أخبار مهمةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة خطبة الأسبوع ، خطبة الجمعة القادمة، خطبة الاسبوع، خطبة الجمعة وزارة الأوقافعاجل

خطبة بعنوان: “الصدق في التجارة وأثره على الفرد والمجتمع”، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 10 من رجب 1438هـ – 7 إبريل 2017م

خطبة بعنوان: “الصدق في التجارة وأثره على الفرد والمجتمع، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 10 من رجب 1438هـ – 7 إبريل 2017م.

لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا

لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا

 

 

ولقراءة الخطبة كما يلي:   

عناصر الخطبة:

العنصر الأول: حث الإسلام على الصدق في التجارة

العنصر الثاني: الصدق في التجارة مع الله قصص وعبر

العنصر الثالث: ثمرات وفوائد الصدق في التجارة

العنصر الرابع: الصدق في التجارة في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول

المقدمة:                                                            أما بعد:

العنصر الأول: حث الإسلام على الصدق في التجارة

عباد الله: لقد حث الإسلام على خلق الصدق في التجارة والبيع والشراء اهتماما كبيرا؛ ولأهمية الصدق والعناية به في شئون الحياة كلها تضافرت نصوص القرآن والسنة في الحث عليه والتحلي به؛ فقد ورد لفظ (الصدق) في القرآن الكريم في ثلاثة وخمسين ومائة (153) موضعا ؛ والأنبياء عليهم السلام كلهم موصوفون بالصدق، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]. وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 56]. وأثنى الله على إسماعيل، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]. وَوُصِفَ يوسف عليه السلام بالصدق حينما جاءه الرجل يستفتيه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 46]. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وقد كان- صلى الله عليه وسلم – مشهوراً بالصدق قبل البعثة وبعدها؛ فكان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين؛ وبعد البعثة المباركة كان تصديق الوحي له مدعاة لأن يطلق عليه أصحابه «الصّادق المصدوق».

ولأهمية الصدق والحث عليه أمر الله المؤمنين أن يكونوا دوماً في زمرة الصادقين؛ فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.[التوبة: 119]؛ لأن الصدق يورث الثقة بين المتعاملين؛ كما أنه سبيل إلى بركة البيع والشراء؛ فَعَن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا”(متفق عليه)؛ قال ابن حجر:” في الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب والكتم، وأن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح، وأن شؤم المعاصي يذهب بخير الدنيا والآخرة.”( فتح الباري)؛ ويكفي أن الصادق يحشر مع النبيين والشهداء؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”( الطبراني والحاكم والترمذي وحسنه)؛ وبين – صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الكسب وأطيبه كسبِ التاجر الصادق المتقيِّد في بيعه وشرائه بشرع الله تعالى، فعن معاذ بن جبل – رضي الله عنه -: ” إن أطيب الكسب كسْبُ التجار الذين إذا حدَّثوا لم يَكذِبوا، وإن ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يُخلِفوا، وإذا اشتروا لم يندموا، وإذا باعوا لم يَخدعوا، وإذا كان عليهم لم يَمطُلوا، وإذا كان لهم لم يُعسِّروا”.( البيهقي في الشعب بسند ضعيف). كما أن الصدق في التجارة ضمان للجنة؛ فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ؛ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ؛ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ؛ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ؛ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ؛ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ “. (أحمد والبيهقي والحاكم وصححه). لذلك عد سلفنا الصالح الصدق ضربا من ضروب الجهاد في سبيل الله بل أحب؛ يقول يوسف بن أسباط: « لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصّدق أحبّ إليّ من أن أضرب بسيفي في سبيل الله »(مدارج السالكين).

وفي مقابل الترغيب في الصدق؛ فقد رهَّبت السنة النبوية الشريفة من الكذب في التجارة ؛ لأنه يبعث الكذابون من التجار يوم القيامة فجاراً؛ فعن رِفَاعَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ:” يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ:” إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ”؛( الطبراني وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح). فلو لم يكن الصدق والبِر واجبين، لَمَا حَكَم عليهم بالفجور، وفي الروايات الأخرى لما قال – عليه الصلاة والسلام -: ” إن التجار هم الفجار “، قالوا: أليس الله أحلَّ البيعَ وحرَّم الربا؟ قال: ” بلى، ولكنهم يَحلِفون ويُحدِّثون فيَكذِبون”.

ولذلك تغنى الشعراء بفضيلة الصدق ورذيلة الكذب؛ وأن الصدق من شيم المروءة والحرية والرجولة؛ والكذب عكس ذلك. يقول أحدهم:

إِذا قُلتَ في شَيءٍ نَعَم فَأَتِمَّهُ ………………. فَإِنَّ نَعَمٌ دَينٌ عَلى الحُرِّ واجِبُ

وَإِلّا فَقُل لا تَستَرِح وَتُرِح بِها …………………. لِئَلّا يَقولَ الناسُ إِنَّكَ كاذِبُ

لذلك شنع القرآن على كل من كذب وخلف وعده وخان؛ بل عده الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين؛ فعَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ؛ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.”(متفق عليه).

بل إن الكذب ينافي الإيمان؛ لأن الكذب والإيمان لا يجتمعان في قلب رجل واحد؛ فَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ؛ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: «نعم» . فَقيل: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: «لَا» . ( مالك والبيهقي في الشعب مرسلا).

 وهكذا حث الإسلام على الصدق؛ ورهَّب من الكذب ولا سيما في التجارة والبيع والشراء.

العنصر الثاني: الصدق في التجارة مع الله قصص وعبر

عباد الله: تعالوا لنقف في هذا العنصر مع صور ونماذج – قديمة وحديثة – تاجروا مع الله؛ فكانت تجارتهم رابحة .

ومن باب الذكر فقد ورد لفظ التجارة في القرآن تسع مرات في سور متنوعة؛ ولعل الهدف منه تنبيه المسلمين بأنها سلاح ذو حدين , متى أحسن الإنسان في استعماله بالصدق والأمانة ربح؛ ومتى أساء بالكذب والخيانة بار وكسد . ومن ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }[فاطر: 29 – 30]، ويقول تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ }[الصف: 10، 11].

ولقد ضرب الصحابة – رضي الله عنهم – أروع الأمثلة في التجارة مع الله؛ فهذا صهيب الرومي الذي تاجر مع الله فربحت تجارته؛ فعنه – رضي الله عنه – قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ، ولا مال لك ، وتخرج أنت ، ومالك ، والله لا يكون ذلك أبداً ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” ربح البيع صهيب مرتين ” . ( فتح القدير )

وهذا عبدالرحمن بن عوف سيد التجار الصادقين الرابحين الأمناء؛ الذي ضرب به المثل في التجارة؛ تاجر مع الله فزوجه الله من الحور العين في الجنة؛ ” فعن أنس، قال: قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلنى على السوق. فخرج إلى السوق وتاجر حتى أصبح من أغنى أغنياء المدينة؛ يقول عبدالرحمن بن عوف:” فلقد رأيتنى ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا وفضة.” (السيرة النبوية لابن كثير) .

وما أجمل هذه الصورة التي تدل على تجارة عبدالرحمن بن عوف الرابحة؛ فقد حدث غلاء في زمن أبي بكر رضي الله عنه وكان عثمان ذو النورين يملك قافلة تجارية كاملة وأنفقها كلها لصالح الفقراء والمعدمين ؛ ” فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان.”( الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري)؛ فعثمان رضي الله سنحت له الفرص في الاحتكار والاستغلال وحاجة الناس؛ ومع ذلك آثر ما عند الله عز وجل والتراحم والتكافل؛ فتاجر مع الله فكانت تجارة رابحة !! فأين التجار والمحتكرون من هذه القيم النبيلة ؟!! وأين الذين يبيعون دينهم من أجل الدينار والدرهم ؛ أو من أجل زيادة حبة أو إنقاص حبة في البيع والشراء ؟!! انظروا إلى سلفنا الصالح وورعهم وصدقهم مع الخصاصة والحاجة !!

فقد روي عن مالك بن دينار أنه كان يمشي في سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه ولم يكن معه نقود؛ فخلع نعله وأعطاه لبائع التين؛ فقال : لا يساوي شيئا ؛ فأخذ مالك نعله وانصرف. فقيل للرجل: إنه مالك بن دينار؛ فملأ الرجل طبقا من التين وأعطاه لغلامه ثم قال له : الحق بمالك بن دينار فإن قبله منك فأنت حر…. فعدا الغلام وراءه فلما أدركه قال له: اقبل مني فإن فيه تحريري . فقال مالك : إن كان فيه تحريرك فإن فيه تعذيبي . فألح الغلام عليه فقال : أنا لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين إلى يوم الدين!!

وهذا الإمام أبو حنيفة – الذي ملأ علمه الآفاق؛ والذي أسس مذهباً في الفقه منتشراً في كل مكان وزمان – كان تاجرا ماهرا مبارك اليد، صادق الكلمة غير حلاف ، وكان موفقاً نتيجة الصيت الحسن والسمعة الطيبة، وكثرة الزبائن وإقبال الناس هي المقياس الحقيقي لنجاحه، وكان منهجه الصدق والأمانة في البيع والشراء، وكان يتاجر في الخز «الأقمشة والثياب». وذات يوم جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فسألها: كم ثمنه؟ فقالت: مائة. فقال: هو خير من مائة، بكم تقولين ؟ فزادت مائة مائة حتى بلغت أربعمائة درهم، فقال: هو خير من ذلك. فقالت أتهزأ بي؟ فقال: هاتي رجلاً يقومه، فجاءت برجل فاشتراه بخمسمائة درهم!!

وفي رواية لامرأة أخرى جاءته فقالت: إني ضعيفة وإنها أمانة، فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك، فقال خذيه بأربعة دراهم، فقالت: لا تسخر مني وأنا عجوز، فقال: إني اشتريت ثوبين، فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فبقي هذا الثوب علي إلا بأربعة دراهم.

وفي رواية أخرى لصدقه وأمانته في البيع والشراء أن جاءه صديق يطالبه بثوب خز على وصف ولون بعينهما، فقال له أبو حنيفة: اصبر حتى يقع وآخذه لك.. إن شاء الله تعالى. فما دارت الجمعة حتى وقع، فمر به الصديق، فقال له قد وقعت حاجتك، وأخرج إليه الثوب، فقال: كم إذاً؟ قال أبو حنيفة: درهماً، فقال الصديق: ما كنت أظنك تهزأ بي، قال أبو حنيفة: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين ديناراً ودرهما، وإني بعت أحدهما بعشرين ديناراً وبقي هذا بدرهم.

فالإمام أبو حنيفة أعطاه ثوبا يساوي عشرين دينارا بدرهم واحد؛ وكان قادرا على أن يبيعه بعشرين دينارا مثل الثوب الآخر؛ ولكنه آثر الصدق والإخلاص والأمانة والسماحة في البيع والشراء !! فأين نحن من هذه المعاني المفقودة في زماننا هذا ؟!!

أيها المسلمون: ومن باب نسبة الفضل لأهله؛ فلا يفوتني في هذا المقام أن أذكر شخصية عظيمة في واقعنا المعاصر تاجرت مع الله فربحت تجارتها؛ وكان لها الفضل في نشر مشاريع عظيمة في ربوع مصرنا الحبيبة؛ ألا وهو المهندس ( صلاح عطيه )؛ حيث بدأت فكرته باشتراك تسعة في مزرعة دواجن وكان الشريك العاشر “سهم الشريك الأعظم” ؛ ووافق الجميع علي الفور، وبدأوا المشروع وحققوا أرباحا لا مثيل لها؛ وقرروا زيادة نصيب الشريك العاشر إلي 20 % وهكذا كل عام حتي وصلت نسبته إلى 50%. فبارك الله لهم في تجارتهم؛ وكانت هذه التجارة الرابحة سبباً في إنشاء فرعٍ لجامعة الأزهر ومدينة جامعية في قريته الصغيرة ؛ كما بنى العديد من المعاهد الأزهرية وأنشأ عدداً لا بأس به من بيوت المال على مستوى الجمهورية؛ رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته !!

العنصر الثالث: ثمرات وفوائد الصدق في التجارة

عباد الله: هناك ثمرات وفوائد عديدة للصدق في التجارة يعود أثرها على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة :

منها: محبة الناس للصادق ورواج بضاعته: فالتاجر الصادق الأمين يُعتبر مكسباً مهمّاً لا يُمكن أن يُعوَّض بالنسبة للمشترين، والتجار الآخرين؛ فالتزام التاجر بالصدق يكفل له رواج بضاعته، وثقة الناس فيه؛ وإقبالهم على الشراء منه، حتى لو لم تكن بضاعته ذات كفاءة عالية في الكثير من الأحيان، أو حتى لو كان سعره أعلى من سعر نظرائه من التجار.

وفي ذلك يقول عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «من كانت له عند النّاس ثلاث وجبت له عليهم ثلاث، من إذا حدّثهم صدقهم، وإذا ائتمنوه لم يخنهم، وإذا وعدهم وفّى لهم، وجب له عليهم أن تحبّه قلوبهم، وتنطق بالثّناء عليه ألسنتهم، وتظهر له معونتهم».

ومنها: حصول البركة في البيع والشراء: ”  فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما”.(البخاري). ” فحصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب”.( فتح الباري لابن رجب)

ومنها: طمأنينة النفس وراحة الضمير: لِتَخَلُّصِه من المُكَدِّرات في تعامله مع الآخرين، فعن الحسن بن علي قال: حفظتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم:” دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقِ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ”.( أحمد والنسائي والترمذي وصححه). وهذا الحديث ” فيه إشارة إلى الرجوع إلى القلوب الطاهرة والنفوس الصافية عند الاشتباه، فإن نفس المؤمن جبلت على الطمأنينة إلى الصدق، والنفر من الكذب “. ( تطريز رياض الصالحين – فيصل المبارك ).

ومنها: أن الصادق يفوز بسعادة العاجل والآجل في الدارين الدنيا والآخرة: يقول أبو حاتم: ” الصدق يرفع المرء في الدارين ؛ كما أنَّ الكذب يهوي به في الحالين”.( روضة العقلاء).

ومنها: الفوز بالجنة والثناء على صاحبه في الملأ الأعلى: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ؛ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ؛ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا؛ وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ؛ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ؛ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا”.( متفق عليه واللفظ لمسلم).

ومنها: قبول الأعمال: فالصادق في تجاراته وتعاملاته يقبل منه عمله؛ بخلاف الكذاب؛ قال بعضهم: «من لم يؤدّ الفرض الدّائم لم يقبل منه الفرض المؤقّت. قيل: وما الفرض الدّائم؟ قال: الصدق». (مدارج السالكين).

ومنها: مرافقة النبيين والشهداء في الجنة: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”( الطبراني والحاكم والترمذي وحسنه).

العنصر الرابع: الصدق في التجارة في حياتنا المعاصرة بين الواقع والمأمول

عباد الله: ما أحوج الأمة الإسلامية في هذه الظروف القاسية إلى صدق التعامل في البيع والشراء؛ وإنه من ينظر إلى واقعنا المعاصر يجد انتشار الكذب والتضليل والخداع والخيانة والغش في المعاملات؛ فضلاً عن كثرة الأيمان الكاذبة من أجل ترويج السلع الفاسدة؛ ويحضرني قول الشيخ كشك – رحمه الله– حيث يقول: تاجر المواشي يأخذ البهيمة إلى سوق البهائم وهي ليست حاملاً ؛ فحينما يُسأل عن حملها؟ يمسك ذيلها ويحلف قائلاً: والله لها أربعة وهذا الخامس!! يقصد: لها أربعة أرجل والذيل خامسها؛ ويظن المشتري أنها حامل أربعة أشهر وهذا الشهر الخامس!!  فهؤلاء التجار يكثرون من الأيمان الكاذبة لأكل أموال الناس بالباطل!! وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحلف في البيع والشراء ويلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس؛ فقد ثبت في الحديث عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ” ( البخاري ومسلم)؛ قال الإمام النووي:” وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين” ( شرح النووي )؛ وقد توعد الله المنفق سلعته بالأيمان الكاذبة بالوعيد الشديد في الآخرة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ؛ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؛ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ” ( البخاري)؛ يقول الإمام الغزالي في الإحياء:” ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة؛ فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع؛ وإن كان صادقاً فقد جعل الله عرضة لأيمانه؛ فالدنيا أخس من أن  يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة … فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث أنه فـضـول لا يـزيـد فـي الـرزق فـلا يخفى التـغلـيـظ فـي أمـر الـيـمـيـن!”.

أيها المسلمون: إن ما نزل بنا من بلاء وغلاء وعلل وأمراض سببه الكذب والخيانة وكثرة الحلف الكاذب وانتشار الربا والبيوع المحرمة بين أفراد المجتمع؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا؛ وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ؛ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا؛ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ؛ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ” ( ابن ماجة والبيهقي والحاكم وصححه )؛ فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن ويعودوا إلى رشدهم ويبتعدوا عن الكذب وطرق الكسب المحرمة؟!

أيها المسلمون: اعلموا أن قوام المجتمع في التعامل بصدق في جميع مجالات الحياة؛ فكيف يكون لمجتمع ما كيان متماسك، وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق؟! وكيف يكون لمثل هذا المجتمع رصيد من ثقافة أو تاريخ أو حضارة وأفراده يكذبون ويرجون للكذب؟! كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني؟! كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع؟! كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟! كيف يوثق بالدعاوى والشهادات مالم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟!

ألا فلنعد إلى ما كان عليه سلفنا الصالح من صدق في المعاملات والبيع والشراء حتى نكون قدوةً لغيرنا ودعوةً للآخرين إلى الدخول في هذا الدين الحنيف؛ إننا إن فعلنا ذلك فزنا في الدنيا بالسعادة والثقة والطمأنينة والتراحم فيما بيننا؛ وفي الآخرة بالجنة والمغفرة والثواب العظيم.

الدعاء،،،،                                                            وأقم الصلاة،،،،                     كتبه : خادم الدعوة الإسلامية

                                                                                                                                  د / خالد بدير بدوي

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »