موقف الدعاة من منابرهم في هذه الأيام
أ.د عبد الفتاح محمد خضر أستاذ الدراسات القرآنية بجامعة الأزهر رئيس الجمعية العلمية الأزهرية مدرب قديم لأئمة الأوقاف بالغربية |
موقف الدعاة من منابرهم في هذه الأيام |
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد فالداعية الحقيقي هو من يطابق كلامة مقتضى الحال من جميع حيثيات هذا الحال ، فإن كان في مناسبة سارة كان عليه أن يتكلم عما يسر النفس ويبهج الخاطر ويجلب السعادة ، وإن كان في مناسبة يعتريها الحزن فإنه يجب عليه أن يصّبر الناس فلا يجزعون مما حل بهم ، وهذا كله من باب مراعاة الحال ومطابقة الواقع . الحال الآن في مصر متغيره فمنا السعيد ومنا الحزين، ومنا الصابر ومنا الشاكر ، ومنا من تدمع عينه دمعا رطبا باردا لسعادته ، ومنا من ينزف دما بدلا من الدمع ، وعدم مراعاة الداعية لهذه الأمور ، أو معرفتها مع عدم إعطائها حقها من التدبر يعين أن خللا حل بالداعية . ـ والله تعالى لا يريد منا في الدعوة بصرا بل بصيرة قال تعالى :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)يوسف} أي : على حجة من الله ويقين. والمنابر لله ، والمساجد لله ، والداعية يجب أن يكون ربانيا ، لا انتماء له إلى بشر ، فالمساجد لله لقوله تعالى:” وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18){الجن} ـــ والدعوة يجب أن تكون لله وحده لقوله تعالى :” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125){النحل} ــ والداعية يجب أن يكون لله تعالى إذ أن سيده رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ــ قال له ربه :” قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163){الأنعام} وبناء على هذه المقدمات أقول : إن المنابر قد ثكلت بعض معتليها من العلماء لأنهم ابتعدوا عن منهج الوسط حيث مال إلى أطياف سياسية أو فكرية أو حركية فتأثر بذلك وانفعل على منبره وإذا به يفقد جمهوره إلا قليلا ، فمن الخطباء من انزله الجمهور من فوق منبره ، ومنهم من قام الجمهور بضربه ، ومنهم من تمت معارضته بل مهاجمته وهو على المنبر ، فإذا سألت عن سبب كل هذا كان الجواب : أن فضيلة الشيخ ينتمي إلى حزب كذا أو حركة كذا أو … أو … والله سبحانه يعار على المتحدث باسمه ان يكون لغيره ، لأنه اختار بكونه داعية أن لا يتقدم عنه أحد في الحسن أو الصدارة لقوله تعالى :” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33){فصلت} وليس من الحكمة في شيء أن يتم تحييز الدعوة أو شخصنتها أو دسها في الحركية البغيضة ، لأن كل هذا يجعل من الداعية داعية لحزب أو لطائفة أو لحركة ، وعندما يكون الداعية بهذا الوصف فإنه يخلع شرف كينونته لله رب العالمين . والمنابر في الآونة الأخيرة انقسمت واعتراها ما اعترى الشعب المصري من انقسامات أودت بمودته ، وأخوته ، وروحه السمحة . ــ من هنا كان الحمل ثقيلا على الدعاة ليضمدوا جراحات أحداث مصر . ــ والعجب كل العجب أن يتحول المنبر غلى مقال سياسي بامتياز ، وهنا يقع المحذور لماذا ؟ لأن السياسة حمالة أوجه ، وعين الموقف الذي يسعد هو هو الذي يحزن ويشقي ، فعندما يجنح الخطيب بمنبره وكلمته نحو السياسة الفجة ، فإنه يجب عليه أن يرضى بما يصوب تجاهه من طلقات النقض ولفحات شمس النقد . ــ لأن السياسة تعني الرأي والرأي الآخر ، والمنبر يعني السكوت لمسمع يترك المجال لمحدثه ، ومحدثه وحده ، فإذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت ومن لغى فلا جمعة له . المستمع جاء ساكتا صامتا مسقطا للفريضة ، وأنت صعدت المنبر وهمك أن تكون لله وحده فلا تشرك فيك مع الله غيرك . ـ إخواني الدعاة إنني أكرر مقولة الشيخ الغزالي في كتابه ” مع الله دراسة في الدعوة والدعاة ” وكتابه :” هموم داعية ” إننا لا نحتاج إلى ثورة شباب بقدر ما نحتاج غلى وضوح الفكرة ونبل الهدف وعمق التجربة ” ــ الوطن يحتاج الآن إلى داعية حاذق يكفكف دمعته ، ويروي غُلّته ، ويشفي علته . ـ الأخوة في خطر ، التعاون في خطر ، الصدق فينا في خطر ، العقيدة في خطر ، الوطن في أخطار والداعية هو المصلح ، فمن يصلح الملح إذا الملح فسد. أسأل الله تعالى أن يهبنا القوة لنقول كلمة الحق ، والوسطية لنأخذ بأيدي الناس برفق ، والحلم لنضع الأمور التى تشرذمت في أماكنها اللائقة .