أخبار مهمةالخطبة المسموعةخطبة الأسبوعخطبة الجمعةخطبة الجمعة القادمة ، خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف المصرية مكتوبة word pdfعاجل

خطبة الجمعة للدكتور محمد حرز : الصوم وأثره في تربية النفس

خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الصوم وأثره في تربية النفس ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 9 رمضان المبارك 1444هـ ، الموافق 31 مارس 2023م. 

 

لتحميل خطبة الجمعة القادمة 31 مارس 2023م بصيغة word بعنوان : الصوم وأثره في تربية النفس ، للدكتور محمد حرز.

 

لتحميل خطبة الجمعة القادمة 31 مارس 2023م بصيغة pdf بعنوان : الصوم وأثره في تربية النفس ، للدكتور محمد حرز.

عناصر خطبة الجمعة القادمة 31 مارس 2023م بعنوان : الصوم وأثره في تربية النفس.

 

أولًا: رمضانُ مدرسةُ الحلمِ.

ثانيـًـــا: معالمٌ تربويةٌ في رمضانَ.

ثالثًا وأخيرًا: النِّظَامُ والانْضِبَاطُ مِن أعظمِ المعالمِ التربويةِ في رمضانَ.

 

ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 31 مارس 2023م بعنوان : الصوم وأثره في تربية النفس : كما يلي:

 

خطبةُ الجمعةِ القادمةِ: الصومُ وأثرُهُ في تربيةِ النفسِ د. محمد حرز بتاريخ: 9رمضان 1444هــ 31مارس 2023م

الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ البقرة185، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وليُّ الصالحين وَأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، خيرُ مَن صلَّى وصامَ، وبكَى من خشيةِ ربِّه حينَ قامَ، فاللهم صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وأصحابِهِ الأطهارِ الأخيارِ وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ. 

 أمّا بعدُ: فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الصائمون: اجعلُوا مِن صيامِكُم سببًا موصلًا إلى تقوى ربِّكُم جلَّ وعلا، قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) البقرة: 183 

أيُّها السادةُ:))الصومُ وأثرهُ في تربيةِ النفس)) عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا

أولًا: رمضانُ مدرسةُ الحلمِ.

ثانيـًـــا: معالمٌ تربويةٌ في رمضانَ.

ثالثًا وأخيرًا: النِّظَامُ والانْضِبَاطُ مِن أعظمِ المعالمِ التربويةِ في رمضانَ.

أيُّها السادةُ:  بدايةً ما أحوجَنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلى أنْ يكونَ حديثُنَا عن الصومِ وأثرهِ في تربيةِ النفسِ، وخاصةً ورمضانُ مدرسةُ التربيةِ، ورمضانُ شهرُ  الطاعاتِ والقرباتِ شهرُ الرحمةِ والتراحمِ  شهرُ الحلمِ والتغافرِ شهرُ الخيرِ والإحسانِ ، شهرٌ تزدادُ فيه الروحانياتُ الإيمانيةُ ، وتزدادُ فيه الأخلاقُ سموًا ورفعةً وجمالًا وبهاءً وتزدادُ فيه  النفس صفاء وجمالا ،وخاصةً والصيامُ مدرسةٌ لتقويةِ الإيمانِ ومدرسةٌ للتربيةِ على كلِّ خلقٍ طيبٍ وجميلٍ .

خـلِّ الـذنوبَ صغيرَهَا *** وكبيرَهَا ذاكَ الـتُقَى

واصنعْ كماشٍ فوقَ أرضِ *** الشوكِ يحذرُ ما يَرى

لا تـحـقـرنَّ صـغيرةً ***إنَّ الجبالَ مِن الحصَى

أولاً: رمضانُ مدرسةُ التربية. أيُّها السادةُ: مِمّا لا شكَّ فيهِ أنَّ شهرَ رمضانَ مَعلَمٌ مهمٌّ في تربيةِ النفوسِ وتزكيتِهَا وتطهيرِهَا ، ففيهِ مِن العباداتِ والأعمالِ الصالحةِ ما يجعلُ النفوسَ تنقادُ إلى ربِّ العالمين جلَّ جلاله، فتزكُو النفوسُ، وتتطهرُ القلوبُ، وتعيشُ الأرواحُ أجواءَ إيمانيةً مليئةً  بالبركاتِ والرحماتِ، ففي شهرِ رمضانَ يتربَّى المسلمُ على الكثيرِ مِن القيمِ والأخلاقِ والمبادئِ التي تهذبُ سلوكَهُ،  وتضبطُ نفسَهُ ، وتورثُه الذكرَ الحسنَ، والثوابَ الجزيلَ في الدنيا والآخرةِ، فرمضانُ فرصةٌ عظيمةٌ مِن اللهِ جلَّ وعلا  لتدريبِ النفسِ وتربيتِهَا وتهذيبِهَا، فغايةُ العباداتِ في الإسلامِ تربيةُ الروحِ وتقويمُ السلوكِ ومعالجةُ الانحرافاتِ وتوثيقُ الصلةِ بربِّ الأرضِ والسماواتِ، فهل مِن عزمٍ وإرادةٍ في نفسِ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ وصائمٍ وصائمةٍ للقيامِ بذلك، وكيف لا؟ وقد أمرَنَا اللهُ جلَّ وعلا بتزكيةِ النفوسِ، فقالَ جلَّ وعلا{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]، قبلَ أنْ يأتيَ يومٌ لا ينتفعُ الصائمُ بصومهِ ولا المُصلّي بصلاتهِ ولا المزكِّي بزكاتهِ. وفي صحيحِ مسلمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمتى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)، فرمضانُ شهرٌ للمراجعةِ والتغييرِ والتربيةِ والتهذيبِ للنفوسِ، وهو مدرسةُ الأخلاقِ ومدرسةٌ للتربيةِ على كلِّ خلقٍ طيبٍ وجميلٍ . أليسَ نبيُّ الإسلامِ ﷺ هو القائلُ كما في  الصحيحين (( وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ )) فالصيامُ مدرسةٌ تربويةٌ تُربِّي المُسلمَ على المبادِئِ الفُضلَى، والأخلاقِ العُظمَى، والمسالِك المُثلَى؛ لتُقيمَ مُجتمعًا إسلاميًّا راقيًا في أخلاقِه وسُلوكِه وتعامُلاتِه، فالصومُ يدفعُ المسلمَ ويوجهُهُ إلى ضبطِ النفسِ والحلمِ والعفوِ والصفحِ والتنازلِ والتسامحِ ونزعِ الغلِّ والحقدِ والبغضاءِ مِن القلوبِ، ليسَ على سبيلِ الجبنِ والخوفِ والضعفِ، ولكن على سبيلِ الطاعةِ للهِ، وإتباعٍ لأمرِ رسولِ اللهِ ﷺ، وطلبٍ للأجر والثواب، فإنْ سابَّهُ أحدٌ أو قاتلَهُ فليقلْ إنِّي امرؤٌ صائمٌ. هذا هو خلقُ الحلمِ والصفحِ والتنازلِ والتسامحِ وهو سيدُ الأخلاقِ مدحَهُ اللهُ في القرآنِ، وأمرَنَا بهِ، ووصفَ بهِ أنبيائَهُ ورسلَهُ عليهم الصلواتُ وأزكى السلام، وحثَّ عليهِ نبيُّنَا ﷺ وتخلقَ بهِ وأمرَ بهِ أصحابَهُ وأمتَهُ مِن بعدهِ إلى يومِ القيامةِ، فكم دفعَ الحلمُ عن صاحبهِ مِن مشاكلَ وفتنٍ ومصائب، وكم دفعَ الحلمَ عن صاحبهِ مِن بلايَا وشرورٍ، وكم رفعَ قدرَ الحلمِ صاحبَهُ بينَ الناسِ وأورثَهُ الذكرَ الحسنَ، وكم مِن حسناتٍ ثقّلَ اللهُ بهَا ميزانَ صاحبِ الحلمِ الذي صبرَ وكظمَ غيظَهُ وتفضّلَ على غيرهِ، قالَ جلّ وعلا {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ‌ بِالْعُرْ‌فِ وَأَعْرِ‌ضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، لَمّا أنْزَلَ اللَّهُ: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ . قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ما هَذا يا جِبْرِيلُ ؟ قالَ: لا أدْرِي حَتّى أسْألَ العالِمَ، فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَكَ أنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِيَ مَن حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَن قَطَعَكَ)) قالَ جلَّ وعلا{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63]، وقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُ‌ونَ} [الشورى:37]. لذا الحلمُ مِن أهمِّ الصفاتِ التي زكَّى اللهُ بهَا نبيَّهُ ﷺ، قالَ جلّ وعلا {فَبِمَا رَ‌حْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ  وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ‌ لَهُمْ وَشَاوِرْ‌هُمْ فِي الْأَمْرِ ‌فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. ويكفِى الحلمُ عزةً ورفعةً وعلوَّ شأنٍ أنَّه مِن أسماءِ اللهِ وصفةٌ مِن صفاتهِ، فهو سبحانَهُ وتعالى (الحليمُ)، يرى معصيةَ عبادهِ ومخالفتَهُم لأمرهِ ثُم يمهلُهُم ولا يسارع في عقوبتهِم مع اقتدارهِ واستحقاقهِم لهَا، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61]. وقد وصفَ نفسَهُ بالحلمِ في القرآنِ الكريمِ مرارًا وتكرارًا، قالَ جلَّ وعلا {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]، وقالَ جلَّ وعلا {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]، وأوصَى سبحانَهُ وتعالَى بالحلمِ والرفقِ ومجاهدةِ النفسِ عليهما وبيَّنَ آثارَهُمَا، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُ‌وا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:24-25]. والحلمُ مِن الصفاتِ التي يحبُّهَا اللهُ، فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهمَا قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ للأشجِّ -أشجِّ عبدِ القيسِ((إنَّ فيك خصلتين يحبُّهمَا اللهُ: الحِلْمُ، والأناةُ)) والحلمُ وضبطُ النفسِ مِن صفاتِ أنبياءِ اللهِ عليهم الصلاةُ والسلامُ، هذا إبراهيمُ الخليلُ عليه السلامُ قالَ اللهُ في حقِّهِ: {إِنَّ إِبْرَ‌اهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَ‌اهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود:75]. ويُبشّرهُ ربُّهُ  بابنٍ حليمٍ، ويكونُ الحلمُ مِن صفاتِ إسماعيلَ عليه السلام. قال تعالى: {فَبَشَّرْ‌نَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]. وهذا هودٌ عليه السلامُ نبيُّ اللهِ يتعرضُ للسبِّ والشتمِ والتسفيهِ مِن قومهِ، وهو مع ذلك كان في غايةِ الحلمِ على قومهِ يريدُ لهم الخيرَ والصلاحَ، قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:66-68]. أمَّا صفوةُ الخلقٍ وحبيبُ الحقِّ ﷺ فقد كان أكثرَ الخلقِ حلمًا، فيصبرُ ويصفحُ ويسامحُ ويتجاوزُ، حتى كسبَ بهذا الخلقِ قلوبَ الناسِ وانظرُوا إلى هذا الموقفِ الرائعِ: إنَّ اللهَ تعالى لمّا أرادَ هُدى زيدِ بنِ سُعنةَ قال زيدُ بنُ سُعنةَ ما من علاماتِ النبوةِ شيءٌ إلا وقد عرفتُها في وجهِ محمدٍ حين نظرتُ إليه إلا اثنتَينِ لم أُخبَرْهما منه يَسْبِقُ حلمُه جهلَه ولا يزيدُه شدةُ الجهلِ عليه إلا حلمًا فكنتُ ألطفُ له إلى أنْ أخالطَهُ فأعرفَ حلمَهُ مِنْ جهلِهِ قال زيدُ بنُ سُعنةَ فخرجَ رسولُ اللهِ ﷺ يومًا مِنَ الحُجُراتِ ومعه عليٌّ بنُ أبي طالبٍ فأتاهُ رجلٌ على راحلتِهِ كالبدويِّ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّ بقربي قريةَ بني فلانٍ قد أسلمُوا أو دخلُوا في الإسلامِ وكنتُ حدَّثتُهم إنْ أسلمُوا أتاهُم الرزقُ رغدًا وقد أصابتْهم سَنةٌ وشدَّةٌ وقحوطٌ مِنَ الغيثِ فأنا أخشى يا رسولَ اللهِ أن يخرجوا مِنَ الإسلامِ طمعًا كما دخلُوا فيه طمعًا فإن رأيتَ أن ترسلَ إليهم بشيءٍ تعينُهم به فعلتَ فنظر إلى رجلٍ إلى جانِبِه أراهُ عليًّا فقال يا رسولَ اللهِ ما بقِيَ منه شيءٌ قال زيدُ بنُ سُعنةَ فدنوتُ إليه فقلتُ يا محمد هل لك أن تبيعَنِي تمرًا معلومًا في حائطِ بني فلانٍ إلى أجلِ كذا وكذا فقال لا يا يهوديُّ ولكن أبيعُك تمرًا معلومًا إلى أجلِ كذا وكذا ولا تسمِّي حائطَ بني فلانٍ قلتُ نعم فبايعنِي فأطلقتُ هِمْياني فأعطيتُه ثمانين مثقالًا من ذهبٍ في تمرٍ معلومٍ إلى أجلِ كذا وكذا فأعطاه الرجلَ وقال اعدِلْ عليهم وأعِنهُم بها قال زيدُ بنُ سُعنةَ فلما كان قبلَ محلِّ الأجلِ بيومين أو ثلاثةٍ خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ومعه أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ في نفرٍ مِنْ أصحابِه فلما صلَّى على الجنازةِ وَدَنا مِنْ جِدَارٍ ليجلِسَ أتيتُه فأخذتُ بمجامعِ قميصِهِ ورداءِهِ ونظرتُ إليه بوجهٍ غليظٍ فقلتُ لهُ ألَا تقضيني يا محمدُ حقِّي فو اللهِ ما علمتُكم بني عبدِ المطلبِ لمُطلٌ ولقد كان لي بمخالطتِكم علمٌ ونظرتُ إلى عمرَ وإذا عيناه تدورانِ في وجهِهِ كالفَلَكِ المستديرِ ثم رماني ببصرِه فقال يا عدوَّ اللهِ أتقولُ لرسولِ اللهِ ما أسمعُ وتصنعُ به ما أرى فو الذي بعثه بالحقِّ لولا ما أحاذرُ فوتَه لضربتُ بسيفي رأسَكَ ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ينظرُ إلى عمرَ في سكونٍ وتُؤَدَةٍ وتبسُّمٍ ثم قال يا عمرُ أنا وهو كنا أحوجُ إلى غيرِ هذا أن تأمرَني بحسنِ الأداءِ وتأمرَه بِحُسْنِ الطلب اذهبْ به يا عمرُ فأعطِه حقَّه وزِدهُ عشرين صاعًا من تمرٍ مكان ما رُعتَه قال زيدٌ فذهبَ بي عمرُ فأعطاني حقِّي وزادني عشرين صاعًا من تمرٍ فقلتُ ما هذه الزيادةُ يا عمرُ قال أمرني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْ أزيدَك مكانَ ما رعتُكَ قال وتعرفُني يا عمرُ قال لا فما دعاكَ أنْ فعلتَ برسولِ اللهِ ما فعلتَ وقلتَ له ما قلتَ، قلتُ يا عمرُ لم يكن مِن علاماتِ النبوةِ شيءٌ إلّا وقد عرفتُه في وجهِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حين نظرتُ إليه إلا اثنتَين لم أُخبَرْهما منه يسبِقُ حلمُه جهلَه ولا يزيدُهُ شدَّةُ الجهلِ عليه إلا حلمًا فقد اختبرتُهما فأُشهدُكَ يا عمرُ أني قد رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ نبيًّا وأشهدُكَ أنَّ شطرَ مالي فإنِّي أكثُرها مالًا صدقةٌ على أمةِ محمدٍ قال عمرُ أو على بعضِهم فإنكَ لا تسعُهم قلتُ أو على بعضِهم فرجع عمرُ وزيدٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال زيدٌ أشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ،وآمنَ بهِ وصدقَهُ، وبايعَهٌ، وشهدَ معهُ مشاهدَ كثيرةً ثُم تُوفىَ في غزوةِ تبوك مقبلًا غيرَ مدبرٍ، رحمَ اللهُ زيدًا)) رواه ابن حبان والحاكم ،لذا نري الرسولَ ﷺ يطرحُ يومًا على  أصحابهِ سؤالًا، وهو يعرفُ الجوابَ عنه، لكنَّهُ ﷺ أرادَ أنْ يغيرَ المفاهيمَ، ويصححَ الأمورَ فيقول لهم كما في حديثِ  عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ قَالُوا الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ قَالَ لَا وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))رواه أبو داود، ولقد كان هذا المفهومُ الخاطئُ سائدًا بينَ العربِ في الجاهليةِ، وبه كان المعيارُ الذي يزنُ به الرجال، ويحتلُّ بهِ الرجلُ مِن القلوبِ كلَّ تقديرٍ واحترامٍ، ولا  عجبَ أنْ يقولَ شاعرٌ منهم:

  إذا بلغَ الفطامَ لنا رضيعٌ   ***   تخرُّ لهُ الجبابرةُ ساجدين.

وقال الإمامُ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه: ليس الخيرُ أنْ يكثرَ مالُكَ وولدُكِ، ولكنَّ الخيرَ أنْ يكثرَ علمُكَ ويعظمَ حلمُكَ، وأنْ لا تباهِي الناسَ بعبادةِ اللهِ، وإذا أحسنتَ حمدتَ اللهَ تعالى، وإذا أسأتَ استغفرتَ اللهَ تعالى. وإنَّ مِمّا يَستجلبُ العبدُ عفوَ اللهِ عنهُ بعفوهِ عن الناسِ، ولينِ الجانبِ معهم، وخفضِ الجناحِ لهم، فعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: “اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي” رواه الترمذي. فما أحوجَنَا إلى حلمِ الوالدِ في بيتهِ، وحلمِ التاجرِ في سوقهِ، وحلمِ القاضِي في محكمتهِ، وحلمِ الموظفِ في إدارتهِ، وحلمِ الجارِ مع جيرانهِ، وحلمِ المعلمِ مع طلابهِ، وحلمِ الداعيةِ مع مَن حوله.

عبادَ اللهِ: لنتخذَ مِن شهرِ رمضانَ وفريضةِ الصيامِ طريقًا ووسيلةً لتربيةِ نفوسِنَا على خلقِ الحلمِ وضبطِ النفسِ والصفحِ والتجاوزِ عن الهفواتِ والزلاتِ. ولننظرْ في أحوالِ الفقراءِ والمساكين والمحتاجين. ولنتزودْ مِن الأعمالِ الصالحةِ ليومِ تبيضُّ فيهِ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ.

ثانيـًـــا: معالمٌ تربويةٌ في رمضانَ.

أيُّها السادةُ الأخيار: لَقَدْ نزلَ بِسَاحَتِكُمْ شهرٌ كريمٌ عظيمٌ، ومَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بِمَوسِمٍ عَظِيمٍ، شَهْرٌ يُضَاعَفُ فِيهِ ثَوابُ الطَّاعَاتِ، وتُكَفَّرُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ، وتُرفَعُ فِيهِ الدَّرَجَاتُ، للهِ فِيهِ نَفَحَاتٌ، مَنْ طَلَبَها نَالَهَا، فَعَنْ أَبِي هُرِيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، ولِرَمَضَانَ مِنْ آثَارٍ ومعالم تَرْبَوِيَّةٍ واجتِمَاعِيَّةٍ مُهِمَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ الحَاجَةَ التِي تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ طَلَبًا وإِلحَاحًا، هِيَ مَعْرِفَةُ كَيْفَ نَستَغِلُّ رَمضَانَ لِلرُّقِيِّ بِالنَّفْسِ تَهذِيبًا وإِصلاَحًا، فَقَدْ شُرِعَ الصَّومُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْمُوَ النَّفُوسُ البَشَرِيَّةُ إِلَى عَالَمِ الخَيْرِ، ولِلتَّرويضِ عَلَى الصِّفَاتِ النَّبِيلَةِ التِي تُؤَهِّلُها لِلسَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، قَالَ جل وعلا ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) ، فالصيامُ مَدْرَسَةٌ إِيمَانِيَّةٌ، تُرَبِّي الفَرْدَ عَلَى الإِخْلاَصِ والمُراقَبَةِ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، يَبتَعِدُ فِيهَا الصَّائِمُ طَواعِيَةً عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ، يَبتَعِدُ عَنِ المَعْصِيَةِ رَغْمَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا، ويُقْبِلُ عَلَى الطَّاعَةِ لِيَنَالَ الجَنَّةَ ونَعِيمَها، فَهُوَ يَعْمُرُ أَيَّامَ هَذَا الشَّهْرِ بِصِيَامِها، ويُحْيِي لَيَالِيَهِ بِقِيَامِهَا، يَدْفَعُهُ إِلَى ذَلِكَ صِدْقُ الخَوْفِ والرَّجَاءِ، وحُسْنُ الاستِعْدَادِ لِيَوْمِ العَرْضِ عَلَى رَبِّ الأَرضِ والسَّمَاءِ، قَالَ ربُّنَا ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) ، فِي جَوْفِ اللَّيْلِ حِينَ تَهْدَأُ حَرَكَةُ الخَلْقِ، يَقُومُ المُؤمِنُ مُتَضَرِّعاً بَيْنَ يَدَيِ الحَقِّ، يُرَتِّلُ القُرآنَ، مُوقِنًا بِمَا فِيهِ مِنَ النَّذِيرِ والبِشَارَةِ بِالجِنَانِ، قَالَ تَعَالَى: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً)) ، إِنَّ المُؤمِنَ الذِي يَتَربَّى فِي مَدْرَسَةِ الصِّيَامِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ فِي نَهَارِهِ وَلَيْلِهِ، حَرِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِلإخْلاَصِ فِي العَمَلِ، والبُعْدِ عَنِ التَّسْوِيفِ والكَسَلِ، يَتَربَّى فِيهَا الصَّائِمُ أَنْ لاَ أَمَلَ ولاَ أُمنِيَاتٍ، إِلاَّ بِالجِدِّ والاجتِهَادِ والسَّهَرِ والتَّضْحِيَاتِ، وَلَئِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ ويَصْعُبُ عَلَيْها، إِلاَّ أَنَّ الصِّيَامَ يُعَوِّدُها عَلَى الصَّبْرِ والإِرَادَةِ ويُرَبِّيهَا، وَكَيْفَ لاَ؟ وفِي الأَثَرِ أَنَّ ((الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ))بل  إِنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ كَبْتاً لِلْمَشَاعِرِ والرَّغَبَاتِ، بَلْ هُوَ سُمُوٌّ بِالرُّوحِ والعَزَائمِ والإِرَادَاتِ، فَالصَّائِمُ يَتْرُكُ الشَّرَابَ والطَّعَامَ، ويَبتَعِدُ عَنِ الذُّنُوبِ والآثَامِ، ويَتَجَنَّبُ كُلَّ مَا يَجِبُ تَرْكُهُ مِنَ المَحْظُورِ والحَرَامِ، إِنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُخْتَارًا دُونَ غَصْبٍ أَو إِكْرَاهٍ، بَلْ طَمَعًا فِي عَفْوِ اللهِ سُبْحَانَهُ ورِضَاهُ، وخُضُوعًا حُرًّا لِشَرْعِهِ وهُدَاهُ ، فَطَاعَةُ النَّفْسِ وهَواهَا، وتَلْبِيَةُ مُرَادِها ومُبتَغَاهَا ، قَالَ جل وعلا ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) ، فَإِذَا كَانَ هَذَا خِطَابُ اللهِ لِلرَّسُولِ المُصطَفَى دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَكَيْفَ بِبَقِيَّةِ الأَنَامِ؟!، إِنَّ مُخَالَفَةَ الهَوَى والمَلَذَّاتِ، وضَبْطَ الحَاجَاتِ والرَّغَبَاتِ، سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّعِيمِ فِي الجَنَّاتِ، قَالَ جل وعلا ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))(8)، وإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَمَا أَجْدَرَ المُسلِمينَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وعَلَى مُستَوى الأَفْرَادِ والأُسَرِ، أَنْ يَقْفِوا مَعَ مَطَالِبِهِمْ وَمَصَارِيفِهِمْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ وَنَظَرٍ، لِيُرَشِّدُوا استِهْلاَكَهُمْ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ ولاَ بَطَرٍ، وإِنَّ هَذِهِ المُحَاسَبَةَ لَتَتَضَاعَفُ حَاجَتُها، أَمَامَ مَا يُعَايِشُهُ النَّاسُ مِنْ ارتِفَاعِ الأَسْعَارِ والغَلاَءِ، لِيُخَفِّفُوا بِتَرشِيدِ استِهلاَكِهِمْ وَطْأَةَ الشِّدَّةِ والعَنَاءِ، والمُؤمِنُ الحَقُّ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ المَقْدِرَةَ عَلَى ضَبْطِ نَفَقَتِهِ ومَصْروفَاتِهِ، وَفْقاً لِمُوازَنَةٍ مَوضُوعِيَّةٍ بَيْنَها وبَيْنَ قُدُرَاتِهِ، ويَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ دَافِعٌ لِكُلِّ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ لِلتَّعَاوُنِ عَلَى هَذِهِ الفَضِيلَةِ، والتَّزَوُّدِ مِنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الجَلِيلَةِ، فَفِيهِ تَرْبِيَةٌ عَمَلِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، تَقِي مَنِ استَوعَبَها كَثِيرًا مِنَ الأَضْرَارِ والمَهَالِكِ، فَفِيهِ التَّعَوُّدُ لِحُسْنِ الاقتِصَادِ، والبُعْدِ عَنِ الإِسرَافِ والتَّبْذِيرِ، فِي بُرْهَانٍ وَاضِحٍ عَمَلِيٍّ، عَلَى قَبُولِ النَّفْسِ لِضَوابِطِ الهَدْيِ الإِلَهِيِّ، فِي مَأْكَلِها وَمَشْرَبِها، ،فَيَا أَيَّتُها الأُسْرَةُ الكَرِيمَةُ، و يَا نِسَاءَنا ذَواتِ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، لَقَدْ آنَ لَنَا السَّعْيُ إِلَى الاقتِصَادِ فِي الإِنْفَاقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، وَنَجَاةٌ مِنَ المَتَاعِبِ المَالِيَّةِ والإِرهَاقِ.

وعَلَيْنَا أيُّها الأخيارُ أَنْ نُعَلِّمَ أَبْنَاءَنَا على أنَّ أَحَدَ أَهْدَافِ الصَّومِ هُوَ الشُّعُورُ بِجُوعِ الفُقَراءِ، وتَروِيضُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ وتَحَمُّلِ الشَّدائِدِ، وتَغْذِيَةُ الرُّوحِ بِطَاعَةِ رَبِّهَا مَعَ الإِقْلاَلِ مِنْ تَغْذِيَةِ الجَسَدِ، والوُصُولُ بِالمُسْلِمِ إِلَى تَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ والعَلَنِ، قَالَ تَعَالَى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))(9)، عَلَيْنَا أَنْ نُعَلِّمَ أَبْنَاءَنَا أَنَّ الصَّومَ يَعْنِي كَفَّ أَذَى اللِّسَانِ والجَوَارِحِ عَنِ الغَيْرِ، وغَضَّ البَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ تَعَالَى، فَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ صَلاَةَ لَهُ، ولاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ، ولاَ صَوْمَ إِلاَّ بِالكَفِّ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ))، عَلَيْنَا أَنْ نَحْـفِزَهُمْ بِأَنَّ ثَوَابَ الصَّائمِينَ لاَ حُدَودَ لَهُ، وأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ وَحْدَهُ الذِي يُقَرِّرُ مِقْدَارَهُ؛ لأَنَّ الصَّومَ عِبَادَةُ إِخْلاَصٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولاَ يَعْرِفُ مَدَى صِدْقِهَا والإِخْلاَصِ فِيهَا إِلاَّ هُوَ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها، إِلَى سَبْعِمِائةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِلاَّ الصَّومَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)):

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واحرِصُوا عَلَى الاستِفَادَةِ مِنْ شَهْرِكُمْ، حَصِّنُوا بِصَوْمِهِ أَخْلاَقَكُمْ، وَرَبُّوا عَلَى فَضَائِلِهِ أَولاَدَكُمْ، تَنَالُوا رِضَا رَبِّكُم .

ومِن أهمِّ معالمِ التربيةِ في رمضانَ: الشعورُ بوحدةِ الأمةِ: وأنت تصومُ هذا العامَ وتفطرُ على ما رزقَكَ اللهُ مِن خيرهِ وفضلهِ، تذكرْ إخوانَكَ المبتلين في كلِّ مكانٍ، فاستشعرْ معاناتِهِم وآلامَهُم، وابذلْ لهم مِن مالِكَ ودعائِكَ ما تستطيع، واحمدْ ربَّكَ على نعمةِ العافيةِ.

 ومِن أهمِّ معالمِ التربيةِ في رمضانَ: البعدُ عن الغيبةِ والنميمةِ والسبِّ والشتمِ والكذبِ، وهي معاصٍ يجبُ الحذرُ منها واجتنابهَا مِن الصائمِ وغيرهِ، إذ إنَّها تجرحُ الصومَ وتُضعِفُ الأجرَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))رواه البخاري.. فالصومُ ليسَ مجردَ الإمساكِ عن الطعامِ والشرابِ والجِماعِ مِن الفجرِ حتى غروبِ الشمسِ، كلّا، فهناكَ حِكَمٌ وأسرارٌ هذا بعضُهَا، لكننَا نرَى كثيرًا مِن الناسِ تصومُ بطنُهُ ولا تصومُ جوارحُهُ، فيصومُ عن الحلالِ المباحِ، ويتناولُ ما حرّمَ اللهُ مِن المنكراتِ كقولِ الزورِ وفعلِ الزورِ، فلا يتورعُ بلسانهِ عمَّا حرَّمَ اللهُ، ولا يغضُّ بصرَهُ كذلك عن المحرماتِ، ويقعُ بيدهِ ورجلهِ في المحرماتِ، بل ربَّمَا يفطرُ عندَ إفطارهِ على كسبِ محرمٍ أو على التدخينِ المحرمِ  ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللهِ.

احْفَظْ لِسَانَك أَيُّهَا الْإِنْسَانُ   ***         لَا يَلْدَغَنَّكَ إنَّهُ ثُعْبَانُ

كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قتيل  لِسَانِهِ   ***   كَانَتْ تَهَابُ لِقَاءَهُ الشُّجْعَانُ

أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ .

ثالثًا وأخيرًا: النِّظَامُ والانْضِبَاطُ مِن أعظمِ المعالمِ التربويةِ في رمضانَ.

أيُّها السادةُ: النِّظَامُ والانْضِبَاطُ مَطْلَبٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ مَطَالِبِ النَّجَاحِ فِي الحَيَاةِ، وطَرِيقٌ لِلْفَوْزِ والظَّفَرِ والنَّجَاةِ، والعَبَثُ والفَوضَى لاَ مَكَانَ لَهَا فِي قَامُوسِ المُسلِمينَ، بَلْ نَفَى اللهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ غَايَةً مِنْ خَلْقِ العَالَمِينَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)) ، وَرَمضَانُ هُوَ مَدْرَسَةُ الانْضِبَاطِ والاحتِرَامِ لِلآخَرِ فِي المَواعِيدِ، فَهُوَ دَرْسٌ فِي الالتِزَامِ بِها، يُعَلِّمُ النَّاسَ المُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، ولَوْ وَقَفْنَا لِنَرَى كَيْفَ أَنَّ رَمَضَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ النِّظَامَ والانضِباطَ، فَالصِّيَامُ فِي شَهْرٍ مَعْلُومٍ، وَوَفْقَ مِعْيَارٍ مَحْكُومٍ، إِنَّهُ مَحْكُومٌ بِالرُّؤيَةِ الشَّرعِيَّةِ لِلْهِلاَلِ، كَمَا قَالَ اللهُ ذُو الجَلاَلِ والكَمَالِ: ((وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) ، والصِّيَامُ لاَ يُرَبِّينَا عَلَى الحِفَاظِ عَلَى الوَقْتِ فَحَسْبُ، بَلْ عَلَى الضَّبْطِ فِيهِ والاستِفَادَةِ مِنْهُ، فَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وأَدْبَرَ النَّهَارُ وغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ))، وعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ))، وعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتَمَراتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمَراتٌ حَسَا حَسَواتٍ مِنْ مَاءٍ))، إِنَّ أُمَّةً تَتَربَّى فِي هَذَا الشَّهْرِ الفَضَيلِ، عَلَى هَذَا الخُلُقِ النَّبِيلِ، وتَنْتَظِمُ بِذَلِكَ النِّظَامِ الرَّائِعِ الجَلِيلِ، تَكُونُ -بِحَقٍّ- أُمَّةً جَدِيرَةً بِالرُّقِيِّ والازْدِهَارِ، وخَلِيقَةً بِكُلِّ مُقَوِّمَاتِ الأَمْنِ والاستِقْرَارِ، وإِنَّ الصِّيَامَ الذِي لاَ يُحَقِّقُ مَعنَاهُ، فَلاَ يَشْعُرُ الصَّائِمُ بِأُنْسِ عِبَادَتِهِ، ولاَ يَفْتَحُ قَلْبَهُ لِذِكْرِ مَولاَهُ، ولاَ يُهَذِّبُ نَفْسَهُ، ولاَ يُقَوِّمُ أَخْلاَقَهُ، ولاَ يُرَوِّضُهُ عَلَى الصَّبْرِ؛ فَهُوَ صُورَةُ الصِّيَامِ لاَ حَقِيقَتُهُ، وهَذَا الشَّكْلُ مِنَ الصِّيَامِ الأَجْوَفِ هُوَ الذِي حَذَّرَ مِنْهُ نَبِيُّنَا ﷺ، فَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((رُبَّ صَائمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوع ُوالعَطَشُ، ورُبَّ قَائمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ((فيا أيُّها الصائمُ! تعلَّمْ مِن الصومِ حُسنَ الأخلاقِ، وجميلَ الطِّباعِ، ومحاسِنَ العاداتِ والسُّلوكِ، تفُزْ بعظيمِ الأجرِ مِن اللهِ – جلَّ وعلا- وبدخولِ جنة النعيمِ  جعلنَا اللهُ وإياكُم من أهلِ النعيمِ.

حفظَ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.

                                                       كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه

د/ محمد حرز     إمام بوزارة الأوقاف

 _______________________________

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة

 

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة

 

تابعنا علي الفيس بوك

 

الخطبة المسموعة علي اليوتيوب

 

للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات

 

للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة

 

للمزيد عن أخبار الأوقاف

 

للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف

 

للمزيد عن مسابقات الأوقاف

اظهر المزيد

كتب: د.أحمد رمضان

الدكتور أحمد رمضان حاصل علي الماجستير من جامعة الأزهر بتقدير ممتاز سنة 2005م ، وحاصل علي الدكتوراه بتقدير مع مرتبة الشرف الأولي من جامعة الأزهر الشريف سنة 2017م. مؤسس جريدة صوت الدعاة ورئيس التحرير وكاتب الأخبار والمقالات المهمة بالجريدة، ويعمل بالجريدة منذ 2013 إلي اليوم. حاصل علي دورة التميز الصحفي، وقام بتدريب عدد من الصحفيين بالجريدة. للتواصل مع رئيس التحرير على الإيميل التالي: [email protected] رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) للمزيد عن الدكتور أحمد رمضان رئيس التحرير أضغط في القائمة علي رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »
error: Content is protected !!