غير متخصصين في علوم الدين والشريعة، ولكنهم يَعلمون أخلاق النبوة وتعاليم الإسلام التي يجب أن تكون حاضرة في سلوكهم، وشاهدة على سلوكهم على الدوام، ومن هنا تكون الدعوة بالحال.
الدعوة باللسان، تعتمد على الكلام والتبليغ المباشر فهي مهمة علماء الدين، -والدعوة بالحال تعتمد على السلوك والتصرفات- نعم ندعو إلى الله باللسان عن طريق الخطابة، والكتابة، والدروس، والمحاضرات، والوعظ، والتفسير والكتابة والتأليف والمقالات، ومن خلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بالحوار والنقاش العلمي. وهذه الدعوة تصل إلى عدد كبير من الناس، وتُستخدم لشرح العقيدة والتشريعات، وهي وسيلة فعالة في الرد على الشبهات، ويشترط لنجاحها أن تكون مقرونة بالعمل، فلا يكون لها تأثير إذا لم يلتزم الداعي بما يدعو إليه، كما قد تُقابل بالرفض إن لم يلمس الناس تطبيقًا عمليًا لما يُقال.
أما الدعوة بالحال فهي الدعوة إلى الإسلام من خلال الأفعال والسلوك والتصرفات دون الحاجة إلى الكلام المباشر، من خلال الصدق والأمانة في التعامل، والعدل والإحسان في المعاملة، والرحمة والتسامح مع الآخرين، والالتزام بأخلاق الإسلام في كل المواقف… ومن ذلك مثلا سلوك النبي قبل البَعثة فقد كان (ﷺ) يُعرف بالصادق الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، مما جعل الناس يثقون به، وحسن معاملته للمخالفين، ومن ذلك طوائف أهل المدينة، والنصاري الذين كانوا يفيدون إليه، وأخلاقه في الحروب، وحسن معاملته للأسرى، ومعاملته الحسنة لأهل مكة أثناء فتحها وبعد الفتح العظيم حيث أسس من خلاله أعظم القيم بأحواله ومواقفه وتصرفاته الخالدة البليغة، وحسن معاملته للخدم والضعفاء ، ورحمته بالحيوان والنبات وحتى الجماد.
ولا ريب في أن الدعوة بالحال أبلغ وأعظم وأنفع، وتأثيرها أقوى من الكلام لأنها تُجسد الإسلام عمليًا، وتُلهم غير المسلمين لدراسة الإسلام، والدخول فيه كما حدث في جنوب شرق آسيا عبر التجار المسلمين..
وهكذا فالدعوة باللسان وحدها لا تكفي، إن لم تكن مقرونة بالدعوة بالحال، والدعوة بالحال أكثر تأثيرًا، لكنها تحتاج أحيانًا إلى التوضيح بالكلام، وأفضل أسلوب هو الجمع بينهما، بحيث يكون المسلم داعية بأخلاقه قبل كلامه… ومن ثم إذا أردت أن تكون مسلما ناجحًا، فلتكن أفعالك شاهدًا على كلامك!.
كيف نحقق ذلك؟ نحققه من خلال:
1. القدوة العملية: عندما يكون الشخص أنموذجًا يُحتذى به، فيلتزم بالقيم والمبادئ التي ينادي بها، فيكون تأثيره أقوى من مجرد التوجيه بالكلام.
2. الإحسان في الفعل: فالأفعال الصادقة تعكس النية الحقيقية، فمثلًا، شخص يساعد المحتاج بصمت، يكون أثره أقوى ممن يتحدث عن ضرورة مساعدة الفقراء دون أن يفعل شيئًا.
3. التجربة تثبت أكثر من التنظير: فكثير من الأفكار والنظريات لا تُثبت صحتها إلا بالتطبيق العملي، فإذا نجح الفعل، فهو أبلغ من أي حجة نظرية.
4. التواضع العملي: بعض الناس يتحدثون عن أخلاق معينة، لكن مَن يعيشها فعلًا دون ادعاء يكون أكثر إقناعًا وتأثيرًا.
وهكذا فالحال يتفوّق على المقال عندما يصبح الواقع العملي ترجمة صادقة للكلام.
النبي (ﷺ) الأنموذج الأعظم
يعلمنا أن الحال أبلغ من المقال
حال النبي مع قومه قبل البَعثة:
كان حال النبي (ﷺ) دائمًا أبلغ من مقاله في شتى مراحل حياته، فقد جسّد كل القيم والمبادئ التي دعا إليها في حياته اليومية.
فكان مثالًا عمليًّا يُحتذى به قبل بَعثته، ومن أوجه ذلك:
1. الصدق والأمانة قبل البَعثة: قبل أن يُكلّف بالرسالة، عُرف بالصادق الأمين، فسبقت أخلاقه دعوته، مما جعل الناس يثقون فيه قبل أن يدعوهم للإسلام.
2. حسن المعاملة: كان يُحسن إلى الجميع، حتى لمن عادوه، ففتح بذلك قلوب الناس قبل آذانهم.
3. العبادة والخشوع: كان أكثر الناس عبادة وخشية لله، فلم يكن يأمر الناس بشيء إلا وكان هو أسبقهم إليه، لذلك فإنَّ السيدةَ عائشة (رضي الله عنها) لم تجدْ أروعَ ولا أجملَ ولا أعظمَ من أن تصفَ أخلاقَ النبي بقولها: (كان خُلُقُه القرآنَ)( ).
4. العدل بين الناس: لم يكن يفرّق في المعاملة، حتى إنه قال: (…لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا) ( ).
5. الصبر والتسامح: تحمّل الأذى في سبيل الدعوة، ولم ينتقم لنفسه، بل سامح كثيرًا، كما فعل مع أهل الطائف على الرغم من إيذائهم له.
قالت أم المؤمنين السيدة عائشة (رضي الله عنها) يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: (لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ)، فَنَادَانِي، فَقالَ: (إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما ردُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ (ﷺ): بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا) ( ).
فأخبَرَ (ﷺ) مَلَكَ الجبالِ أنَّه لا يُريدُ ذلك العذابَ لقَومِه، بلْ إنَّه يَرْجو أنْ يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهم مَن يَعبُدُ اللهَ وحْدَه، فيُوحِّدُه مُنفرِدًا، أو يُطيعُه مُخلِصًا لا يُشرِكُ به شَيئًا. وقدْ كان ما رَجاهُ (ﷺ) ، حيث دخَلَت مكَّةُ والطَّائفُ في دِينِ اللهِ سُبحانَه، وحسُنَ إسلامُهم، وكان منهم مُسلِمون مُوحِّدون باللهِ، وقادةٌ عُظَماءُ وَسَّعوا رُقعةَ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ. وهكذا كان سيدنا النبي (ﷺ) يُجسّد الإسلام قبل أن يدعو إليه، فكان فعله أسبق من قوله، ولذلك أثّر في الناس وغيّر العالم بأخلاقه وأحواله مع أقواله.
حال النبي في عباداته:
كان النبيُّ (ﷺ) مُعتدلًا في عباداته، حيث كان يُصلّي باعْتدال، فيقومُ الليلَ حتَّى تتفطَّر قَدَماه، ويأخذُ قسطًا من الرّاحة. ويصومُ بعضَ الأيامِ، ويُفطِرُ بقيةَ الأيام.
ويختارُ الأيسرَ من الأمور، فعنْ عائشةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنها) قالت: “ما خُيِّرَ رسولُ اللهِ (ﷺ) بين أمريْن قطُّ إلا أخذَ أيْسرَهما ما لم يكنْ إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ منه…”( )، وكان أيضًا يتوضَّأ باعتدال؛ فلم يكنْ يُسرف أبدًا في استخدام الماء، وكأنه ينظرُ إلى قومِه وصحابتِه والأجيالِ المتتابعة عبرَ الدُّهور والعُصور؛ ليعلِّم العالمَ كيف تكون الحياة.
فعنْ أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ (ﷺ)، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ (ﷺ) ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ.
قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا.
وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ.
وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا.
فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ (ﷺ) إليهِم، فَقالَ: (أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)( ).
انظروا إلى بلاغة أحوال النبي (ﷺ)، وجلال فعله، وجمال قوله.
حال النبي مع مَن أذاه بالقول والفعل:
ضربَ النبيُّ الرحيم (ﷺ) أروعَ الأمْثلة في بلاغة الحال، من خلال عفوه وصفحه. فقد كان النبيُّ (ﷺ) يَسيرُ ذاتَ يومٍ فأدركه أعرابيٌّ من أهلِ البادية- وهُم غِلاظٌ شِداد-، فجذبَ النبيَّ جذبًا شديدًا، فأثَّر في عنقه الشريف.
وبعدَما آذى النبيَّ بالفعل، آذاه أيضًا بالقول: (بالحِدَّة، والشِّدة، والغِلظة) قائلًا له: يا محمد، مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ!.
فماذا فعلَ معه النبيُّ (صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ)؟
يقول أنسُ بنُ مالك: فَالْتَفَتَ إلَيْهِ النبيُّ فَضَحِكَ -ابتسم-، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ!
فعنْ أنس بنِ مالك (رضي الله عنه) قال: كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ (ﷺ) وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ (ﷺ) قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ( ).
ونَفهمُ من عَفو النبيِّ عنِ الأعرابي أمريْن:
الأمرُ الأوَّل: أنَّ النبيَّ (ﷺ) كان من طَبعه ومِن أخلاقه أنَّه لا يردُّ الإساءةَ بالإساءة؛ بل يردُّها إحسانًا وعفوًا وصفحًا جميلًا، واضعًا نصْبَ عينيه كلَّ الآياتِ الداعية إلى العَفو والصَّفح والتسامح والتسامي والمغْفرة والصَّبر وكَظم الغيظ، والإحسان إلى خَلق الله، وإلى شتى مَخلوقات الله.
الثاني: وهي قضيةُ تَقزيم المشكلة، وتَصغيرها وعدمِ تَكبيرها، والتماس الأعْذار. ولقد سبقَ النبيُّ الكريم خبراءَ التَّنمية البشرية بمئات السنين؛ حيث إنَّ تَقزيمَ المشكلة يتسبَّب في حلِّها.
والنبيُّ كان قادرًا على ردِّ الإساءة، ولكنه صاحبُ الخلقِ العظيم، لا يردُّ الإساءةَ بالإساءة؛ بل يردُّها إحسانًا وعفوًا وصفحًا جميلًا، ومِن هنا نأخذ من أخلاقِه أعظمَ الدُّروس التَّربوية.
إذًا، فِعلُ العَفو، وقيمةُ العَفو كانت مَرْكوزةً في شخصيةِ الحبيبِ المصطفى
وكيف لا يَعفو، والنبيُّ (ﷺ) أولُ مَن نزل عليه قولُ الله تباركَ وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 133).
• وكيفَ لا، والنبيُّ أولُ مَن نزلَ عليه قولُ الحقِّ تباركَ وتعالى: {…فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40).
• وكيف لا، والنبيُّ أولُ مَن نزل عليه قولُ الله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى:43)
• وكيف لا، والنبيُّ أولُ مَن نزلَ عليه قولُ الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: ١٩٩).
حال النبي مع الجيران:
وضعَ النبيُّ الكريم أسُسًا ومبادئ للرُّشدِ الحضاري، ولقد كانت حقوقُ الجيران في مِنهاجِ النبي (عليه الصلاةُ والسلام) مِن أسْمى الحقوق؛ لأنه يعلمُ ما يترتَّب على هذه الجيرةِ من عيشةٍ هَنيَّة أو عيشةٍ تَعيسَة.
فكمْ من عائلاتٍ تعيشُ الأمَرَّين من أذى الجيران؟؛ وكم مِن جارٍ سيِّئ أسهمَ في تَهجير كثيرٍ من الأسَر؟!، وكم من جارٍ كريمٍ تأنَس النفسُ للُقْياه، وتَرتاحُ العين لرؤيتِه، ويَسعدُ القلبُ حتى عند ذِكر سيرتِه.
إنَّ أملَ النّاس أن يعيشوا في سلامٍ ووئامٍ مع جيرانهم؛ لذلك أكَّد النبيُّ الكريم على حُسن الجوار، وجعلَ مِن شروطِ دخول الجنَّة أن يبتعدَ المسلمُ عن إيذاء جارِه؛ حيث قال: (لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن لا يَأمَنُ جارُه بوائقَه)( ) وبوائقُه: أي شرورُه ومَهالكُه. بل إنَّه جعل من شروطِ الإيمان وصحَّتِه أن يُحسنَ المسلمُ إلى جارِه، وأقسمَ على ذلك ثلاثَ مرّاتٍ؛ ليؤكدَ للعالمين أنَّ هذا الأمرَ من الخطورة بمكان، فقالَ (صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم): (واللَّه لا يؤمِنُ، واللَّه لا يؤمنُ، واللَّه لا يؤمنُ). قيلَ: مَن يا رسولَ اللَّه؟ قالَ: (الَّذي لا يأمنُ جارُه بوائقَه)( ).
ولعِظَمِ أمرِ الجيرةِ فقد أرسلَ اللهُ (سبحانه وتعالى) سيدَنا جبريل (عليه السَّلام) إلى نبيِّنا الكريم (صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم)؛ ليوصيه بالجار، أكثرَ من مرَّة، حتَّى ظنَّ النَّبي أنَّه سيورِّثه. فعنْ عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ): (ما زالَ جِبريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظنَنتُ أنَّهُ سيورِّثُه)( ).
لذلك فإنَّ مِن وجوه الإحسانِ إلى الجار مِن واقع تطبيقِ النبيِّ لها، أن يتذكَّر المسلمُ جارَه في كلِّ مناسبة، وأن يحفظَ جارَه في أهله وزوجتِه وأولادِه وماله، كما يحرصُ على حفظِ أهلِه، وخاصَّة بيته.
وقد عدَّ النَّبيُّ (عليه الصلاةُ والسلام) مِن بين أعظم المنكرات من الأعمال أنْ يَزني المرءُ بحَليلةِ جارِه، فعنِ المقدادِ بنِ الأسود قال: قال رسولُ اللهِ (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ) لأصحابِهِ: (ما تقولون في الزنا قالوا: حرامٌ حرَّمَهُ اللهُ ورسولُهُ فهو حرامٌ إلى يومِ القيامَةِ)، فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ) لِأصحابِه: (لأنْ يَزنيَ الرَّجُلُ بعَشرةِ نِسْوةٍ، أيْسَرُ عليه مِن أنْ يَزنيَ بامْرَأةِ جارِه)، فقال: (ما تقولون في السَّرِقةِ؟) قالوا: حَرَّمَها اللهُ ورسولُه فهي حَرامٌ، قال: (لأنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِن عَشَرةِ أبْياتٍ، أيْسَرُ عليه مِن أنْ يَسْرِقَ مِن جارِه)( ).
وقد كان النبيُّ الكريمُ خير جارٍ، حتى لمن كان يتعمد إيذاءه من اليهود، منطلقا من قاعدة: (الدِّينُ المعاملة).
التقوى وحسن الخُلق والعبادات.. الطريق إلى أحسن الأحوال
مفاتيح صلاح الحال (القلب والنفس)
صلاح الحال لا يكون إلا بأمرين أساسيين:
الأمر الأول: إصلاح القلب: وهو الأساس، لأن القلب هو مركز التأثير في الجسد كله، كما قال النبي (ﷺ): (…ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ) ( ) فإصلاح القلب يكون بالإيمان الصادق، والإخلاص، والتوبة، وكثرة الذكر، والابتعاد عن الذنوب التي تكدّره.
الأمر الثاني: تزكية النفس: أي تطهيرها من الشهوات والذنوب، وتهذيبها بالطاعات والعبادات، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا .وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس: 7-10). فالنفس تميل إلى المعصية إن لم تُروَّض على الطاعة، وتُطهَّر بالذكر والقرب من الله، فكلما اقترب العبد من الله، زادت قوته في مواجهة وساوس الشيطان وشهوات الدنيا.
وهكذا فإن إصلاح القلب، وتزكية النفس هما مفتاح صلاح الحال، فمن أصلح باطنه أصلح الله له ظاهره.
الصالحون يصلحون:
سيدنا إبراهيم الخواص (رضي الله عنه)
والطريق إلى حسن الحال
نظرة من نافذة التاريخ الإسلامي المشرق
انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا بأخلاق التجار:
أولًا: كيف وصل الإسلام إلى جنوب شرق آسيا؟
ثانيًا: القيم الأخلاقية التي أسهمت في انتشار الإسلام
أيها الأخوة المؤمنون:
يجب أن نتذكر أن الكلمات سهلة، لكن الأفعال تحتاج إلى جهد وصدق. إننا نرى الكثير من الناس يتحدثون عن الخير والفضيلة، لكن القليل منهم هم من يترجمون ذلك إلى أفعال. لنحرص على أن نكون من أولئك الذين يُظهرون أخلاقهم من خلال سلوكهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسولُ الله عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله..يقول الحق (تبارك وتَعَالَى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (آل عمران: 102) أما بعد،
أهمية التسامح للفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية
كيف ننشر التسامح العالمي؟
ولتحقيق ذلك أطالب بما يلي:
أولا: إنشاء المفوضية العالمية للتربية على التسامح
ثانيا: الاستفادة من خبرات بعض الدول التي خطت خطوات رائدة في هذا المجال
ثالثا: إعداد مضادات قوية لعلاج التطرف بشتى صوره وأشكاله، ترتكز على العلاجات التربوية والثقافية.
رابعا: تخصيص يوم عالمي للتسامح تقام فيه الاحتفالات بالإنجازات التي حققها العالم في مجال التسامح.
خامسا: إعداد الهياكل الفنية والعلمية بالمفوضية لتكون بيت خبرة عالمي للتسامح.
اللهم احفظ مصر شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، طولها وعرضها وعمقها، بحارها وسماءها ونيلها، ووفق يا ربنا قيادتها وجيشها وأمنها وأزهرها الشريف، وعلماءها، واحفظ شعبها، وبلاد المحبين يا رب العالمين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وصلِّ اللهم وسلِّم وبارِك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..وأقم الصلاة.
خادم الدعوة والدعاة د/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
والحاصل على المركز الأول على مستوى الجمهورية في خدمة الفقه والدعوة (وقف الفنجري 2022م)
المدير التنفيذي السابق لرابطة الجامعات الإسلامية- عضو نقابة اتحاد كُتَّاب مصر
واتس آب: 01122225115 بريد إلكتروني: [email protected]
يُرجي من السادة الأئمة والدعاة متابعة الصفحة الرسمية، وعنوانها:
(الدكتور أحمد علي سليمان)؛ لمتابعة كل جديد
لقراءة الخطبة أو تحميلها كاملا يرجي تحميل الخطبة من ملف pdf بالأعلي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف