أخبار مهمةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة خطبة الأسبوع ، خطبة الجمعة القادمة، خطبة الاسبوع، خطبة الجمعة وزارة الأوقافعاجل

خطبة بعنوان: “المواطنة والانتماء حقوق وواجبات”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 27 من شوال 1438هـ الموافق 21 من يوليو 2017م

خطبة بعنوان: “المواطنة والانتماء حقوق وواجبات“، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 27 من شوال 1438هـ الموافق 21 من يوليو 2017م.

لتحميل الخطبة بصيغة word  أضغط هنا.

لتحميل الخطبة بصيغة  pdf أضغط هنا.

 

ولقراءة الخطبة كما يلي: 

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: حب الوطن والانتماء إليه غريزة فطرية

العنصر الثاني: المواطنة حقوق وواجبات

العنصر الثالث: الوفاء والتضحية من أجل الوطن

العنصر الرابع: واجبنا نحو غير المسلمين من السائحين والزائرين والمقيمين

المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: حب الوطن والانتماء إليه غريزة فطرية

عباد الله: إن حب الوطن غريزة فطرية في الإنسان، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، حتى الحيوانات لا ترضى بغير وطنها بديلاً، ومن أجله تضحي بكل غالٍ ونفيس، والطيور تعيش في عشها في سعادة ولا ترضى بغيره ولو كان من حرير، والسمك يقطع آلاف الأميال متنقلاً عبر البحار والمحيطات ثم يعود إلى وطنه، وهذه النملة الصغيرة تخرج من بيتها ووطنها فتقطع الفيافي والقفار وتصعد على الصخور وتمشي على الرمال تبحث عن رزقها، ثم تعود إلى بيتها، بل إن بعض المخلوقات إذا تم نقلها عن موطنها الأصلي فإنها تموت، ولذا يقول الأصمعي:” ثلاث خصال في ثلاثة أصناف من الحيوانات: الإبل تحن إلى أوطانها وإن كان عهدها بها بعيدًا، والطير إلى وكره وإن كان موضعه مجدبًا، والإنسان إلى وطنه وإن كان غيره أكثر نفعًا”. وقد روي في ذلك أن مالك بن فهم خرج من السراة ( بلدة بالحجاز) يريد عمان، قد توسط الطريق، حنت إبله إلى مراعيها، وقبلت تلتفت إلى نحو السراة وتردد الحنين؛ فقال مالك في ذلك:

تحن إلى أوطانهـــــــــــا إبل مالك … ومن دونهــــــــــــــــــا عرض الفلا والدكادك

وفي كل أرض للفتى متقـــــــــــــــلب … ولست بدار الذل طوعا برامـــــــــــــــــــــــــــك

ستغنيك عن أرض الحجاز مشارب … رحاب النواحي واضحات المسالك

 فإذا كانت هذه سنة الله في المخلوقات فقد جعلها الله في فطرة الإنسان، وإلا فما الذي يجعل الإنسان الذي يعيش في المناطق شديدة الحرارة، والتي قد تصل إلى ستين درجة مئوية، وذلك الذي يعيش في القطب المتجمد الشمالي تحت البرد القارص، أو ذلك الذي يعيش في الغابات والأدغال يعاني من مخاطر الحياة كل يوم، ما الذي جعلهم يتحملون كل ذلك إلا حبهم لوطنهم وديارهم؟!!

لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه؛ وهذا ما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يترك مكة تركًا مؤقتًا؛ فعن عبد الله بن عدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: “وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ” ( الترمذي وحسنه).

فما أروعَها من كلمات! كلمات قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميق، وانتماءٍ صادقٍ؛ وتعلُّق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا.

إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد. قال الغزالي: “والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص”.

وها هو الخليل ابراهيم عليه السلام حين ترك زوجته هاجر وابنه اسماعيل عليه السلام فى مكة المكرمة وهى واد قاحل غير ذى زرع دعا ربه أن ييسر لهم أسباب الاستقرار ووسائل عمارة الديار ؛ فقَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمِ-:{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}( إبراهيم: 37). وهذا كليم الله موسى عليه السلام حنّ إلى وطنه بعد أن خرج منها مجبراً؛ قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.(القصص: 29)؛ قال ابن العربي في أحكام القرآن: ” قال علماؤنا: لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر. ويقول: لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة”.

وها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: لما أخبر ورقة بن نوفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومه ـ وهم قريش ـ مخرجوه من مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوَمخرجِيَّ هم؟!) قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزَّرا. قال السهيلي رحمه الله: “يؤخذ منه شدّة مفارقة الوطن على النفس؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحرّكت نفسه لحبّ الوطن وإلفه، فقال: (أوَمخرجِيَّ هم؟!

قال الحافظ الذهبي : وهو من العلماء المدقِّقين – مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه”.

ولتعلق النبي – صلى الله عليه وسلم – بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه؛ دعا ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال: ” اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ”. (البخاري ومسلم.)

وقد استجاب الله دعاءه، فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظيمًا، وكان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها التي تدلُّ على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: “كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقتَه – أي: أسرع بها – وإن كانت دابة حرَّكَها”، قال أبو عبدالله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: “حركها من حبِّها”. (البخاري.)

ومع كل هذا الحب للمدينة لم يستطع أن ينسى حب مكة لحظة واحدة؛ لأن نفسه وعقله وخاطره في شغل دائم وتفكير مستمر في حبها؛ فقد أخرج الأزرقي في “أخبار مكة” عن ابن شهاب قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدخل على عائشة -رضي الله عنها- فقالت له: يا أصيل: كيف عهدت مكة؟! قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي، فلم يلبث أن دخل النبي، فقال له: “يا أصيل: كيف عهدت مكة؟!”، قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، فقال: “حسبك -يا أصيل- لا تحزنا”. وفي رواية أخرى قال: “ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها”.

أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله: “يا أصيل: دع القلوب تقر”، فإن ذكر بلده الحبيب -الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه- أمامه يثير لواعج شوقه، ويذكي جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب الأثير العزيز!!

أرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا يحاولون تخفيف حدة شوقهم وإطفاء لظى حنينهم إلى وطنهم بالأبيات الرقيقة المرققة التي تذكرهم بمعالم وطنهم من الوديان والموارد والجبال! ولما كان الخروج من الوطن قاسيًا على النفس، صعبًا عليها، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله، فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن، ما يدل على أن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس، وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}. [الحشر: 8].

أيها المسلمون: إن تراب الوطن الذي نعيش عليه له الفضل علينا في جميع مجالات حياتنا الاقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية؛ بل إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يستخدم تراب وطنه في الرقية والعلاج؛ فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: ” باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا”. ( البخاري ومسلم.)

والشفاء في شم المحبوب، ومن ألوان الدواء لقاءُ المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره!! ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟! قال الجاحظ: ” كانت العرب إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع.”(الرسائل).

وهكذا يظهر لنا بجلاء فضيلة وأهمية حب الوطن والانتماء والحنين إليه في الإسلام.

العنصر الثاني: المواطنة حقوق وواجبات

عباد الله: إن المواطنة بمفهومها الحقيقي تقتضي أن هناك حقوقاً وواجباتٍ بين المواطن ووطنه ؛ تقتضي مجموعة من الحقوق للمواطن الذي يعيش على أرض الوطن تتمثل في الحرية والكرامة والمساواة والعدل والتعليم والرعاية وغير ذلك من الحقوق التي يشترك فيها جميع المواطنين الذين يعيشون على أرض الوطن على اختلاف عقائدهم وديانتهم وثقافتهم .

وفي مقابل هذه الحقوق على المواطن واجبات عديدة تجاه وطنه من أهمها :

– تربية الأبناء على استشعار ما للوطن من أفضالٍ سابقةٍ ولاحقة عليه – بعد فضل الله سبحانه وتعالى – منذ نعومة أظفاره ، ومن ثم تربيته على رد الجميل ، ومجازاة الإحسان بالإحسان؛ لاسيما أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد إليه كما في قوله تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ } ( الرحمن :60 ) .

– الحرص على مد جسور المحبة والمودة مع أبناء الوطن في أي مكانٍ منه؛ لإيجاد جوٍ من التآلف والتآخي والتآزر بين أعضائه الذين يمثلون في مجموعهم جسداً واحداً مُتماسكاً في مواجهة الظروف المختلفة .

– غرس حب الانتماء الإيجابي للوطن ، وتوضيح معنى ذلك الحب ، وبيان كيفيته المُثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت ، والمدرسة ، والمسجد، والنادي ، ومكان العمل ، وعبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءةً أو مسموعةً أو مرئيةً .

– العمل على أن تكون حياة الإنسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمةً على أرض الوطن ، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلا عندما يُدرك كل فردٍ فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام ؛ فالحب الصادق للأوطان واجبات ومسؤوليات يجب علينا أن نترجمها على أرض الواقع؛ وهذا مكلف به الجميع كل حسب استطاعته ووسعه وما في مقدوره.

– تربية أبناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومُكتسباته التي من حق الجميع أن ينعُم بها وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص .

– الإسهام الفعال والإيجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته سواءٌ كان ذلك الإسهام قولياً أو عملياً أو فكرياً ، وفي أي مجالٍ أو ميدان ؛ لأن ذلك واجب الجميع ؛ وهو أمرٌ يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي .

– التصدي لكل أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن ، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة .

– الدفاع عن الوطن عند الحاجة إلى ذلك بالقول أو العمل؛ جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل أن يحيى من أجل هذا الوطن!!

العنصر الثالث: الوفاء والتضحية من أجل الوطن

عباد الله: إن المسلم الحقيقي يكون وفيًّا أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محبًّا أشد ما يكون الحب له، مستعدًا للتضحية دائمًا في سبيله بنفسه ونفيسه، ورخيصه وغاليه، فحبه لوطنه حب طبيعي مفطور عليه، حب أجل وأسمى من أن ترتقي إليه شبهة أو شك، حب تدعو إليه الفطرة، وترحب به العقيدة، وتؤيده السنة، وتجمع عليه خيار الأمة؛ فيا له من حب!

قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ (الحر) حين ينتعل كل شيء ظله؟! قال: “يمشي أحدنا ميلاً، فيرفض عرقًا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى”. أي حب هذا وهو يلاقي ما يلاقي!! إنه يقول: أنا في وطني بهذه الحالة مَلِكٌ مثل كسرى في إيوانه.

إن المواطنة الحقة قيم ومبادئ وإحساس ونصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وعزة وموالاة وتضحية وإيثار والتزام أخلاقي للفرد والأمة، إنها شعور بالشوق إلى الوطن حتى وإن كان لا يعيش الفرد في مرابعه كما قال شوقي:

وطني لو شغلت بالخلد عنه *** نازعتني إليه بالخلد نفسي

فأين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن والوطنية ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة!!

 أين الوفاء للأرض التي عاشوا فيها وأكلوا من خيراتها، وترعرعوا في رباها، واستظلوا تحت سماها، وكانت أرض الإيمان والتوحيد والعقيدة الصافية!!

عباد الله : يجب على كل مسلم أن يحب وطنه، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه؛ فحب الوطن والدفاع عنه لا يحتاج لمساومة؛ ولا يحتاج لمزايدة؛ ولا يحتاج لشعارات رنانة؛ ولا يحتاج لآلاف الكلمات؛ أفعالنا تشير إلى حبنا، حركاتنا تدل عليه؛ حروفنا وكلماتنا تنساب إليه، أصواتنا تنطق به؛ آمالنا تتجه إليه، طموحاتنا ترتبط به، لأجل أرض وأوطان راقت الدماء؛ لأجل أرض وأوطان تشردت أمم، لأجل أرض وأوطان تحملت الشعوب ألواناً من العذاب؛ لأجل أن نكون منها وبها ولها؛ وإليها مطالبون أينما كنا أن نحافظ عليها !!

حب الوطن والتضحية من أجله هو واقع يستحق أن نعمل بحب وتفان من أجل المحافظة عليه لأنه أثمن ما في وجودنا وانتمائنا، فالوطن هو التاريخ والحضارة والتراث، وهو الذي سكن جسدنا وروحنا وذاكرتنا، ومن أجله وخاصة في هذه الفترة العصيبة نحتاج إلى العمل من دون مقابل، لأن الوطن فوق كل شيء.

بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي …………… يُمَجِّدُهَا  قَلْبِي  وَيَدْعُو  لَهَا  فَمِي

يروى أنه عندما تقدم نابليون نحو الأراضي الروسية بقصد احتلالها، صادف فلاحا يعمل بمنجله في أحد الحقول، فسأله عن أقرب الطرق المؤدية إلى إحدى البلدان بعد أن أعلن له عن شخصيته، فقال له الفلاح ساخرا: «ومن نابليون هذا ؟!.. إنني لا أعرفه!». فقال نابليون غاضبا: «سوف أجعلك تعرف من أنا». ثم نادى أحد الضباط وأمره بأن يسخن قطعة من المعدن على هيئة حرف «N» الذي يبدأ به اسم نابليون حتى درجة الاحمرار ثم يلصقها بذراعه اليسرى. وبعد أن تم لنابليون ما أراد، هوى الفلاح بالمنجل على ذراعه من عند الرسغ وقطعها، وقال لنابليون والدم ينزف منه: «خير لي أن أموت أو أحيا بذراع واحدة من أن أعيش بجسم تلوث بالحرف الأول من اسمك.. إنني وما أملك لبلادي».

ذهل نابليون من رد فعل هذا الفلاح، فصاح في جنوده أن يحضروا الزيت، ويقوموا بغليه، ويغمروا البقية الباقية من يده فيه، لإيقاف النزيف، قائلا لهم: «حرام أن يموت رجل يملك هذه الشجاعة وهذه الوطنية»، لكنهم إلى أن أحضروا الزيت وقاموا بغليه كان الفلاح قد نزف دما كثيرا، وما هي إلا دقائق حتى لفظ أنفاسه.

وحزن نابليون عليه حزنا شديدا لدرجة أنه أمر بحفر قبر له يدفن فيه، ومكث في المكان نفسه عدة أيام، وقبل أن يغادر وضع قبعته الشخصية على القبر وتركها تكريما وتقديرا لذلك الفلاح الجريء؛ وأمر قواته بأن تتجاوز تلك القرية ولا تدخلها أبدا.

فأين نحن من تضحياتنا لوطننا؟ فالتضحية من أجل الوطن ليست مقتصرة على مواجهة العدو والموت في سبيل الوطن ورفع الشعارات؛ أين هؤلاء الذين يدّعون حب الوطن والوطنية وهم من ذلك براء؟! ولا ترى في أعمالهم وسلوكياتهم وكلامهم غير الخيانة والعبث بمقدراته، والعمالة لأعدائه، وتأجيج الفتن والصراعات بين أبنائه، ونشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة!!

أحبتي في الله: إن واجبنا نحو التضحية من أجل وطننا أن يضحي كل فرد في المجتمع بحسب عمله ومسئوليته؛ فيضحي الطبيب من أجل حياة المريض؛ ويضحي المعلم من أجل تعليم وتنشئة الأولاد؛ ويضحي المهندس من أجل عمارة الوطن؛ ويضحي القاضي من أجل إقامة وتحقيق العدل؛ ويضحي الداعية من أجل نشر الوعي والفكر الصحيح بين أفراد المجتمع وتصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار المنحرفة؛ وتضحي الدولة من أجل كفالة الشعب ورعايته؛ ويضحي الأب من أجل معيشة كريمة لأولاده؛ ويضحي الجندي من أجل الدفاع عن وطنه؛ ويضحي العامل من أجل إتقان عمله؛ وتضحي الأم من أجل تربية أولادها..إلخ…. إننا فعلنا ذلك فإننا ننشد مجتمعا فاضلا متعاونا متكافلا تسوده روابط المحبة والإخلاص والبر والإحسان وجميع القيم الفاضلة.

العنصر الرابع: واجبنا نحو غير المسلمين من السائحين والزائرين والمقيمين

أحبتي في الله: لقد اهتم الإسلام اهتماماً بالغاً بالآخر؛ وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تؤكد علاقات السلم والسلام والأمان مع غير المسلمين من السائحين والزائرين والمقيمين سواء من أهل الكتاب أم من غيرهم ؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

قال الطبري: ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبَرُّوهم وتصِلوهم، وتُقسطوا إليهم، وإن الله عز وجل عم بقوله: ﴿ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 8] جميعَ مَن كان ذلك صفتَه، فلم يخصص به بعضًا دون بعضٍ” أ.ه .

ويقول الإمام القرطبي (رحمه الله) في تفسيره لهذه الآية: ” دخل ذمي (رجل من غير المسلمين) على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم “.

 ولا يخفى علينا بر أسماء بنت الصديق لأمها وهي مشركة؛ فعن أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: قدِمَتْ علَيَّ أمي وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهَدهم، فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قدِمَتْ عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصِلُ أمي؟ قال: ” نَعم، صِلِي أمَّكِ “.(متفق عليه). يقول الإمام القرطبي (رحمه الله): فيه دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال، إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعاء إلى الإسلام برفقٍ”.

ونحن نعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يحتوي جميع الملل والأديان المختلفة؛ فكان جيرانُ نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وما حولها أصحابَ ديانات مختلفة، فكان منهم اليهود والنصارى والمشركون الذين يعبدون الأصنام، وعلى الرغم من ذلك كان يدعوهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام، ولم يعتدِ على حرماتهم وأموالهم، وترك لهم حرية العبادة، مع أن المسلمين كانوا أصحاب الكلمة العليا في المدينة، ولم يسفك دم أحدٍ منهم بغير حق، بل كان يزور مرضاهم ويأمر بالإحسان إليهم؛ ونحن نعلم أن زيارته للغلام اليهودي كانت سبباً في إسلامه!

فعن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ” أسلِمْ “، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ” لحمد لله الذي أنقذه من النار “.( البخاري ).

كذلك فعل من بعده – صلى الله عليه وسلم – الصحابة والتابعون مع جيرانهم من غير المسلمين.

 فقد روى البخاري (في الأدب المفرد) عن مجاهد بن جبرٍ قال: كنت عند عبدالله بن عمرٍو – وغلامه يسلخ شاةً – فقال: يا غلام، إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي، فقال رجل من القوم: اليهودي أصلحك الله؟ قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، حتى خشينا أو رُئِينا أنه سيورِّثه.

وإليكم هذه الصورة السمحة التي تعبر عن سماحة الإسلام ومدي تمسك أفراده بالحلم والسلم والعفو والصبر وجميع القيم الإنسانية؛ والتي كانت سبباً لدخول الكثيرين في الإسلام!

” فقد روي أنه كان لسهل بن عبدالله التستري (رحمه الله) جارٌ مجوسي، وكان قد انبثق مِن كنيفه (مرحاضه) إلى بيت سهل ثقب، فكان سهل يضع كل يوم الجَفنة (الوعاء) تحت ذلك الثقب فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي ويطرحه بالليل حيث لا يراه أحد، فمكث رحمه الله على هذه الحال زمانًا طويلًا إلى أن حضرت سهلًا الوفاة، فاستدعى جاره المجوسي، وقال له: ادخُلْ ذلك البيت وانظر ما فيه، فدخل فرأى ذلك الثقب والقذر يسقط منه في الجفنة، فقال: ما هذا الذي أرى؟! قال سهل: هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت وأنا أتلقاه بالنهار وألقيه بالليل، ولولا أنه حضرني أجلي وأنا أخاف ألا تتسع أخلاق غيري لذلك، وإلا لم أخبرك، فافعل ما ترى، فقال المجوسي: أيها الشيخ، أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل وأنا مقيم على كفري؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم مات سهل رحمه الله”. (الكبائر للذهبي).

هذه هي أخلاق الإسلام مع غير المسلمين من السائحين والزائرين والمقيمين؛ وهذا ما يجب علينا جميعا أن نظهره للآخر؛ فهذه دعوة عملية فعلية؛ وهي أبلغ وأقوى تأثيراً من القول؛ فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون . قيل : وكيف ذلك؟ قال : بأخلاقكم !! فأين نحن من هذه المعاني ؟!!

أيها المسلمون: إن غير المسلمين في بلدنا لهم عهد وأمان وذمة سواء كانوا سيَّاحاً أو زائرين أو مقيمين؛ وأن الغدر بهم أو الاعتداء عليهم جريمة نكراء وفعلة شنعاء؛ أوقع ديننا الحنيف بفاعلها أشد العقوبة والتنكيل في الدنيا والآخرة؛ فقد روى البخاري عن عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من قتل معاهدًا، لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا ” .

قال الإمام ابن حجر العسقلاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل معاهدًا) المراد بالمعاهد: هو من له عهد مع المسلمين، سواء كان بعقد جزيةٍ أو هدنةٍ من سلطانٍ، أو أمانٍ من مسلمٍ”.أ.ه

وروى النسائي عن عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” من آمن رجلًا على دمه، فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافرًا “.

وهكذا – أيها المسلمون – حرم الإسلام جميع الدماء بما فيها دماء غير المسلمين؛ ووضع أسس وقواعد الأمان والسلام والمواطنة في التعامل مع الآخر ؛ فهل بعد ذلك يأتي أحد حاقد على الإسلام فيقول إنه دين قتل وإرهاب؛ ويلصق به من التهم ما هو منها براء ؟!!!

نسأل الله أن يجعل بلدنا أمنا أمانا سلاما وسائر بلاد المسلمين؛ اللهم من أراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره !!

الدعاء……..                                                      وأقم الصلاة،،،،

 كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

 د / خالد بدير بدوي

 

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »