خطبة بعنوان: “الانتماء للوطن وفضل الشهادة في سبيله “، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 6 محرم 1438هـ – 7 أكتوبر 2016م
خطبة بعنوان: “الانتماء للوطن وفضل الشهادة في سبيله “، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 6 محرم 1438هـ – 7 أكتوبر 2016م.
لتحميل الخطبة بصيغة word أضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: حب الوطن والانتماء إليه درس عظيم من دروس الهجرة
العنصر الثاني: واجبنا نحو وطننا
العنصر الثالث: أنواع الشهداء
العنصر الرابع: أثر الروح المعنوية للجنود في نصر أكتوبر المجيد
العنصر الخامس: فضل الشهادة في سبيل الله وكرامات الشهيد
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: حب الوطن والانتماء إليه درس عظيم من دروس الهجرة
عباد الله: إن الهجرة لا تعني الانقطاعَ عن الوطن كما يظن كثير من الناس، بل هي تحمل في طياتها الحبَّ الكامل للوطن والانتماء إليه؛ هذا المعنى الحقيقي للهجرة أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يترك مكة تركًا مؤقتًا؛ فعن عبد الله بن عدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف على راحلته بالحَزْوَرَة مِنْ مَكَّةَ يَقُول: “وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ” ( الترمذي وحسنه)
فما أروعَها من كلمات! كلمات قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودِّع وطنه، إنها تكشف عن حبٍّ عميق، وانتماءٍ صادقٍ؛ وتعلُّق كبير بالوطن، بمكة المكرمة، بحلِّها وحَرَمها، بجبالها ووديانها، برملها وصخورها، بمائها وهوائها، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا.
إنها الأرض التي ولد فيها، ونشأ فيها، وشبَّ فيها، وتزوَّج فيها، فيها ذكرياتٌ لا تُنسى، فالوطن ذاكرة الإنسان، فيها الأحباب والأصحاب، فيها الآباء والأجداد.
أيها المسلمون: إن تراب الوطن الذي نعيش عليه له الفضل علينا في جميع مجالات حياتنا الاقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية؛ بل إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يستخدم تراب وطنه في الرقية والعلاج؛ فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: ” باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا”. ( البخاري ومسلم.)
والشفاء في شم المحبوب، ومن ألوان الدواء لقاءُ المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره!! ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟!
قال الجاحظ: “كانت العرب إذا غزَتْ، أو سافرتْ، حملتْ معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه”.
ولتعلق النبي – صلى الله عليه وسلم – بوطنه الذي نشأ وترعرع فيه ووفائه له وانتمائه إليه؛ دعا ربه لما وصل المدينة أن يغرس فيه حبها فقال: ” اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ”. (البخاري ومسلم.)
إنه يدعو الله أن يحبِّب إليه المدينةَ أكثرَ من حبِّه لمكة؛ فحبُّ مكة فطرةٌ؛ لأنها وطنه، أما حبُّ المدينة فمنحةٌ وهِبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يحبِّبها إليه حبًّا يفوق حبَّه لمكة؛ لما لها من الفضل في احتضان الدعوة، ونشر الرسالة.
وقد استجاب الله دعاءه، فكان يحبُّ المدينة حبًّا عظيمًا، وكان يُسرُّ عندما يرى معالِمَها التي تدلُّ على قرب وصوله إليها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: “كان رسول الله إذا قدم من سفرٍ، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقتَه – أي: أسرع بها – وإن كانت دابة حرَّكَها”، قال أبو عبدالله: زاد الحارث بن عمير عن حميد: “حركها من حبِّها”. (البخاري.)
عباد الله : يجب على كل مسلم أن يحب وطنه، ويعمل كل خير لبلده، ويتفانى في خدمته، ويضحي للدفاع عنه.
وإن المسلم يعمل للأمة، ويحزن لحزنها، ويفرح لفرحها، ويدافع عنها، ويسعى لوحدتها.
فحب الوطن لا يحتاج لمساومة؛ ولا يحتاج لمزايدة؛ ولا يحتاج لمجادلة؛ ولا يحتاج لشعارات رنانة؛ ولا يحتاج لآلاف الكلمات؛ أفعالنا تشير إلى حبنا، حركاتنا تدل عليه؛ حروفنا وكلماتنا تنساب إليه، أصواتنا تنطق به؛ آمالنا تتجه إليه، طموحاتنا ترتبط به، لأجل أرض وأوطان راقت الدماء؛ لأجل أرض وأوطان تشردت أمم، لأجل أرض وأوطان ضاعت حضارات وتاريخ وتراث، لأجل أرض وأوطان تحملت الشعوب ألواناً من العذاب؛ لأجل أن نكون منها وبها ولها؛ وإليها مطالبون أينما كنا أن نحافظ عليها !!
العنصر الثاني: واجبنا نحو وطننا
عباد الله: إذا كان الإنسان يتأثّر بالبيئة والوطن الذي ولد فيه، ونشأ على ترابه، وعاش من خيراته، فإن لهذا الوطن عليه حقوقاً وواجباتٍ كثيرةً تتمثل فيما يلي:-
– تربية الأبناء على استشعار ما للوطن من أفضالٍ سابقةٍ ولاحقة عليه – بعد فضل الله سبحانه وتعالى – منذ نعومة أظفاره ، ومن ثم تربيته على رد الجميل ، ومجازاة الإحسان بالإحسان؛ لاسيما أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحث على ذلك وترشد إليه كما في قوله تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ } ( الرحمن :60 ) .
– الحرص على مد جسور المحبة والمودة مع أبناء الوطن في أي مكانٍ منه؛ لإيجاد جوٍ من التآلف والتآخي والتآزر بين أعضائه الذين يمثلون في مجموعهم جسداً واحداً مُتماسكاً في مواجهة الظروف المختلفة .
– غرس حب الانتماء الإيجابي للوطن ، وتوضيح معنى ذلك الحب ، وبيان كيفيته المُثلى من خلال مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع كالبيت ، والمدرسة ، والمسجد، والنادي ، ومكان العمل ، وعبر وسائل الإعلام المختلفة مقروءةً أو مسموعةً أو مرئيةً .
– العمل على أن تكون حياة الإنسان بخاصة والمجتمع بعامة كريمةً على أرض الوطن ، ولا يُمكن تحقيق ذلك إلا عندما يُدرك كل فردٍ فيه ما عليه من الواجبات فيقوم بها خير قيام ؛ فالحب الصادق للأوطان واجبات ومسؤوليات يجب علينا أن نترجمها على أرض الواقع؛ وهذا مكلف به الجميع كل حسب استطاعته ووسعه وما في مقدوره.
– تربية أبناء الوطن على تقدير خيرات الوطن ومعطياته والمحافظة على مرافقه ومُكتسباته التي من حق الجميع أن ينعُم بها وأن يتمتع بحظه منها كاملاً غير منقوص .
– الإسهام الفعال والإيجابي في كل ما من شأنه خدمة الوطن ورفعته سواءٌ كان ذلك الإسهام قولياً أو عملياً أو فكرياً ، وفي أي مجالٍ أو ميدان ؛ لأن ذلك واجب الجميع ؛ وهو أمرٌ يعود عليهم بالنفع والفائدة على المستوى الفردي والاجتماعي .
– التصدي لكل أمر يترتب عليه الإخلال بأمن وسلامة الوطن ، والعمل على رد ذلك بمختلف الوسائل والإمكانات الممكنة والمُتاحة .
– الدفاع عن الوطن عند الحاجة إلى ذلك بالقول أو العمل؛ جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل أن يحيى من أجل هذا الوطن!!
العنصر الثالث: أنواع الشهداء
أحبتي في الله: كثير من الناس يعتقد أن الشهادة تقتصر على الموت في محاربة الكفار فقط ، ولكن شهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرون، ففي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ؛ وَالْمَبْطُونُ؛ وَالْغَرِقُ؛ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ؛ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.” ؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ؛ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ؛ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ؛ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ؛ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ؛ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ؛ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ.” ( أخرجه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجه) والمبطون كما يقول النووي : هو صاحب داء البطن. وقيل: هو الذي يموت بداء بطنه مطلقًا. وقوله: المرأة تموت بجمع شهيد. أي تموت وفي بطنها ولد، لأنها ماتت مع شيء مجموع فيها غير منفصل وهو الحمل.
هذا وخصال الشهادة أكثر من هذه السبع، قال الحافظ ابن حجر: وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة.. وذكر منهم: اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخار عن دابته، والمائد في البحر الذي يصيبه القيء، ومن تردى من رؤوس الجبال. قال النووي : وإنما كانت هذه الموتات شهادة يتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها. اهـ
وقال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن جعلها تمحيصًا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء. أ.هـ
ويدخل في ذلك الدفاع عن الأهل والمال والوطن؛ وجنود حرب أكتوبر البواسل الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن؛ فعن سعيد بن زيد قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ”( الترمذي وحسنه)، وعن أبي هريرة قال: ” جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ . فقالَ : يا رسولَ اللَّهِ ! أرأيتَ إن جاءَ رجلٌ يريدُ أخذَ مالي؟ قالَ: فلا تُعطِهِ مالَكَ. قالَ: أرأيتَ إن قاتَلَني؟ قالَ: قاتِلهُ. قالَ: أرأيتَ إن قتَلَني؟ قالَ: فأنتَ شهيدٌ. قالَ: أرأيتَ إن قَتلتُهُ ؟ قالَ: هوَ في النَّارِ . ” ( مسلم )
ويدخل في ذلك أيضا الجنود المرابطون الذين يسهرون ليلهم في حراسة هذا الوطن والدفاع عنه وحماية منشآته؛ وقد ذكرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:” عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” ( الترمذي والطبراني والبيهقي ).
ويتحصل مما ذكر من هذه الأحاديث أن الشهداء ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا فقط؛ وشهيد الآخرة فقط، وشهيد الدنيا والآخرة معا .
فشهيد الدنيا والآخرة معاً: هو الذي يقتل في الجهاد في سبيل الله مقبلاً غير مدبر لا لغرض من أغراض الدنيا ، ففي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.” ( رواه البخاري)
أما شهيد الدنيا فقط: فهو من قتل في الجهاد لكن قتاله كان رياء أو لغرض من أغراض الدنيا.. أي لم يكن في سبيل الله، فهو في الدنيا يعامل معاملة الشهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه، وينتظره في الآخرة ما يستحق من عقوبة جزاء سوء قصده وخبث طويته؛ فهو أحد الثلاثة الذين أول من تسعر بهم جهنم كما جاء في صحيح مسلم.
أما شهيد الآخرة فقط: فهو من يُعطى يوم القيامة أجر الشهيد ولكنه لا يعامل معاملته في الدنيا؛ بل يغسل ويصلى عليه.. ومنهم السبعة المذكورون في الحديث آنفاً .
ومما تقدم نعلم أن المسلم الذي يموت بإحدى هذه الميتات التي فيها شدة وألم نرجو أن يكون من الشهداء.
ويدخل في الشهداء كل من مات وهو يسعي على رزقه وأولاده وأهله والعمل من أجل بناء أسرته ووطنه؛ وكل من مات من الأئمة والدعاة أثناء أداء واجبهم الوظيفي؛ إذ يعد سعيهم على معيشتهم جهادا في سبيل. وقد أكد القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ( المزمل: 20) ،قال الإمام القرطبي – رحمه الله – في تفسيره: “سوى الله تعالي في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله”
وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :”إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ”. [ صحيح الترغيب والترهيب – الألباني ]
أيها المسلمون: يتلخص مما سبق أن ضابط الشهادة هو النية؛ فقد يكون في الظاهر مجاهدا في سبيل الله ومصيره جهنم والعياذ بالله؛ وكذلك من يموت بسبب معصية كمن دخل دارًا ليسرق فانهدم عليه الجدار فمات بالهدم فلا يقال له شهيد؛ وكذلك الميتة بحملٍ من الزنا.
“وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عن رجل ركب البحر للتجارة فغرق فهل مات شهيدًا؟ أجاب: نعم مات شهيدًا إذا لم يكن عاصيًّا بركوبه، وقال في موضع آخر: ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها، فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه فلا يكون شهيدًا.” أ.هـ
فمدار الأمر على النية، فقد يكون في الظاهر في سبيل الله وفي الباطن غرضه الدنيا أو منصب أو جاه أو غير ذلك.
العنصر الرابع: أثر الروح المعنوية للجنود في نصر أكتوبر المجيد
عباد الله: لقد كان للروح المعنوية أثرٌ بالغٌ في نصر أكتوبر المجيد؛ إذ اجتمعت عوامل عدة عملت على رفع الروح المعنوية لدى الجنود المصريين؛ ومن أهم هذه العوامل الصيام وشهر رمضان؛ فإذا كان الإسلام أوجب على الصائم التحلي بالأخلاق والآداب في صيامه؛ وإن أحد سابه أو شاتمه يقول له: إني صائم ؛ بما تحويه الكلمة من معاني الإيمان والتقوى والخشوع لله تعالى؛ فما بالك بالآخر لا يسبك بل يقاتلك ؟!!
ومن يجلس منكم مع آبائه وأجداده وهم يصورون له أرض المعركة والروح المعنوية عند الجنود المصريين يجد هذه الروح وهذا النصر والتأييد والمدد من الله تعالى مع قلة العدد والعدة والعتاد !!
أيها المسلمون: إن الروح المعنوية بالإضافة للتسليح والتدريب الجيد أهم عناصر النصر، وأوائل القادة العسكريين مثل فريدريك الكبير وجد أن الهزيمة تحدث للجنود من مشاعر الإحباط وضعف المعنويات أكثر من أن تأتي من الخسائر المادية، ولنابليون مقولة شهيرة قال فيها: “إن الروح المعنوية تتفوق على القوة الجسدية بثلاثة أضعاف”، وكان نابليون يكافىء جيوشه لرفع روحهم المعنوية بالجوائز والأوسمة أو الترقيات.
ولنا الأسوة الحسنة في نبينا – صلّى الله عليه وسلم – فقد حرص في قيادته لجنده أن يرفع الروح المعنوية لديهم وبقاءها كذلك، فقال لهم في غروة بدر: ” سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم” (سنن النسائي) ، وفي مؤتة (8 هـ) خطب عبد الله بن رواحة وأثار فيها الروح المعنوية ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم عندما رجعوا: «بل كرار إن شاء الله» «تاريخ الطبري»؛ وحرص النبي صلّى الله عليه وسلم كذلك على إخفاء بعض الأمور والأخبار التي تضعف الروح المعنوية، ففي أحد (3 هـ) أمر عليّا أن يستطلع سير قريش وأن يخفي ذلك ؛ وفي الخندق (5 هـ) بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نقض بني قريظة للعهد فبعث نفرا من المسلمين ليتبينوا الأمر وقال لهم: «انطلقوا فإن كان ما قيل حقّا فألحنوا لي لحنا أعرفه» «سيرة ابن هشام» ، وكذلك حرص على عدم نشر الشائعات بين المسلمين، يتضح هذا من قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] .
وكانت «الخدعة» إحدى وسائل النبي صلّى الله عليه وسلم في حربه مع أعدائه فقال: «الحرب خدعة» «متفق عليه» .
ولقد أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن كل شيء يقاتل معنا حتى الحجر والشجر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ؛ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ . ” (متفق عليه )
وقد افتخر أحد المسلمين الفلسطينيين بهذا الحديث على يهودي؛ فرد عليه اليهودي قائلاً: لن يتحقق لكم ذلك حتى يكون عدد المسلمين في صلاة الجمعة هو عدد المسلمين في صلاة الفجر !!!
فالعبادة والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – والإيمان العميق أهم أسس ووسائل النصر والأمن والاستقرار والخلافة والتمكين في الأرض؛ وقد سجل القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(النور:55)
فالعقيدة والإيمان هي أسلحة النصر الحقيقية؛ لما تبعثه من طاقة روحية قوية وروح معنوية عالية داخل النفس البشرية؛ تؤدي بها إلى التضحية بكل شيء في سبيل نيل النصر أو نيل الشهادة في سبيل نصرة الحق!!
إن الجندي المصري هو خير أجناد الأرض، يستطيع بنجاح مذهل – مع قوته الإيمانية وروحه المعنوية – العمل تحت أي ضغوط ومواجهة أي تحديات، ليعطي للعالم درسا في الولاء وقوة التحمل في سبيل نصرة الوطن والحق المبين!!
العنصر الخامس: فضل الشهادة في سبيل الله وكرامات الشهيد
أيها الأحبة! إن لذة الشهادة في سبيل الله لا يحصرها قلم، ولا يصفها لسان، ولا يحيط بها بيان، ويكفي في ثمنها الجنة : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ }[التوبة:111] تأملوا هذه الآية العظيمة التي فيها شراء، وفيها صفقةٌ عظيمة، ولـابن القيم كلامٌ أجمل مما نقول” : المشتري هو الله، والمتفضل هو الله، والمنعم هو الله؛ خلق هذه النفس من العدم وأطعمها وسقاها وكفاها وآواها، ودفع عنها النقم، وأسبل عليها وابل النعم، ثم هو جل وعلا يشتريها من صاحبها ويبذل له عوضاً وثمناً ألا وهو الجنة؛ فيها مالا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فإذا كان الثمن هو الجنة، فإنه لا يجتهد في هذه الصفقة أو أن يكون ممن يبتاعها إلا واحدٌ ممن عرف الثمن وعرف القيمة والعوض والمعوض.”
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتمنون الشهادة في سبيله لما لها من هذه المكانة العظيمة؛ فلا يعلمون عنها سوى الطريق الموصل لما أعدّ الله لهم من الجنات، فهذا حنظلة تزوج حديثاً وقد جامع امرأته في الوقت الذي دعا فيه الداعي للجهاد فيخرج وهو مجنبٌ ليسقط شهيداً في سبيل الله، ليراه النبي بيد الملائكة تغسله ليسمى بغسيل الملائكة.
وهذا مثال آخر لطلب الشهادة، ففي غزوة بدر ، قالَ – صلى الله عليه وسلم – لأصحابِهِ : ” قوموا إلى جنَّةٍ عرضُها السَّمَواتُ والأرضُ، فقالَ عميرُ بنُ الحمامِ الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ، جنَّةٌ عرضُها السَّمواتُ والأرضُ؟ قال: نعَم ، قال: بخٍ بخٍ ، فقالَ رسولُ اللهِ وما يحملُكَ علَى قولِ بخٍ بخٍ؟ قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ، إلَّا رجاءَ أن أَكونَ من أَهلِها ؟ قال: فإنَّكَ من أَهلِها . . . فأخرجَ تمراتٍ من قرنِهِ، فجعلَ يأْكلُ منْهنَّ. ثمَّ قال: لئِن أنا حييتُ حتَّى آكلَ تمراتي هذِهِ إنَّها حياةٌ طويلةٌ ، فرمى ما كانَ معَهُ منَ التَّمرِ ثم قاتَلَهم حتَّى قُتلَ َ ” ( مسلم )
وهذا أَنَسَ بْنَ النَّضْرِ تَغَيَّبَ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ وَقَالَ: تَغَيَّبْتُ عَنْ أَوَّلِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ قِتَالًا لَيَرَيَنَّ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَأَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: أَيْنَ؟! أَيْنَ؟! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ قَالَ: فَحَمَلَ فَقَاتَلَ , فقُتِلَ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَطَقْتُ ما أطاق فقالت أخته: والله ما عرفت أَخِي إِلَّا بِحُسْنِ بَنَانِهِ فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً ضَرْبَةُ سَيْفٍ وَرَمْيَةُ سَهْمٍ وَطَعْنَةُ رُمْحٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] (صحيح ابن حبان ).
وإذا كان الله أنعم عليك بالصحة فهذا مثال لصحابي أعرج رخص له في عدم الخروج ومع ذلك خرج لطلب الشهادة، ألا وهو عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان شيخاً من الأنصار أعرج، فلما خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى غزوة بدر قال لبنيه : أخرجوني ( أي للقتال ) فذُكر للنبي – صلى الله عليه وسلم – عرجه ، فأذن له في البقاء وعدم الخروج للقتال ، قلما كان يوم أحد خرج الناس للجهاد ، فقال لبنيه أخرجوني !! فقالوا له : قد رخص لك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في عدم الخروج للقتال ، فقال لهم هيهات هيهات !! منعتموني الجنة يوم بدر والآن تمنعونيها يوم أحد !! فأبى إلا الخروج للقتال ، فأخرجه أبناؤه معهم ، فجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:(نَعَمْ) قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أرجعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا عَمْرُو! لَا تَألَّ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – : ” مَهْلًا يَا عُمَرُ! فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَّره، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ يَخُوضُ فِي الجنة بعرجته” (صحيح ابن حبان ).
أيها الأحبة في الله! إن فضل الله واسع، فينبغي أن تسأل الله الشهادة وتضحي بنفسك وأهلك من أجل الله ، فعن سهل بن حنيف-رضي الله عنه- قال: – صلى الله عليه وسلم – ” مَن سأَل الشَّهادَةَ بصِدقٍ ، بلَّغه اللهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ ، وإنْ مات على فِراشِه ” ( مسلم )، لذلك كان عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ يقول في دعائه : اللهمَّ ارزقْنِي شهادَةً في سبيلِكَ ، واجعلْ موتِي في بلَدِ رسولِكَ – صلى الله عليه وسلم -. ( البخاري )، واستجاب الله دعاءه ورزقه الله الشهادة ودفن بجوار المصطفي – صلى الله عليه وسلم -.
عباد الله: إن فضل الشهادة عظيم؛ وإن العقيدة الراسخة والإيمان الصادق والسلعة الباقية ( الجنة ) هي التي دفعت المرأة – قبل الرجل – أن تلقي بفلذة أكبادها في أرض المعركة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى؛ فقد أخرج البخاري في ( الصحيح ) أن أم حارثه أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة – وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب – فإن كان في الجنة صبرت – وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء ، قال : ” يا أم حارثة ، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى .”
ومن فضل الشهادة أن صاحبها يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليقاتل فيُقتل ليأخذ الأجر مرة أخرى؛ فقد روى البخاري في صحيحه واللفظ له ، ومسلم في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا ، وأن له الدنيا وما فيها ، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى “، وعلى رأس قائمة المتمنين رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل “
أيها المسلمون: لقد عدد النبي – صلى الله عليه وسلم- كرامات الشهيد والتي لم ينلها أي واحد غيره في حديث شامل جامع مانع؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن للشهيد عند الله عز وجل ست خصال ، أن يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ” (أحمد والطبراني وابن ماجة والحاكم واللفظ له)
فهنيئاً – الجنة – لشهدائنا الأبطال البواسل؛ الذين ضحوا بأرواحهم وأنفسهم للدفاع عن وطننا العظيم؛ والوقوف ضد العدوان الغاشم ؛ حتى حرروا البلاد والعباد !!
نسأل الله أن يرزقنا عيش السعداء، وميتة الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء..
الدعاء،،،،،،، وأقم الصلاة،،،،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي