خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور خالد بدير
بتاريخ 27 جماد أول 1446 هـ ، الموافق 29 نوفمبر 2024م
خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 27 جماد أول 1446 هـ ، الموافق 29 نوفمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م ، للدكتور خالد بدير بعنوان : الحياء خير كله :
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م ، للدكتور خالد بدير بعنوان : الحياء خير كله ، بصيغة pdf أضغط هنا.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : الحياء خير كله : كما يلي:
أولًا:منزلةُ الحياءِ.
ثانيًا : أقسامُ الحياءِ.
ثالثًا: صورٌ مِن حياءِ الأنبياءِ والصالحينَ.
رابعًا: وسائلُ اكتسابِ الحياءِ.
ولقراءة جزء من خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : الحياء خير كله : كما يلي:
الحياءُ خيرٌ كلُّهُ
27 جمادى الأولى 1446هـ – 29 نوفمبر 2024م
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
العنصر الأول من خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور خالد بدير
أولًا: منزلةُ الحياءِ.
إنَّ الحَيَاءَ خاصيَّةٌ مِن الخصائصِ التي حبَا اللهُ بهَا الإنسانُ؛ ليبتعدَ عن مزاولةِ الذُّنوبِ والمعاصِي والشَّهواتِ.
والحَيَاءُ شَرعًا: خُلُقٌ يَكُفُّ العَبدَ عَنِ ارتِكَابِ القَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى فِعلِ الجَمِيلِ، وَيَمنَعُهُ مِنَ التَّقصِيرِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الحَقِّ، وَهُوَ مِن أَعلَى مَوَاهِبِ اللَّهِ لِلعَبدِ، وذلك لِعُلُوِّ مَنزِلَتِهِ، وَجَلِيلِ قَدْرِهِ، وَسُمُوِّ مَحَلِّهِ، وَرِفعَةِ شَأنِهِ، وَعَظِيمِ نَفعِهِ، ولِمَا فيهِ مِن الخيرِ العظيمِ. فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي اللهُ عنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» ( متفق عليه )، وفي روايةٍ لمسلمٍ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ». كمَا أنَّ الحياءَ شعبةٌ مِن شعبِ الإيمانِ الذي هو عقيدةُ المسلمِ وقوامُ حياتِهِ. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ”. (البخاري ومسلم)، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الـحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ»،(الحاكم وصححه)، وسرُّ كونِ الحياءِ مِن الإيمانِ أنَّ كلًّا منهمَا داعٍ إلى الخيرِ صارفٌ عن الشرِّ مُبعدٌ عنهُ، فالإيمانُ يبعثُ المؤمنَ على فعلِ الطاعاتِ وتركِ المعاصِي، والحياءُ يمنعُ صاحبَهُ مِن التقصيرِ في الشكرِ للمنعمِ ومِن التفريطِ في حقِّ ذي الحقِّ، كمَا يمنعُ الحييَّ مِن فعلِ كلِّ قبيحٍ وذميمٍ، ومِن هنَا كان الحياءُ خيرًا، ولا يأتِي إلّا بخيرٍ.
إِنَّ الوَجْهَ المَصُوْنَ بِالحَيَاءِ، كَالجَوْهَرِ المَكْنُوْنِ فِي الوِعَاءِ، وَكَاللَّآلِئِ فِي البِحَارِ، وَكَاللُّبَابِ فِي الثِّمَارِ، وَلَنْ يَتَزَيَّنَ إِنْسَانٌ بِزِيْنَةٍ، هِيَ أَبْهَى وَلَا أَجْمَلُ مِنَ الحَيَاءِ. فعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ».(ابن ماجة والترمذي).
إنَّ المعاصِي التي يرتكبُهَا العبدُ تذهبُ منهُ الحياءَ، كما جاءَ في الحديثِ الشريفِ: ” إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ”. (أبو داود وابن ماجة)، قالَ ابنُ القيمِ-رحمَهُ اللهُ-:” مِن عقوباتِ المعاصِي ذهابُ الحياءِ الذي هو مادةُ حياةِ القلبِ، وهو أصلُ كلِّ خيرٍ، وذهابُهُ ذهابُ الخيرِ أجمعِهِ. فقد جاءَ في الحديثِ الصحيحِ: ” الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ “( الداء والدواء)، قالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: “ «مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ» “. (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا).
العنصر الثاني من خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله
ثانيًا : أقسامُ الحياءِ.
اعلمُوا – أيُّهَا الإخوةُ المسلمونَ – أنَّ حيَاءَ العبدِ ينقسمُ إلى أربعةِ أقسامٍ:
1– الحياءُ مِن اللهِ تعالَى: وذلك بامتثالِ أوامرِهِ والكفِّ عن زواجرِهِ. فقد رُوِى عَن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «استَـحيُوا مِنَ اللَّـهِ حَقَّ الـحَيَاءِ» قَالَ: قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنَّا نَستَـحْيِي وَالـحَـمدُ لِلَّـهِ؛ قَالَ: «لَـيسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِستِحيَاءَ مِنَ اللَّـهِ حَقَّ الـحَيَاءِ: أَن تَـحفَظَ الرَّأسَ وَمَـا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَـا حَوَى، وَلتَذكُرِ الـمَوتَ وَالبِلَـى؛ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ، تَـرَكَ زَيـنَةَ الدُّنـيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ استَـحيَا مِنَ اللَّـهِ حَقَّ الـحَيَاءِ» (أحمد والترمذي)، وَاعلَم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاظِرٌ إِلَيكَ، مُطَّلِعٌ عَلَيكَ، فَإِنَّ مَنْ عَلِـمَ أَنَّ اللَّـهَ يَـرَاهُ حَيثُ كَانَ، وَأَنَّـهُ مُطَّلِعٌ عَلَـى بَاطِنِـهِ وَظَاهِرِهِ وَسِـرِّهِ وَعَلَانِـيَتِـهِ، وَاستَـحضَـرَ ذَلِكَ فِـي خَلَوَاتِـهِ، أَوجَبَ لَـهُ ذَلِكَ تَـركَ الـمَعَاصِـي فِـي السِّـرِّ. قَالَ القَحطَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَإِذَا خَلَوتَ بِـرِيبَةٍ فِـي ظُلـمَةٍ …………….. وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَـى الطُّغيَانِ
فَاستَـحْيِ مِن نَظرِ الإِلَهِ وَقُل لَـهَا …………… إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَـرَانِـي
2– الحياءُ مِن الملائكةِ: فمِن المعلومِ أنَّ اللهَ قد جعلَ فينَا ملائكةً يتعاقبونَ علينَا بالليلِ والنهارِ، وهناكَ ملائكةٌ يصاحبونَ أهلَ الطاعاتِ، كالخارجِ في طلبِ العلمِ، والمجتمعينَ على مجالسِ الذكرِ، والزائرِ للمريضِ، وغيرِ ذلكَ. وأيضًا هناكَ ملائكةٌ لا يفارقونَنَا وهم الحفظةُ والكتبةُ، قالَ تعالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ}. (الانفطار: 10 ، 11)، فعلَى المؤمنِ إذاً أنْ يستحِيَ مِن الملائكةِ الكرامِ، فالحياءُ مِن الكريمِ مِن صفاتِ الكرامِ، ولا ألأمَ مِمَّن لا يستحِيي مِن الكريمِ. ويكونُ ذلك: بالبعدِ عن المعاصِي والقبائِحِ، وإكرامهُم عن مجالِسِ الخنَا، وأقوالِ السوءِ، والأفعالِ المذمومةِ المستقبحةِ، يقولُ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلَى في قولِهِ تعالَى:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق: 21)، “ما علَى أحدكُم إذَا خلَى أنْ يقولَ: اكتبْ رحمكَ اللهُ. فيُملِي خيراً” (حلية الأولياء). ومرادُهُ مِن ذلكَ: أنْ يحسنَ العملَ، فيكتبُ الكاتبونَ في صحائِفِهِ خيراً حياءً مِن اللهِ ومِن ملائكتِهِ، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» (الترمذي)، قالَ الإمامُ الرازِيُّ: “إنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ أَعْمَالَهُ كَانَ إِلَى الْحَذَرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَقْرَبَ، لِأَنَّ مَنْ آمَنَ يَعْتَقِدُ جَلَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَعُلُوَّ مَرَاتِبِهِمْ، فَإِذَا حَاوَلَ الْإِقْدَامَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهَا زَجَرَهُ الْحَيَاءُ مِنْهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُحْصِي عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا رَادِعًا لَهُ عَنْهَا، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَكْتُبُونَهَا كَانَ الرَّدْعُ أَكْمَلَ ” . (تفسير الرازي).
3– الحياءُ مِن الناسِ: وذلكَ بكفِّ الأذَى وتركِ المجاهرةِ بالقبيحِ، فقد رُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ أَتَى الْجُمُعَةَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ انْصَرَفُوا فَتَنْكَبَّ الطَّرِيقَ عَنْ النَّاسِ، وَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنْ النَّاسِ. (أدب الدنيا والدين للماوردي)، قارنْ بينَ ذلكَ وبينَ مَن يجاهرونَ بالزنَا والمسكراتِ وفعلِ المنكراتِ دونَ وازعٍ مِن دينٍ أو حياءٍ!!!
4– الحياءُ مِن النفسِ: ويكونُ بالعفةِ وصيانةِ الخلواتِ، وقالَ بعضُ السلفِ: ليكنْ استحياؤُكَ مِن نفسِكَ أكثرَ مِن استحيائِكَ مِن غيرِكَ. وقِيلَ: “مَن عملَ في السرِّ عملاً يستحِي منهُ في العلانيةِ فليسَ لنفسِهِ عندَهُ قدرٌ”(فيض القدير).
العنصر الثالث من خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله
ثالثًا: صورٌ مِن حياءِ الأنبياءِ والصالحينَ.
لقد اتصفَ الأنبياءُ والصالحونَ بخُلقِ الحياءِ، فقد جاءَ في وصفِ موسَى عليهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ حييًّا ستِّيرًا، حتى كانَ يسترُ بدنَهُ، ويستحِي أنْ يظهرَ ممَّا تحتَ الثِّيابِ شيئًا حتى ممَّا ليسَ بعورةٍ. وبسببِ تستُّرهِ الزَّائدِ، آذاهُ بعضُ بنِي إسرائيلَ في أقوالِهِم، فقالُوا: ما يبالغُ في سترِ نفسِهِ إلَّا مِن عيبٍ في جسمِهِ، أو مِن أُدْرَةٍ هو مصابٌ بهَا . “أي نفخةٌ في الخصيةِ”. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَ اللَّهِ إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} (الأحزاب:69)”.( البخاري). وحياءُ موسَى الزائدُ كان مِن همتِهِ العليةِ التي تنشدُ الكمالَ، وقد رأَى في ذوقِهِ الرفيعِ أنَّ سترَ بدنِهِ أكثرَ كمالاً مِن كشفِهِ، فكانَ يستحِيي مِن كشفِهِ للناسِ.
كما أنَّ وصفَ الحياءِ كان ملازماً لهُ ﷺ، فعن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ-رضي الله عنه- قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا, وَكَانَ إذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ”(متفق عليه)، وقوله ﷺ في عثمان رضي الله عنه: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ».(مسلم) دليلٌ على حيائِهِ ﷺ وهو خلقُ الأنبياءِ، وقد جاءَ عنهُ ﷺ:” أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِينَ: الحَيَاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ “.(سنن الترمذي).
وهذا عثمانُ بنُ عفانَ رضي اللهُ يقولُ ﷺ فيهِ: “وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ “. (الترمذي وابن ماجة).
وهذا أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي اللهُ عنهُ: خطبَ النَّاسَ يومًا، فقالَ: “يا معشرَ المسلمينَ، استحيوا مِن اللهِ، فو الذي نفسِي بيدِهِ إنِّي لأظلُّ حينَ أذهبُ الغائطَ في الفضاءِ متقنِّعًا بثوبِي استحياءً مِن ربِّي عزَّ وجلَّ” .( حلية الأولياء).
وهذا عليٌّ بنُ أبِي طالبٍ رضي اللهُ عنهُ يقولُ: “ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ». (متفق عليه)، وكان الرَّبيعُ بنُ خُثَيمٍ مِن شدَّةِ غضِّهِ لبصرِهِ وإطراقِهِ يَظُنُّ بعضُ النَّاسِ أنَّهُ أعمَى، وكان يختلفُ إلى منزلِ ابنِ مسعودٍ عشرينَ سنةً، فإذا رأتْهُ جاريتُهُ قالتْ لابنِ مسعودٍ: صديقُكَ الأعمَى قد جاءَ، فكان يضحكُ ابنُ مسعودٍ مِن قولِهَا، وكان إذا دقَّ البابَ تخرجُ الجاريةُ إليهِ فتراهُ مطرقًا غاضًّا بصرَهُ.(إحياء علوم الدين). ولما احتُضرَ الأسودُ بنُ يزيدٍ بكَى، فقِيلَ لهُ: ما هذا الجزعُ؟ قال: ما لِي لا أجزعُ؟ ومَن أحقُّ منِّي بذلكَ؟ واللهِ لو أُتيتُ بالمغفرةِ مِن اللهِ لأهمَّنِي الحَيَاءُ منهُ ممَّا قد صنعتُ، وإنَّ الرَّجلَ ليكونُ بينَهُ وبينَ الرَّجلِ الذَّنْبُ الصَّغيرُ، فيعفُو عنهُ، ولا يزالُ مستحييًا منهُ.(حلية الأولياء).
وهكذا كان الحياءُ خُلُقًا ملازمًا للأنبياءِ عليهمُ السلامُ، والصالحينَ رضي اللهُ عنهُم وأرضاهُم أجمعين.
العنصر الرابع من خطبة الجمعة بعنوان : الحياء خير كله
رابعًا: وسائلُ اكتسابِ الحياءِ.
تعالُوا بنَا لنعرفَ وسائلَ اكتسابِ الحياءِ؛ لأنَّ البعضَ يظنُّ أنَّ الحياءَ أمرٌ فطريٌّ لا يمكنُ اكتسابهُ، ويقولُ: ربُّنَا خلقنِي هكذا، وهذا فهمٌ خاطئٌ، فقد قالَ الإمامُ أبو حاتمٍ: “الواجبُ على العاقلِ أنْ يعودَّ نفسَهُ لزومَ الحياءِ مِن الناسِ” (روضة العقلاء)، وقال الصنعانِيُّ: “والحياءُ وإنْ كان غريزةً فهو في استعمالِهِ على وفقِ الشرعِ يحتاجُ إلى اكتسابٍ وعلمٍ ونيّةٍ، فلذلكَ كانَ مِن الإيمانِ” (سبل السلام )، ومِن الوسائلِ المعينةِ على اكتسابِ الحياءِ والتحلِّي بهِ ما يلِي:
أولًا: الدعاءُ: وهو سلاحُ المؤمنِ، فيلجأُ إلى ربِّهِ، ليرزقَهُ الحياءَ، وقد كان النبيُّ ﷺ يقولُ في دعاءِ الاستفتاحِ: “ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ” (مسلم)، ولا ريبَ أنَّ الحياءَ مِن الأخلاقِ الحسنةِ.
ثانيًا: مراقبةُ اللهِ تعالى: ومِن ثمَّ فيقوَى الإيمانُ في القلبِ بزيادةِ الطاعاتِ واجتنابِ المنكراتِ، قال ابنُ القيّمِ: “إنَّ العبدَ متَى علمَ بنظرهِ إليهِ، ومقامهِ عليهِ، وأنَّهُ بمرأَى منهُ ومسمعٍ، وكانَ حيياً, استحيىَ مِن ربِّهِ أنْ يتعرضَ لمساخطِهِ”. (طريق الهجرتين) .
ثالثًا: محاسبةُ النفسِ: وذلكَ بنقدِ النفسِ إذا ارتكبتْ ما يخلُّ بالحياءِ، وحملِهَا على ألَّا تعودَ إليهِ مرةً أُخرَى، مع أخذِهَا بمبدأِ الثوابِ، فإذا أحسنتْ أراحَهَا، وأرسلَهَا على سجيتِهَا بعضَ الوقتِ في المباحِ، وإذا أساءتْ وقصَّرتْ أخذَهَا بالحزمِ والجدِّ، وحرمهَا مِن بعضِ ما تريد، فإنَّ ذلكَ يؤدِّي إلى تعديلِ سلوكِ المرءِ نحوَ الأفضلِ.
رابعًا: معرفةُ اللهِ تعالَى: وذلكَ مِن خلالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ التي تستوجبُ مراقبتَهُ، كالرقيبِ والسميعِ والبصيرِ، فإنْ أمعنَ في ذلكَ نمَا في قلبِهِ تعظيمُ اللهِ تعالَى. قالَ حاتمُ الأصمُّ: “تعاهدْ نفسَكَ في ثلاثِ مواضع: إذا عملتَ: فاذكرْ نظرَ اللهِ تعالَى عليك، وإذا تكلمتَ: فانظرْ سمعَ اللهِ منكَ، وإذا سكتَّ: فانظرْ علمَ اللهِ فيكَ”. (حلية الأولياء).
خامسًا: شكرُ النعمِ: فإنَّ نعمَ اللهِ تعالَى على عبادِهِ تترَى، وأفضالَهُ على خلقِهِ لا تُحصَى ، واللهُ يقولُ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)، وبالتالِي فإنَّ الإنسانَ إذا تأملَ في نعمِ اللهِ عليهِ وتقلبهِ فيهَا، أدَّى ذلكَ إلى حياءِهِ مِن اللهِ-عزَّ وجلَّ-، قال ابنُ حجرٍ-رحمَهُ اللهُ-:” وَقَدْ يَتَوَلَّدُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ التَّقَلُّبِ فِي نِعَمِهِ، فَيَسْتَحِيي الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ”. (فتح الباري) .
سادسًا: مخالطةُ الصالحينَ والتخلّقُ بأخلاقِهِم: قالَ مجاهدٌ: “ إِنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ لَمْ يُصِبْ مِنْ أَخِيهِ إِلَّا أَنَّ حَيَاءَهُ مِنْهُ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمَعَاصِي لَكَفَاهُ “. (البيهقي في شعب الإيمان). فالصداقةُ المتينةُ لا تحلُّ في نفسٍ إلّا هذبتْ أخلاقَهَا.
فعليكُم الالتزامَ بوسائلِ اكتسابِ الحياءِ هذهِ، لتكنْ حياتُكُم كلُّهَا خيرًا ، وتفوزُوا بسعادةِ العاجلِ والآجلِ.
نسألُ اللهَ تعالى أنْ يرزقَنَا الحياءَ في حياتِنَا كلِّهَا، وأنْ يحفظَ مصرنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ.
الدعاءُ،،،، وأقمْ الصلاةَ،،،، كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف