حاجتنا للتفائل البنّاء في وقت الوباء ، للشيخ /كمال المهدي
حاجتنا للتفائل البنّاء في وقت الوباء ـ للشيخ /كمال المهدي
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على حبيبه الذي اصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
*وبعد:–
إن الإسلام دين يدعوا إلى كل ما فيه خير للبشرية جمعاء والناظر في واقع الأمة اليوم يجد أنها في وهن شديد ووجل وخوف مما حل بها من انتشار هذا الوباء فأصبح الناس في رعب شديد وتشاؤم من كل شيئ بل من الناس من أصبح يتشاءم من هذا العام، ٢٠٢٠م وأخذ يعبر عنه بأنه من أسوأ الأعوام التي مرت عليه وغير ذلك من الكلام الذي نسمعه وهذا واقع ملموس..
!! هذا الواقع ليستدعي إحياء صفة ((التفاؤل)) ، تلك الصفة التي تعيد الهمة لأصحابها ، وتضيء الطريق لأهلها،
تلك الصفة هي نور وقت شدة الظلمات، ومخرج وقت اشتداد الأزمات، ومتنفس وقت ضيق الكربات، وهذا ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفاءل وتعلق برب الأرض والسماوات؛ فجعل الله له من كل المكائد والشرور والكُرب فرجاً ومخرجاً..
!! وإن التفاؤل يعين على تحسين الصحة البدنية؛ فإن النفس تؤثر على الجسد، وربما أصبح الإنسان عليلاً من غير علة، ويا لها من علة؛ أن تكون النفس مسكونةً بهواجس القلق والتشاؤم وتوقُّع الأسوأ في كل حال.
فكثير من الناس اليوم أصيب بهذا الوباء بسبب خوفه وقلقه ورعبه وقد أثبت الأطباء على أن الخوف والقلق والتشائم يضعف المناعة مما يجعل الإنسان عرضة للأمراض..
وقد أثبتت الدراسات كذلك أن المتفائل يعيش مدةً أطول، وأن المُعَمَّرين عادةًً هم المتفائلون في حياتهم،
!! أما المتشائم حين يقرأ أو يسمع مثل هذه الأخبار عن هذا الوباء .تجده يخاف ويتشائم ويعيش في كآبة وحزن حتى يصيبه المرض.
إنه بذلك قد حكم على نفسه بالموت البطيء، ووضع على عينيه نظارة سودًاء؛ فهو لا يرى إلا القبيح…
أيهذا الشاكي وما بك داء * كن جميلاً تر الوجود جميلا..
** إن التفاؤل يقاوم المرض، وقد ثبت طبيًّا أيضًا أن المتفائلين هم أقدر من غيرهم على تجاوز الأمراض، حتى الأمراض الخطيرة، فلديهم قدرة غريبة على تجاوزها والاستجابة لمحاولات الشفاء.
*وإنَّ أعلى درجات التفاؤل هو التفاؤل في أوقات الأزمات، وساعات الشدائد، كما نحن فيه الآن، فتَتَوَقَّع الخيرَ وأنت لا ترى إلاَّ الشر، والسعادةَ وأنت لا ترى إلاَّ الحُزن، وتَتَوقَّع الشفاءَ عند المرض، وتتوقَّع تفريجَ الكروب ودَفْعَ المصائب عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يُولِّد مشاعر الرضا والثقة والأمل.
**وإن أعظم مصدرٍ للتفاؤل هو القرآن الكريم، الذي يمنحنا التفاؤل والفرح والسرور، ويعطينا الأمل: فمن أسرف على نفسه بالمعاصي ووقع في فخ الشيطان؛ فعليه أن يتدبَّر قوله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، وسيشعر حينها بالفرحة والسرور،
وهذا الذي يدعو اللهَ تعالى، ولم يتحقَّق دعاؤه، إذا قرأ قولَه تعالى: ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ فالخير قد يكون كامنا في الشر، والسعادة قد تكون كامنة في الشدة، والفرح قد يكون كامناً في الحُزن.
**والتفاؤل من الصفات النبيلةوالخصال الحميدة التي حبا الله بها أنبيائه
، واقرؤوا – إنْ شئتم – قصصَ القرآن؛ لتروا التفاؤلَ بادياً في تعاملهم مع الأزمات والمحن،
**وقد ضرب يعقوب – عليه السلام – أروع الأمثلة في التفاؤل: فلما ادعى إخوة يوسف بأنَّ الذئب أكله، وابنه الآخَر اتُّهم بالسرقة وسُجِن، كما أخبروه، وعلى الرغم من مرور السنوات الطويلة إلاَّ أنه لم يفقد الأمل من رحمة الله تعالى، تأمَّلوا ماذا كان ردُّ فِعله؟ وبماذا أمر أبناءَه؟ قال لهم: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾
**وهذا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم:-
فقد كان صلى الله عليه وسلم متفائلاً في كل أموره وأحواله، في حلِّه وترحاله، في حربه وسلمه، في جوعه وعطشه، إذ كان صلى الله عليه وسلم في أصعب الظروف والأحوال يبشر أصحابه بالفتح والنصر على الأعداء،
**ويوم هجرته إلى المدينةانطلق المشركون في آثاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور،يقول أبو بكر رضي الله عنه: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري .
**ومنها تفاؤله بالنصر في غزوة بدر، وإخباره صلى الله عليه وسلم بمصرع رؤوس الكفر وصناديد قريش.
**ومنها تفاؤله في غزوة الأحزاب وما فيها من ظروف عصيبة شديدة، وحصار جماعي من مختلف قبائل العرب واليهود بجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل، وشدة البرد والجوع والخوف، ، والمعاناة الشديدة في حفر الخندق، ومع ذلك كله كان صلى الله عليه وسلم يغرس في أصحابه التفاؤل والأمل، فيعدهم ويبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن ـ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: باسم الله، فضرب ضربة ، فكسر ثلث الحجر، وقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال : باسم الله، وضرب أخرى، فكسرثلث الحجر، فقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصرقصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقيةالحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) . رواه أحمد .
**ومنها حالَه صلى الله عليه وسلم وهو في (قَرْنِ الثَّعَالِبِ) يمشي مهموماً بعد أنْ طردَه بنو عبدِ يالِيلَ وآذوه، والملأ من قريش مصمِّمون على منع عودته إلى مكة، وقد جاءه مَلَك الجبال فقال: إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَيْنِ،”الجبلين العظيمين” فأجابه صلى الله عليه وسلم – وكلُّه تفاؤل وأمل، وصبر، ورحمة، وبُعد نظر، واستشراف للمستقبل: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شيئاً) رواه البخاري ومسلم.
!! وفي مقابل اعتنائه صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه وتربيتهم على التفاؤل الذي يبعث على الأمل والعمل، والصبر والثبات على الدين، كان يحذرهم من النظرة التشاؤمية التي تقعدهم عن العمل والدعوة، وتدفعهم للإحباط واليأس الذي لا يرى في الناس أملاً لصلاح أو هداية، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهُم) رواه مسلم،
* فالتشاؤم واليأس سوء ظن بالله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) (متفق عليه). “فماذا تظن بربك؟! فعلى نوع ظنك يكون حالك”.
– قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “ما ظن عبد بالله خيرًا، إلا أعطاه إياه”.
ـ فالتشاؤم واليأس عجز وكسل، والتفاؤل والأمل في الله إقدام وعمل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلا تَعْجَزْ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنْ قامَتِ السّاعَةُ وَفِي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِن اسْتَطَاعَ أنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَها فلَيَغْرِسْها)
**وكانت العرب عندهم قضية التَّطيُّر والتشائم من القضايا التي تحتل حيزاً كبيراً من معتقداتهم، فقدكان الواحد منهم يطلق الطَّير فإذا ذهبت يميناً تفاءل وسافر ونكح وتاجر وباع واشترى، وإذا ذهبت الطَّير شمالاً تشاءم فترك الزَّواج أو السَّفر أو البيع أوالشِّراء، وترك كُلَّ شيءٍ كان يريد أن يفعله، فجاء الإسلام بإبطال ذلك كُلَّه
وقد قال النَّبيُّ ﷺ:( لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصَّالح الكلمة الحسنة) رواه البخارى. وفي رواية:( لا عدوى ولا طيرة وأحبُّ الفأل الصَّالح) رواه مسلم.
يقول عكرمة: “كنت عند ابن عباس فمرَّ طائرٌ فصاح فقال رجلٌ: خيرٌ خيرٌ، فقال ابن عباس: لا خيرٌ ولا شرٌّ”. ما عند الطَّائر سواءٌ نعيق البوم أوصوت الغراب أو صوت بلبل أو عصفور ما عند هذا لا خيرٌ ولا شرٌّ،
**فالتَّفاؤل والتَّشاؤم كلاهما خلق، فهناك أناسٌ عندهم خُلقُ التَّفاؤل طاغٍ وأناسٌ عندهم خُلقُ التَّشاؤم طاغٍ، حتى قالوا لو أريت كوباً نصفه ملآن فقلت له ما الذي ترى؟ فقال: هذا كوبٌ نصفه ملآن، وآخر يقول: عن نفس هذا الكوب: هذا كوبٌ نصفُه فارغٌ، فالذي يصفه بأنَّ نصفه ملآن هذا عنده طبيعةٌ تفاؤلية، والذي يصفه بأنَّ نصفه فارغٌ ، فهذا عنده مؤشر طبيعة تشاؤمية،
والتفاؤل له فوائدُكثيرةٌ:-
لو علمناها لزال عنا كثيرمن الأحزان والهموم والشتائم، ومن أهم فوائد التفاؤل: أنه يجعلنا متوكِّلين على الله تعالى، ونُحْسِن الظن به سبحانه، ويبعث في نفوسنا الرجاء، ويقوِّي عزائمنا، ويُجدِّد فينا الأمل، ويدفعنا لتجاوز المِحَن، ويُعوِّدنا الاستفادة من المحنة لتنقلب إلى منحة،
**وتعظم الحاجة إلى التفاؤل في أوقات الأزمات والشدائد، فأوْقِدْ أخي الحبيب جذوةَ التفاؤل، وعِشْ في أملٍ وعمل
سَهِرَت أَعيِنٌ وَنامَـت عُيـونُ * فـي أُمـورٍ تَكـونُ أَو لا تَكـونُ
فَاِدرَأِ الهَـمَّ مـا اِستَطَعــتَ * عَن النَفـسِ فَحِملانُكَ الهُمومَ جُنونُ
إِنَّ رَبًّا كَفاكَ بِالأَمسِ مـا كـان*** سَيَكفيـكَ في غَـدٍ ما يَكـونُ
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفائلين ولا يجعلنا من المتشائمين..
*********
كتبه:- الشيخ /كمال المهدي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية