موضوع خطبة الجمعة ” ترتيب الأولويات وأثره في حياة الأفراد والأمم ” بقلم : د . أسامة فخري الجندي
موضوع خطبة الجمعة ” ترتيب الأولويات وأثره في حياة الأفراد والأمم “.
بقلم : د . أسامة فخري الجندي
أولاً : العناصر:
1- ضرورة الترتيب حسب الأولويات والأهمية :
2- أولوية التعاون من أجل البناء :
3- أولوية التنمية والعمل الجاد :
4- أولوية الأمن والاستقرار والهدوء :
5- أولوية القيم الأخلاقية :
6- أولوية إتقان العمل :
7- أولوية الانتاج على الاستهلاك :
8- أولوية على الكيف على الكم :
9- أولوية التدرج والتأني :
10- أولوية تغليب المصلحة المستقبلية :
11- أولوية العمل في زمن الفتن :
ثانيًا : الأدلة :
من القرآن الكريم :
1- قال تعالى:”أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ([1]) .
2- وقال تعالى : “وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم ” ([2]) .
3- وقال تعالى : ” أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ” ([3]) .
4- وقال تعالى : “فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ([4])
5- وقال تعالى : “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب “([5]).
6- وقال تعالى : ” لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ” ([6]) .
7- وقال تعالى:”وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ” ([7])
8- وقال تعالى : ” ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ([8]) .
الأدلة من السنة :
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ” ([9]) .
2- كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول لأهل العراق : ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة ([10]) .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : ” إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ” ([11])
4- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ” ([12]) .
ثالثًا : النص :
ضرورة الترتيب حسب الأولويات والأهمية :
لقد جاء الإسلام بقوانين وضوابط تنظم حياة الإنسان باعتباره فردًا أو مجتمعًا أو أمة ، فجاء ليؤكد على ضرورة الترتيب بين الأشياء حسب أهميتها وأولويتها ، قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55], وقال أيضا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19]
وبناء على ذلك فقد أولى الإسلام الإنسان أهمية كبرى ، فجعل بناء الإنسان مقدّمًا على البنيان ، ومن ثمّ جاءت مقاصد الشريعة تحث على أولوية الحفاظ على الإنسان وهي : حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال ؛ لذا فترتيب الأولويات من أهم العوامل التي تعمل على حفاظ الإنسان .
فالإنسان على الحقيقة هو محلّ رعاية الشريعة التي أتت بتلك المقاصد ، فإن أول شيء يجب أن نحافظ عليه هو النفس ، فإنه إذا ضاعت النفسُ ضاع معها الدين والعقل وكل شيء . ([13])
إن أمتنا وبلا شك تعيش الآن فترة عصيبة من تاريخها ؛ حيث تتقاذفها الأمواج من كل الاتجاهات ، وتكاد تعصف بها تيارات كثيرة ، ومفاهيم مغلوطة ، وأفكار خاطئة ، بل وتتقلب في الكثير من الأزمات ، الأمر الذي يحول بينها وبين أي تقدم أو استقرار ، ولعل من أشد الأزمات التي نتعرض لها اليوم ، بل وهي أساس أزمات كثيرة أزمة عدم الوعي بالقضايا الجوهرية والمصيرية ، والاهتمام بقضايا بعيدة عن الواقع .
ومن هنا رأينا من يحرص على المفضول ويترك الأفضل ، ومن يحرص على بعض المستحبات ويُفرِّط في الفرائض والواجبات أو يتساهل في المحرمات ، الأمر الذي يستلزم المعرفة بفقه الأولويات وكيفية الموازنة بين المصالح والمفاسد والترجيح بينها إذا تعارضت .
لقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول لأهل العراق : ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة ([14])، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوضة .
والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم ، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه .
إذن لا بد وأن نرتب أولوياتنا ، فهناك مشكلات تتقلب فيها الأمة ، عليّ أن أرتبها بداية ، ثم أبحث عن حلول لها ، فهناك مشكلاتي الخاصة ، وهناك مشكلات أمتي ، وهناك مشكلات مجتمعي ، وهناك عدو يتربص بنا ، وهناك تخلف اقتصادي ، وهناك أزمة عمل ، وهناك الأمية ، وهناك الفقر ، هذه مشكلات كبيرة ، وهناك شباب إن لم نهتم بشؤونهم فنحن أمام قنبلة موقوتة ، فكل هذه المشكلات هي أولويات علينا أن نقوم بترتيبها ومحاول إيجاد حلول لها
أولوية التعاون من أجل البناء :
إن من أهم الأسباب التي تعوق أي استقرار أو تقدم أو على الأقل مواكبة التطور الذي لا يعرف توقفًا في عالمنا اليوم ((الضعف الداخلي للأمة)) ، وأقصد به : التفرق والاختلاف ، فلا بد هنا من أولوية لهذا الأمر ، والحث على الالتحام ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف .
نعم فالواقع مثلا يؤكد أن هناك اختلافات ، إذن فلنبحث كيف نتعاون ؟ فالتعاون حضارة ، التعاون فريضة ، التعاون بناء ، بل إن التعاون يحقق مقصدًا عظيمًا من المقاصد العليا للمكلِّف (الله) ، وهو مقصد العمارة ، يقول تعالى : ” هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ” ، والمعنى : أي طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها ، ولكن هنا يأتي السؤال : هل تتأتى هذه العمارة مع التحزب ؟ مع التفرق ؟ مع التعصب ؟ هل تتأتى هذه العمارة مع وجود الندين المتصارعين ؟ أم مع وجود الشقين المتكاملين ؟
إن الأصل الذي يحقق لنا هذه العمارة يتوقف على التعاون والتقارب ، لا الاختلاف والتقابل .
إنه إذا ساد التسامح بين الأفراد ، بمعنى أن يحب كل فرد للآخر ما يحبه لنفسه ، يتحقق المجتمع الإنساني المترابط الذي جاء الإسلام ليؤسس له .
إن الناس اليوم حينما يقرأون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يستحضرون إلا جانبًا واحدًا فقط في سيرته صلى الله عليه وسلم ، فلا يستحضرون إلا العبادة والاجتهاد في الطاعة والزهد والورع ، والشعائر ، وأنه لا يرد على ذهن سوى الجانب التعبدي وفقط ، وهذا في الحقيقة يعد اختزالاً واختصارًا للسيرة النبوية ، بل ويعد إهدارًا لجزء عظيم وكبير من مواريث النبوة ؛ وذلك لأن السيرة النبوية ليست عبادة وفقط ، بل بجوار ذلك هناك التصرفات النبوية في بناء شخصية كل إنسان منا ، في تهذيب النفوس وترشيد السلوك ، في عمارة الأرض وتنمية الحرف والمهن والصنائع …. وغير ذلك .
ومن هنا فإننا ندعوا كافة المسلمين إلى القراءة الجيدة في السيرة النبوية ؛ حتى يستخرجوا بأنفسهم طائفة كبيرة من تصرفات النبوة وأصحابه من بعده لتحقيق مقصد العمارة – والذي أصبح هذا المقصد وكأنه مهجور أو مهمل لا أحد يحاول استخراجه –
وإليك طائفة سريعة من هذه التصرفات النبوية لتحقيق مقصد العمارة في الأرض :
– ألم يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسل والرسائل إلى ملوك الدول المختلفة ، وهذا ما نسميه بمصطلحنا المعاصر ( نشاط دبلوماسي ، أو العلاقات الدولية الخارجية )؟.
– ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضًا من أصحابه يقومون بواجب القضاء ، وهذا ما نسميه بمصطلحنا المعاصر ( المؤسسة القضائية ) ؟
– ألم يستشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غزواته ، وهذا ما نسميه بمصطلحنا المعاصر ( التخطيط والإدارة العسكرية ) ؟ .
– ألم يأمر صلى الله عليه وسلم بعمارة المساجد ؟ وعمارة المساجد هذه تحتاج إلى بنّائين ، وتحتاج إلى أناس يصنعون الأسقف ، وإلى من يجلب المؤن التي تمكّن من البناء .
– إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علّم أصحابه مهنًا وحرفًا وصنائع ينبني بها المجتمع وتعمر بها حركة الحياة .
أولوية التنمية والعمل الجاد :
ومن هنا رأينا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبتكر ابتكارًا على ضوء ما فهمه من المنهج النبوي ؛ ليحقق العمارة في الأرض ، فنراه أول من دوّن الدواوين ، وأول من اتخذ العسس ( الشرطة ) ليحقق الأمن والأمان ، وأول من مصّر الأمصار ، أي استحدثها أو أقام بها مجتمعات عمرانية .
فسيدنا عمر مثلاً كنموذج سار على منهج نبيّنا ليُعَمِّرَ الأرض ، فكان يقوم مثلاً بكتابة الناس على قبائلهم لتوزيع الفيء ، وحتى يقوم بذلك انظر ماذا فعل ؟
لقد جنّد بعضًا من أصحابه في وظائف عديدة ، منها : جنّد بعضًا منهم يطوفون على كل قبيلة من قبائل العرب ويكتبون عدد هذه القبائل ، هذه القبيلة مثلاً بها ألف ، هذه القبيلة بها خمسمائة ، وهكذا ، ويمكن أن تسمى هذه الوظيفة بمؤسسات الإحصاء . ثم جنّد عمر رضي الله عنه بعضًا آخر لحصر الموارد المالية للدولة ، ومعرفة متوسط دخل الفرد الذي يستطيع أن يعيش عليه ، ثم جنّد بعضًا آخر لوظيفة ثالثة وهي التوزيع ووضع المال في مواضعه ([15]).
إذن أصبح أمام سيدنا عمر قوائم واضحة بأسماء قبائل العرب وعدد الأفراد بها ، ومتوسط دخل الفرد وقاعدة بيانات بذلك . ولكن ما الذي سيستفيده عمر من ذلك ؟ سيستفيد من ذلك كيفية إدارة الدولة على المنهج النبوي ، فهذه القبيلة مثلاً بها كذا مائة ، فيرسل لها عمر العطاء والرواتب التي تناسبهم من غير خلل ، فلا يرسل بعشوائية من غير إحصاء ، ولا يرسل أقل من العدد الذي أمامه ، ولا أكثر من ذلك ، لماذا ؟ لأنه إن أرسل أقل من العدد فسوف تضيق الأرزاق ويتقاتل الناس وينهار المجتمع ، وإن أرسل أكثر من العدد فهذا إهدار للمال . فسيدنا عمر هنا أقام مهنًا وحرفًا في المجتمع شغّلها وحرّكها ليحقق العمارة في الأرض .
إن أحد العلماء المسلمين حينما سئل مرة عن تصميم مستشفى : بماذا تنصحنا ؟ فكانت النصيحة منه أن يأخذوا أربع قطع من اللحم ، وينتشروا بها في أنحاء البلد ، في أقصى الشمال ، وفي أقصى الشرق ، والغرب ، والجنوب ، ثم ينظروا إلى أيها يتسارع الفساد أولاً فلا تبنوا فيها ، وكأنه قد تبيّن بهذه التجربة المبسطة أن المنطقة التي سارع فيها الفساد والتعفّن إلى قطعة اللحم جوّها وخيم ، ضار بالمريض ، لا يتجدد بها الهواء حتى يحدث إنعاش نفسية المريض ، وهكذا كان يفعلون في تأسيس مستشفى فكيف ببناء دولة ؟
إننا نحتاج إلى سعي حثيث لعمارة الأرض ، وهذه العمارة لن تتحقق إلا بالتعاون ، هل يمكن لبناء واحد أن يستوعبه فرد واحد ؟ مستحيل . لو أنك أردت أن تبني بناءًا لك ، فأنت تحتاج أولاً إلى المهندس الذي يرفع لك مساحة الأرض ويرسمها ، ثم تحتاج إلى الحافر الذي يحفر لك الأرض ، ثم تحتاج إلى من يصنع لك الأساس ، ومن يضع الحديد ، ومن قبله تحتاج إلى من يصنع الحديد ، ثم تحتاج إلى إلى مني قيم لك البناء ، ثم بعد ذلك إلى من يقيم بالأعمال الصحية والكهربائية ، وهكذا ، إذن فقد تعاونت طاقات كثيرة لبناء واحد .
فالتعاون إذن أمر ضروري للاستخلاف في الحياة ، ومادام الاستخلاف في الحياة يقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة ، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحًا ، ولذلك يقول الله تعالى : ” وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ” سورة المائدة (2) .
إن الأمة اليوم مليئة بالطاقات والخبرات ، وهي فقط تحتاج إلى تنظيم الجهود ، إن الهنود يوم أن احتلهم الإنجليز ، قيل لهم : ” لو أن ملايينكم ذباب يطنّ في آذان الإنجليز لخرقتم آذانهم ” . إذن يجب أن نعمل وأن نبذل ما في وسعنا لنرقى بالأمة ، وهذا لا يكون إلا بالتعاون على التقاء الصفوف وتجميع الطاقات ، وتنظيم الجهود ، وكلمة واحدة ، فنصل – إن شاء الله تعالى – إلى العمارة في الأرض .
إننا إذا جاوزنا بحدود بصرنا الغلاف الجسدي الذي نعيش فيه ، سنجد أن هذا الجسد يتكون من أعضاء كثيرة ، والسؤال : هل هذه الأعضاء متساوية في الطول ؟ هل هذه الأعضاء متساوية في الحاجة ؟ هل هذه الأعضاء متساوية في الوظيفة ؟ هل هذه الأعضاء متساوية في درجة الحرارة ؟ وهكذا سل ما شئت لن تجد الإجابة إلا ( بلا ) ولكن بالرغم من هذا الاختلاف انسجمت فيما بينها واتسقت وكونت لنا جسدا واحدا … هذا هو المعنى الذي أراد رسول الله أن يحققه .. فعلينا أن نحقق مراد رسول الله فينا .
أولوية الأمن والاستقرار والهدوء :
لقد ترتب على ذلك الاختلاف القائم بين الناس عدم الشعور بالأمان والاستقرار ، إننا إذا نظرنا بشيء من العمق في كلام الله عز وجل ، سنجد أن الله عز وجل قد وصف بقاعًا ثلاثة في القرآن الكريم بأنها أمان ، أولًا : الجنة : ” ادخلوها بسلام آمنين “، ثانيا : الحرم الشريف بمكة : ” لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ” ، ثالثا : مصر : ” ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ” ، والسؤال : كيف نستطيع أن نحقق الأمن والأمان ؟
نعود إلى آيات الجنة في قول الله تعالى : ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ” . قال ربنا بعدها : ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِل ” ، وكأن الله عز وجل يعطينا حيثيات الأمان والأمن … وهي نزع بواعث الكراهية والغل والبغض والحقد ، فعلينا إذا أردنا أن نعيش الأمن والاستقرار والهدوء ، ومن ثم ننطلق إلى مرحلة البناء وعدم المعوِّقات لذلك البناء أن نصفي بواعث النفس من تلك الأخلاق المذمومة فتنعكس المحبة بيننا جميعا ، وعندها يحدث التعاون للبناء إن شاء الله .
أليست هذه من أولويات تحقيق الأمن والاستقرار ، ومن ثم التعاون للبناء الذي نرجوه جميعا ، ومن ثم تقدمًا وتطورًا نواكب به الواقع المتغير في عصرنا ، ونجد مكانًا لنا بين الدول المتقدمة ، لا سيما ونحن أمة الإسلام .
أولوية القيم الأخلاقية :
إن من بين الأزمات التي نعيشها اليوم : ( الأزمة الأخلاقية ) ، فنجد مَنْ يبذر بذور الفتنة ، ويفرق بين أفراد الأمة ، ويمشي بالنميمة ، والغيبة ، والخوض في أعراض الغير ، ونجد مَنْ يقوم بتشويه الآخر بتركيب الكلمات أو تركيب الصور أو استقطاع كلمات معينة بقصد التشويه والإساءة ، وكذلك استخدام ألوان السباب المختلفة لشتم الأبرياء ، كل هذا يؤدي نهاية إلى الإساءة لشرف وسُمعة الغير .
الأمر الذي جعلنا نجد أنفسنا أمام كتائب وفِرق ولواءات يسفّهون الآخرين ، يروّجون لكثير من الأكاذيب ، يقومون بالغش والخداع والتحايل ، يبذرون بذور الفتنة ، يدسون السموم في الخفاء ، يدخلون من الأبواب الخلفية ، يضربون اللُّحمة الوطنية … إلى غير ذلك . وهل مثل تلك الأخلاق هي ما دعا إليه الإسلام ؟ فأين أمانة الكلمة ؟ وأين حفظ اللسان ؟ وأين النهي عن الإسراف في لحظات العمر باستقطاعها فقط لذم فلان والكذب على آخر وغش ثالث وخداع رابع ؟
أليس من الأولويات أن نعود أدراجنا إلى ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤسس له ، لقد جاء الإسلام ليؤسس وليؤصل لبناء أخلاقي في المقام الأول ، جاء ليحقق إنسانية الإنسان ، جاء ليؤكد على أن الإنسان ينبغي أن يعيش مادية الأرض بقيم السماء ، جاء الإسلام يدعوا إلى المحبة والمودة ، والتعاون والتآلف ، والتعاطف والتآخي ، ومعلوم أن بناء الأمم يرتبط ارتباطا وثيقا بالبناء الأخلاقي ، وأن انهيار الأمم يرتبط أيضا ارتباطا وثيقا بانهيار الأخلاق ، فأمة بلا أخلاق ماذا ننتظر منها ؟
فكل من يبذر بذور الفتنة ، ويفرق بين أفراد الأمة ، ويمشي بالنميمة ، والغيبة ، والخوض في أعراض الغير ، كأنه يمسك بيده معول (فأس) يهدم به البنيان الذي جاء الإسلام ليقيمه ، وكأنه ينسف الإنسان قِيَمًا وأخلاقًا ورُوحًا ….
إذا كانت الحروب والأزمات والكوارث تستهدف الإنسان بأسلحتها الفتاكة ، فإنما تستهدف الإنسان كجسد … لكن هناك حربًا أخرى أشد فتكا وهي حرب الشائعات والفتن وضرب التلاحم الإنساني الذي أراده الإسلام ….. إنها حرب تستهدف الإنسان لا كجسد وإنما كقيم وكروح , ونحن نعلم أن الإنسان لا يقاس أبدًا بطول قامته ، أو بقوة عضلاته ، أو بجمال صورته ، وإنما يقاس بقلبه وعقله .
نعم ،،، لقد وصلنا إلى مرحلة خطيرة من تاريخ الأمة ، وجدنا فيها شقًّا للصف ، نسفًا للقيم والأخلاق ، الأمر الذي يحتم علينا أن نرتب أولوياتنا ونعمل على الانتقال من التفرقة للوحدة ، وأن نحقق تزكية النفس عما كان مذمومًا إلى ما كان محمودًا من الأخلاق ، فالمجتمع المتوازن هو ذلك المجتمع الذي ينتشر فيه الوعي بالقيم . فالقيم الأخلاقية هي الركيزة الأساسية التي لا غنى عنها للتنمية في جميع مجالات الحياة ، وعلى هذا الأساس الأخلاقي تنبني كل الجهود التنموية الأخرى وبدون هذا الأساس لا يمكن أن يثبت أي بناء ” ([16]) .
إن من أهم الأولويات الآن أن نجعل تعاليم الإسلام حاضرة بين المسلمين ، بأن نصحح الفهم لها ، فالغربة في الإسلام اليوم أن تكون تعاليم الدين غريبة في نظر الناس ، وأن يفهموها فهماً خاطئاً ، وأن يتصوروا أن هذه التعاليم مصدر شقاء وتعاسة لهم لا مصدر سعادة وعز ومجد ، ولا يمكن أن تكون ملموسة واضحة لدى بعض الشباب المسلم ، وهي ضعف القيم والمبادئ الدينية في نفوسهم ” ([17]) .
أولوية إتقان العمل :
وصورة أخرى من الفساد الأخلاقي ، حين نجد البعض يجأر بالشكوى من صنعة ما ، إن كل إنسان إذا أحسن في صنعته للآخر ، فهل سنجد شكوى ؟
إذن سبيل ذلك هو إتقان الصناعات ، فأنا احسن في صنعتي لغيري ، وغيري يحسن في صنعته لي ، وهكذا ، فتتمايز صناعتنا ، ونتقدم اقتصاديًّا .
إن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم توضأ ذات يوم من قعب (إناء ماء توضأ منه ) فضلت فيه فضلة ، فقال : ردّوها في النهر ، ينفع الله بها قوماً آخرين .
وقف صلى الله عليه وسلم أمام قبر ، الذي حفر القبر ما أتقنه ، قال له : إن هذا لا يؤذي الميت ، ولكنه يؤذي الحي .. ” إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ” ([18]).
أولوية الانتاج على الاستهلاك :
ثم إن الأمة القوية هي التي تكون منتجة وليست مستهلكة ، ونحن وصلنا إلى حد طغى فيه الاستهلاك على الإنتاج ، ومن الأولويات هنا أن نفكر ، أن نبتكر ، أن نتدافع لننتج ، للنظر إلى هذه اللقطة الرائعة جداً عن سيدنا عمر رضي الله عنه ، حين دخل إلى قرية فرأى معظم الفعاليات فيها من غير المسلمين ، فعنَّفهم تعنيفاً شديداً ، قالوا : قد سخرهم الله لنا ، فقال سيدنا عمر : كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟ هذا الخليفة العملاق أدرك قبل ألف وأربعمائة عام أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف .
إنه قمة التوجيه حتى لا نكون عبيدًا لغيرنا ، فيتصرفون في عقولنا وأموالنا ، علينا أن نتحرك ونسعى ونعمل ونجتهد ونجد ؛ حتى تتمايز صناعتنا ، ونصل إلى حد الكفاية إن شاء الله تعالى .
أولوية على الكيف على الكم :
إن العبرة دائما ليست بالكثرة العددية وفقط ، وإنما العبرة بنوعية هذا العدد ومدى صلاحه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يباهي الأمم مثلا بالجهلة أو الظالمين أو الفاسقين ، وإنما بالصالحين العاملين النافعين ، فنحن لا نريد كثرة وتكون كغثاء السيل ، وإنما نريد الكثرة المتقنة العاملة الملتزمة بالأوامر والنواهي الإلهية .
إن المسلمين حين نظروا للكم ( العدد ) وغرّهم عددهم في غزوة حنين ، وأهملوا الإعداد الجيد الذي يتناسب مع غزوة عسكرية ، وكذلك أهملوا القوة الروحية ، دارت عليهم الدائرة أولا ؛ ليتعلموا وينتبهوا للجوهر وهو الكيف ، ففتح الله عليهم بالنصر ، يقول تعالى : ” وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ” التوبة (25-26) .
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب يرسل إليه عمرو بن العاص أثناء فتح مصر يطلب منه المدد ، وكان عمرو بن العاص معه أربعة آلاف جندي فقط ، وسيواجه مائة وعشرين ألفًا من جيش الرومان ، فيرسل له عمر بن الخطاب أربعة آلاف آخرين ، وعلى رأس كل ألف واحد بألف ، واعتبر المجموع اثنى عشر ألفًا ، ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة ، وبالفعل انتصروا على جيوش الرومان وفتحوا مصر ([19]) ، فالعبرة إذن والاهتمام كان بنوع الرجال وقدراتهم ومواهبهم وليس بالعدد ولا بالحجم ؛ لذلك علينا أن نولي شبابنا الاهتمام بالتربية الراشدة ؛ ليكونوا أولاً صالحين في أنفسهم ، ومن ثم صالحين لمجتمعهم . فالمدار إذن على الإيمان والإرادة وليس العدد والكثرة .
أولوية التدرج والتأني :
كثيرًا ما نسمع الآن : فلان يريد كذا ، وهذا يريد كذا ، وهكذا ، وهو يريد أمورًا على الفور ، ونسي أن الأمور لا بد لها من وضع خطة ، وتعيين مراحل لها ، فلا بد من التخطيط والتنظيم ، وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة في الجاهلية إلى حياة إسلامية ، ولعله هنا نذكر موقفًا رائعا لعمر بن عبد العزيز في التأني ؛ حيث أن ابنه عبد الملك قال له ابنه يومًا : مالك لا تنفذ الأمور ؟ ! فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق .
يريد الشاب التقي المتحمس من أبيه وقد ولاه الله إمارة المؤمنين أن يقضي على المظالم وآثار الفساد دفعة واحدة ـ دون تريث ولا أناة ، وليكن بعد ذلك ما يكون ! فماذا كان جواب الأب الصالح ، والخليفة الراشد ، والفقيه المجتهد ؟
(قال عمر: لا تعجل يا بني ، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين ، وحرمها في الثالثة وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من ذا فتنة) ([20]) .
يريد الخليفة الراشد أن يعالج الأمور بحكمة وتدرج ، مهتديًا بمنهج الله تعالى الذي حرم الخمر على عباده بالتدريج ، وانظر إلى تعليله المصلحي الرصين ، الذي يدل على مدى عمقه في فقه الأولويات : إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة ، فيدفعوه جملة ، ويكون من هذا فتنة .
أولوية تغليب المصلحة المستقبلية :
وهذه نراها بوضوح في صلح الحديبية ؛ حيث غلّب رسول الله صلى الله عليه وسلم المصلحة المستقبلية على المصالح الشكلية ، فقبل من الشروط ما قد يُظن منها للوهلة الأولى أن فيه إجحافًا للمسلمين أو رضاهم بالدون ، ورضي رسول الله أن يحذف الوصف الملاصق لاسمه ( رسول الله ) ، وكذلك أن تحذف البسملة من وثيقة الصلح ، ولكن ماذا كسب رسول الله من وراء ذلك ؟
لقد استطاع رسول الله من خلال هذه (الهدنة) أن يتفرغ لنشر الدعوة ، وأن يرسل الرسل للدول والملوك يدعوهم للإسلام ، وجاء نصر بعد نصر ، وفتح وبعد فتح ، فكان فتح خيبر ومن بعده بقليل الفتح المبين لمكة ، وهكذا بفكر رشيد يضرب لنا رسول الله نموذجًا في تغليب المصلحة المستقبلية .. فأين العقول الواعية التي تفكر للمصلحة العليا للأمة ؟؟!!
أولوية العمل في زمن الفتن :
إن من الأولويات المطلوبة إذا ما كان هناك زمان فيه الفتن والشدائد والمِحن (( العمل والسعي )) ، وهذا لا يقوم به إلا من كان قوي الإيمان ، قوي الثبات ؛ لأن العمل في مثل ذلك الزمان أشد من الحاجة إليه في سائر الأزمان الأخرى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ” ([21]) .
بقلم : د . أسامة فخري الجندي
([1])سورة التوبة : الآيات (19-20).
([2])سورة الزمر : الآية (55).
([3])سورة الأحقاف : الآية (16).
([4])سورة الزمر : الآيات (17-18).
([5])سورة الزمر : الآية (9).
([6])سورة النساء : الآيات (95-96).
([7])سورة فاطر : الآيات (19-22) .
([8])سورة فاطر : الآية (32) .
([9])أخرجه مسلم في باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها : (1/63) ، والترمذي في سننه ، باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه : (5/10) ، وأحمد في المسند : (1/414) ، .
([10])أخرجه مسلم : (4/2228) ، تفسير القرطبي (13/261) .
([11]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني في المعجم الأوسط .
([12])أخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد .
([13])وقال الإمام ، د/ علي جمعة ، طـ 1 / 2010م ، دار الوابل الصَّيب – القاهرة : ص (98) .
([14])أخرجه مسلم : (4/2228) ، تفسير القرطبي (13/261) .
([15])انظر في ذلك : أوليات عمر بن الخطاب ، وهو مؤلف رائع ماتع .
([16])قيم منسية ، د/ محمود حمدي زقزوق ، 1422هـ/2001 ، العدد (80) ، طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية : المقدمة ص (4) .
([17])حوار الحضارات ( المصدر السابق) : ص (126) .
([18]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني في المعجم الأوسط .
([19])انظر : كتاب عندما دخلت مصر في دين الله ، د / محمد عمارة .
([20])الموافقات ، للشاطبي ، تحقيق : عبد الله دراز ، دار المعرفة – بيروت : (2/94) .
([21])أخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد .