نحيا بالأمل للشيخ كمال المهدي
( نحيا بالأمل )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه
أحبتي في الله :
في ظل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العالم أجمع من انتشار للفيروسات والأمراض وضيق الأرزاق نجد أن كثيرا من الناس قد أصيب بالتشاؤم والإحباط واليأس والقنوط من الحياة..
وهذا يعد مؤشرا خطراً فالتشائم واليأس كما يقال سلم القبر ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة.
فما أحوجنا في هذه الأيام إلى بث روح الأمل تلك الصفة التي هي نور وقت شدة الظلمات، ومخرج وقت اشتداد الأزمات، ومتنفس وقت ضيق الكربات ولكن أي نوع من الأمل؟
أقول لك أخي الحبيب الأمل نوعان:_
أمل مذموم!! وأمل محمود..
والناظرفي كتاب الله جل وعلا يجد أن كلمة الأمل ذكرت مرتين..
!!! الأولى : على سبيل الذم والتقبيح:_ وذلك عندما يكون الأمل مقرونا بالركون إلى الدنيا وشهواتها ونسيان الموت وإلى هذا أشار المولى عز وجل بقوله (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: ٣).
وذكر عن على -رضي الله عنه- أنه قال: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ) .
!!! والثانية : على سبيل المدح والترغيب فيما عند الله من خير:_
وإلى هذا أشار المولى عز وجل بقوله (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (الكهف: ٤٦).
**وهذا النوع الثاني هو الذي نبغيه ونطلبه فنحن بحاجة إلى أن نوقد شعلة الأمل في نفوسنا وليس ذلك فحسب بل لابد من المتابعة والمراقبة حتى لاتطفئها رياح اليأس وأعاصيرُ الإحباط التي استحكمت في قلوب الكثير من الناس.
** فالأمل هو شعاع يضيء في الظلمات ، به تنمو شجرة الحياة، وبه يذوق المرء طعم السعادة، ويُحس ببهجتها، فتنشرح نفسه في وقت الضيق والأزمات.
وبالأمل يَظْهَرُ النُّورُ من رَحِمِ الظَّلامِ, فَلَيْسَ بَعْدَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ إلا انْبِثَاقُ الفَجْرِ, قَالَ تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرَاً) [الشرح: ٥_ ٦]، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: “وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ”
وصدق القائل :
ألا أيها المحزون فكر في ألم نشرح * فعسر بين يسرين بشرٌ من هنا فافرح..
!!! ولنا في أنبياء الله ورسله الإسوة والقدوة الحسنة في تفائلهم وعدم يأسهم فلقد عانوا جميعا ووجدوا الكثير من أقوامهم وتعرضوا للتكذيب والإيذاء ولكنهم في وسط هذا الظلام الدامس كانوا متفائلين وكلهم أمل في أن النصر قادم واثقين في وعد رب العالمين..
!! فهذا سيدنايعقوب -عليه السلام- فقد ولديه وبصره أربعين عاماً، وما زال أمله بالله أن يردهما إليه وأن يجمعهما به، فكان يوصى أبناءه قائلاً لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:٨٧).
فحقق الله أمله ورجاءه، وَرَدَّ عليه بصره وولديه، لم يتطرق اليأس إلى قلبه لحظة واحدة؛ لأن قلبه موصول بالله، متوكلٌ عليه، واثقٌ من قدرته ورحمته.
!! وهذا سيدنا موسى -عليه السلام- وقومه وقد تبعهم فرعون وجنوده حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعون من خلفهم والبحر من أمامهم قال اليائسون والمتشائمون: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فقال لهم نبي الله موسى -عليه السلام- في ثقة وتفاؤل ويقين، يريد أن يصنع حياتهم ومستقبلهم من جديد: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:٦٢) ، فأمره الله -سبحانه- أن يضرب بعصاه البحر، فانشق نصفين، وكان كل فرق كالطود العظيم، ومشى مع قومه في طريقٍ يبس.
!! وهذا سيدنا سيدنا نوح عليه السلام يظل الف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه إلى الإيمان وما أصابه اليأس و إنما وصل الليل بالنهار و السر بالجهار حتى أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن و أمره أن يصنع السفينة على قمة الجبل في أرض صحراء قحلاء لا زرع فيها ولا ماء و لكنه الأمل أن تجري السفينة في موج كالجبال
!! وهذا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قومه إلى الإسلام، فيلقون دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل، ومع ذلك لما جاءه ملك الجبال ليعرض عليه إهلاكهم قائلا له يا محمد إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟تحلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمل أكثر وأكثر فقال: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا )..
وانظر إلى أمله صلى الله عليه وسلم وثقته في الله عند هجرته..
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ- وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا”.
لَقَد غَرَسَ صلى الله عليه وسلم الأَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى في قَلْبِ المِحْنَةِ, في سَاعَةِ القَلَقِ والتَّوَجُّسِ والاضْطِرَابِ والخَوْفِ: “مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا”
وفي جميع غزواته صلى الله عليه وسلم يبعث فيهم الأمل والتفاؤل والغد المشرق؛ ففي غزوة بدر يبعث فيهم روح النصر والأمل بقوله: ” سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ؛ والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم؛ ثم قال: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله – ووضع يده بالأرض – وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله. قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدودالتي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.”
وفي غزوة الأحزاب وقد جاء المشركون بعشرة آلاف مقاتل، ومن خَلفهمْ يهودُ بني قريظةَ وقد نقضوا العهد، فيشتد الكرب بالمؤمنين، وقد وصف الله حال المسلمين بعبارات واضحة بينة، فقال جل وعلا: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: ١٠ _١١]
ومع ذلك كان الأمل وكانت البُشْرَيات في هذه الغزوة أكثر من غيرها، فعن البراءِ بنِ عازبٍ الأنصاريِّ قال: لما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفرِ الخندقِ، عَرض لنا في بعضِ الخندقِ صخرةٌ عظيمةٌ شديدةٌ لا تأخذ فيها المَعاوِلُ، فشكوا ذلك إلى رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فلما رآها أخذ المِعول، وقال: “بسم اللهِ“، وضرب ضربةً فكسّر ثُلُثَها، وقال: “اللهُ أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيح الشامِ، واللهِ إني لَأبصرُ قصورَها الحُمْرَ إن شاء اللهُ“، ثم ضرب الثانيةَ فقطع ثُلثًا آخرَ، فقال: “الله أكبرُ، أُعطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبصِرُ قصرَ المدائنَ الأبيضَ“، ثم ضرب الثالثةَ فقال: “بسم اللهِ”، فقطع بقيَّةَ الحَجَرِ فقال: “الله أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمنِ، واللهِ إني لَأُبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني الساعةَ“.
إنّه الأمل وسط ركام الألم، والبِشارة في قلب الإعصار،
النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كل تكبيرة ومع كل شرارة يُحيي ويوقد الأمل في نفوس أصحابه، ويَرسم لهم معالم الرؤية المُشرِقة لمستقبلِ الإسلام، ويبث فيهم روح الأمل الذي كان يلازمه.
فكانت كلماته صانعةً لرؤيةٍ عظيمة، أذكت همم الصحابة، فانطلقوا يرددون:
والله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعداء قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا..
ثم تتحقق الرؤية، ويتحول النموذج المصغر إلى حقيقةٍ واقعية بعدها بسنوات قلائل، فيَفتح الله على المسلمين حصون كسرى وقيصر واليمن.
وفي الختام أقول لكل مريض لا تفقد الأمل ولا تيأس من عدم الشفاء مهما كان مرضك عضالًا ,
ولك في نبي الله أيوب عليه السلام أسوة ، فقد ابتلاه الله سبحانه وتعالى في نفسه وماله وولده ؛ إلا أنه لم يفقد أمله في أن يرفع الله الضر عنه، وكان دائم الدعاء لله؛ يقول تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }؛ ( الأنبياء:٨٣ ), فلم يُخَيِّب الله أمله، فحقق رجاءه، وشفاه الله وعافاه، وعوَّضه عما فقده.
**وأقول لكل عقيم لا تفقد الأمل ولا تيأس من رحمة الله وفيض عطائه , فهذه امرأة إبراهيم – عليه السلام- قد بشرتها الملائكة بالولد على كبر سنها ؛ وهذا ما أثار إعجابها قائلةً: { يَاوَيْلَتَى آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود: ٧٢ ) .
وهذا زكريا – عليه السلام – لم يفقد الأمل فدعا ربه فقال : { رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا }. (مريم: ٤ _٥) ؛ فجاءته الاستجابة الربانية العاجلة : { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا }. (مريم: ٧) , وعندما تساءل – عليه السلام- : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ الله يَفْعَلُ ما يَشاءُ } (آل عمران: ٤٠) جاءه الجواب: { كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا }. ( مريم : ٩) .
**وأقول لكل من ضاقت به السبل وضاق به الحال.
إن كنت في حالة من ضيق اليد فاعلم أن فقير اليوم قد يكون غني الغد , وغني اليوم قد يكون فقير الغد , والأيام دول يقول جل وعلا – : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.( فاطر ٢)
فيا أخي الحبيب :
سهِرَتْ أعينٌ ونامَتْ عُيُـونُ * في شُؤونٍ تكونُ أوْ لَا تكونُ
فاطْرَحِ الهَـمَّ مـا اسْتَطَعْتَ عن النَّفْـــس * فحمْـلَانك الهمـومَ جنـونُ
إنَّ رَبَّاً كفاك ما كان بالأمــس * سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ.. !
* فثقوا أحبتي في الله : بالله، وأمّلوا به، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل والأمل، ولا تكونوا معول هدم، ولا سببا في تقنيط الناس من رحمة الله، وابذروا الخير والأمل، واعملوا على تآلف القلوب واجتماع الصفوف، فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب والفتن والابتلاءات باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، يقول -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:٢١٦].
!! فعلينا إعداد النفس إعداداً جيداً لتنمو فيها بذور الأمل، ومن أهم هذا الإعداد الثقة في النفس، فلن تستشعر الأمل ما دمت لا تقدر نفسك وقدراتك:
إذا سمـاؤك يوماً تحجبت بالغيوم * أغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم..
والأرض حولك إذا ما توشحت بالثلوج * أغمض جفونك تبصر تحت الثلوج مروج..
أحبتي في الله :_
رغم وجود الشر هناك الخير، رغم وجود المشاكل هناك الحل، رغم وجود الفشل هناك النجاح، رغم قسوة الواقع هناك زهرة أمل،
فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية.
**
كتبه: كمال السيد محمود محمد المهدي إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية