خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن ، الدكتور محروس حفظي
بتاريخ 24 رجب 1446هـ ، الموافق 24 يناير 2025م
خطبة الجمعة القادمة
خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 م بعنوان : نعمة الأمن ، الدكتور محروس حفظي بتاريخ 24 رجب 1446هـ ، الموافق 24 يناير 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : نعمة الأمن.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : نعمة الأمن ، بصيغة word أضغط هنا.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 م ، للدكتور محروس حفظي بعنوان : نعمة الأمن ، بصيغة pdf أضغط هنا.
___________________________________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف
عناصر خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 م بعنوان : نعمة الأمن ، للدكتور محروس حفظي :
(1) نعمةُ الأمنِ مِن أجلِّ النعمِ على الإطلاقِ.
(2) نعمةُ الأمنِ مطلبُ الأنبياءِ – عليهم السلامُ –.
(3) ركائزُ تحقيقِ الأمنِ في المجتمعِ الإنسانِي مِن خلالِ القرآنِ والسنةِ.
(4) دروسٌ وعبرٌ حولَ معجزةِ الإسراءِ والمعراجِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 24 يناير 2025 بعنوان: نعمة الأمن ، للدكتور محروس حفظي : كما يلي:
خطبة بعنوان: «نعمةُ الأمنِ»
بتاريخ 24 رجب 1446 هـ = الموافق 24 يناير 2025 م
الحمدُ للهِ حمدًا يُوافِي نعمَهُ، ويُكافِىءُ مزيدَهُ، لك الحمدُ كما ينبغِي لجلالِ وجهِكَ، ولعظيمِ سلطانِكَ، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكملانِ على سيدِنَا مُحمدٍ ﷺ ، أمّا بعدُ ،،،
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
نعمةُ الأمنِ مِن أجلِّ النعمِ على الإطلاقِ:
إنّ نعمَ اللهِ – عزّ وجلّ – على العبادِ كثيرةٌ، وآلاؤهُ عليهم عظيمةٌ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، لكنّ أعظمَ النعمِ على الإطلاقِ نعمةُ الأمنِ، فبها يُعبدُ اللهُ – سبحانه – في أرضِه، وبها تُحفظُ الدماءُ، وبها تُصانُ الأعراضُ أنْ تُنتهكَ، والأموالُ أنْ تُسلبَ، والأرضُ أنْ تُغتصبَ، وهكذا كلُّ طاعةٍ أو عبادةٍ مردُّهَا في الأساسِ إلى نعمةِ الأمنِ، ولذا قدمَهَا السياقُ القرآنِيُّ على طلبِ الرزقِ والمنافعِ الماديةِ، فقالَ عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾، وقالَ في آيةٍ أُخرى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾؛ لأنّه بالأمنِ والأمانِ يحصلُ الاستقرارُ الذي هو سببُ البناءِ والتعميرِ في الأرضِ، وانظرْ في حالِ أيِّ بقعةٍ مِن أرجاءِ المعمورةِ إذا نُزِعَ الأمنُ منها، وحلَّ الخوفُ مكانَهَا كيف حالُهَا مِن الخرابِ والبوارِ والكسادِ في شتّى مجالاتِ الحياةِ، والإنسانُ قد يُفتحُ عليهِ مِن أبوابِ الخيرِ والبرِّ، لكنّهُ يفقدُ عنصرَ الأمنِ فلا يهنأُ ولا يستلذُ بهذه النعمةِ، ولذا عدَّ رسولُنَا ﷺ مَن يملكُ هذه النعمةَ بأنّهُ حازَ الخيرَ والشرفَ كلَّهُ، وجمعَ الفضلَ وزيادةً، قَالَ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرِها» (الترمذي وابن ماجه)، فمتى بلغَ المجتمعُ مستوى عاليًا مِن الاستقرارِ والسكينةِ وعدمِ وجودِ أيِّ نوعٍ مِن أنواعِ المخاوفِ حينَها يصبحُ هذا المجتمعُ آمنًا قادرًا على أداءِ مسؤولياتهِ التي خُلِقَ مِن أجلِهَا، كما قالَ في كتابِهِ العزيز: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾، وقال أيضًا: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾؛ ولذا كان يدعو نبيُّنَا ﷺ ربَّهُ أنْ يرزقَهُ الأمنَ حين يمسِي وحين يصبحُ، فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ:اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (النسائي وابن ماجة) .
كما أنّ مِن أجلِّ النعمِ التي يكرمُ اللهُ – تعالى- بها أهلَ دارِ كرامتِه، وسكانَ جنتِه نعمةُ الأمنِ، قالَ ربُّنَا: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾، فجمعَ اللهُ – عزّ وجلّ – لأهلِ الجنةِ بينَ النعمِ الماديةِ المتمثلةِ في الأكلِ والشربِ والحورِ العينِ، وبينَ النعمِ المعنويةِ المتمثلةِ في صفاءِ القلبِ مِن الغلِّ والحسدِ ﴿وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾، وراحةِ البالِ والطمأنينةِ والشعورِ بالأمانِ مِن خلالِ اجتماعِه بزوجِه وولدِه﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ ولذا حذرنَا اللهُ مِن كفرانِ النعمةِ- ومنهَا “نعمةُ الأمنِ”- بعدمَا يُعطاهَا الإنسانُ فلا يؤدِّي شكرَهَا بأنْ يسخرهَا في الطاعةِ ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
ستظلُّ بلدُنَا مصرُ محفوظةً بعنايةِ الإلهِ؛ فقد ذُكِرَتْ في كتابِ ربِّنَا مراتٍ عديدةً تصريحًا وتلميحًا، واقترنَ اسمُهَا بالأمانِ، وشَهِدَ بعلُوِ قدرِهَا نبيُّ السلمِ والسلامِ ﷺ حيثُ قالَ:«إذَا فتحَ اللهُ عليكُم مصرَ بعدِي، فاتخِذُوا فيها جندًا كثيفًا؛ فذلك الجندُ خيرُ أجنادِ الأرضِ، فقال له أبو بكرٍ: ولم ذلك يا رسولَ اللهِ؟ قال: إنَّهُم في رباطٍ إلى يومِ القيامةِ»، يقول الإمام السيوطيُّ: «فى بعضِ الكتبِ الإلهيةِ مصرُ خزائنُ الأرضِ كلِّهَا، فمَن أرادَهَا بسوءٍ قصمَهُ اللهُ»، ويُلاحظُ أنَّ المواضعَ التي ذُكرتْ فيهَا مصرُ جاءت في مقامِ المدحِ والثناءِ كاتخاذِهَا مكاناً للعبادةِ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾، واتصافِ أهلِهَا بالكرمِ والجودِ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾، ووفرةِ الخيراتِ وتنوعِ المزروعاتِ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، فهي أرضُ السلامِ والأمانِ، ونزولِ الرسالاتِ على الأنبياءِ؛ وهذا يحتمُ على الإنسانِ الواعِي أنْ يحافظَ على تلكَ القيمةِ، ويعملَ جاهدًا على حمايتِهَا، والدفاعِ عنهَا، ويبذلَ كلَّ غالِي ورخيصٍ كي يرفعَ شأنَهَا؛ إذ تحملُ في جنباتِهَا ميراثَ آلَ بيتِ رسولِ اللهِ، ولذا نوهت السنةُ المشرفةُ بفضلِهَا فعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا» أَوْ قَالَ «ذِمَّةً وَصِهْرًا» (مسلم).
ولقد ضربَ رجالُ شرطتِنَا العظيمةِ أروعَ الأمثلةَ في التضحيةِ بأرواحِهِم ودمائِهِم في سبيلِ الحفاظِ على مقدراتِ هذا البلدِ عبرَ تاريخِهِم الطويل، ولا يزالوانَ يتسابقونَ ويتسارعونَ إلى ذلكَ، ويبذلونَ الغالِي والنفيسَ، فما أعظمَ وفائَهُم، وما أقوى عزيمتَهُم، وما أصدقَ حبّهُم لوطنِهِم، وصدقَ فيهم قولُ اللهِ،: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ وحُقَّ فيهم خبرُ رسولِنَا ﷺ حيثُ يَقُولُ:«عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (الترمذي)، فهم تاجُ رؤوسِنَا، وعنوانُ عزتِنَا وصمودِنَا، وهذا يحتمُ علينَا جميعاً أنْ نصطفَّ خلفَهُم، ونحذوَ حذوَهُم، ونربيَ أجيالَنَا على أنُ يكونُوا نموذجاً للاقتداءِ بهِم، ومثلاً أعلَى في الدفاعِ عن بلدِهِم.
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
(2) نعمةُ الأمنِ مطلبُ الأنبياءِ – عليهم السلام –:
إنّ نعمةَ الأمنِ مطلبُ الأنبياءِ والصالحين بل والخلقِ أجميعن فها هو سيدُنَا يوسفُ عليه السلامُ يطلبُ مِن والديهِ دخولَ مصرَ مخبرًا باستتبابِ الأمنِ بها، قالَ ربُّنَا: ﴿وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ﴾، وما صارت مصرُ مركزَ توزيعِ الغلالِ للبلادِ المجاورةِ لها، ومحطَّ كلِّ غريبٍ إلا بانتشارِ الأمنِ فيها، ولذا جاء إخوتُهُ – عليه السلام – طالبين الحنطةَ مِن أهلِهَا، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا﴾، وقد كان يدعُو نبيُّنَا ﷺ ربَّهُ أنْ يرزقَهُ الأمنَ حين يمسي وحين يصبحُ، فعن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (النسائي وابن ماجه)، ولمّا ضربَ ﷺ أروعَ الأمثلةِ في العفو والصفحِ عن أهلِ مكةَ يومَ فتحهَا أرشدَهُم إلى ما ينالونَ بهِ الأمنَ المجتمعِيَّ فقال ﷺ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ؛ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ؛ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ» . (مسلم) .
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
(3) ركائزُ تحقيقِ الأمنِ في المجتمعِ الإنسانِي مِن خلالِ القرآنِ والسنةِ:
أولًا: طلبُ الرزقِ وحسنُ العملِ، ونبذُ العجزِ والكسلِ: أوجبَ اللهُ علي البشريةِ العملَ، والسعيَ في الأرضِ طلبًا لإعمارِهَا، وتحقيقًا لجلبِ الأمنِ والطمأنينةِ على أهلِهَا فقالَ تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها﴾، وفي سبيلِ ذلك ذللَ اللهُ له الصعابَ، وسخّرَ لهُ كلّ الممكناتِ، قالَ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾، ومَن يستقرءْ القرآنَ الكريمَ يجدْ أنّ اللهَ جمعَ بينَ الإيمانِ والعملِ فلا يغنِي أحدهُمَا عن الآخرِ، قالَ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ﴾، وقالَ أيضًا: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ .
ويقاسُ أمانُ المجتمعاتِ وتقدمُهَا بقدرِ ما هي عليهِ مِن العملِ والإنتاجِ، ولذا وجهنَا القرآنُ إلى العملِ عقبَ الفراغِ مِن العباداتِ حتى لا تتخذُ مجالًا للكسلِ والنومِ والقعودِ عن طلبِ لقمةِ العيشِ، فقالَ تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، وأرشدَنَا نبيُّنَا ﷺ إلى حسنِ التوكلِ على اللهِ، فقَالَ ﷺ: «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» . (الترمذي وابن ماجه) .
فلا يستقلُّ الإنسانُ أو يقللُ أو يذمُّ حرفةً أو صنعةً ما، فقد باشرَ جميعُ الأنبياءِ صناعاتٍ وحرفَ مختلفةً، ورسولُنَا ﷺ رعَى الغنمَ لأهلِ مكةَ، وكذا موسى وعيسى عليهما السلامُ كانا راعيين، والصحابةُ كان منهم التاجرُ والصانعُ والمزارعُ … الخ، قال الإمامُ القرطبيُّ: (وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَكَانَ أَيْضًا يَصْنَعُ الْخُوصَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَكَانَ آدَمُ حَرَّاثًا، وَنُوحٌ نَجَّارًا وَلُقْمَانُ خَيَّاطًا، وَطَالُوتُ دَبَّاغًا، وَقِيلَ: سَقَّاءً، فَالصَّنْعَةُ يَكُفُّ بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ عَنِ النَّاسِ، وَيَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ الضَّرَرَ وَالْبَأْسَ، وَفِي الْحَدِيثِ:”إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ الضَّعِيفَ الْمُتَعَفِّفَ وَيُبْغِضُ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ”.) أ.ه
ثانيًا: التحذيرُ مِن الإسرافِ والتبذيرِ: أمرَنَا الإسلامُ بالاعتدالِ في كلِّ شيءٍ، وأنْ يُنتَهَجَ المنهجُ الوسطُ، قالَ تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، والخطابُ هنا يرتفعُ القرآنُ أنْ يوجهَ للمؤمنين فقط، فخاطبَ جميعَ البشرِ، ولذا قِيلَ القرآنُ لخَّصَ الصحةَ والاقتصادَ في هذه الآيةِ الكريمةِ، بل جعلَ القرآنُ الترشيدَ صفةً مِن صفاتِ عبادِ الرحمنِ، فقالَ سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾، وقَالَ ﷺ: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ» (النسائي)، وقد أرشدَنَا دينُنَا الحنيفُ كيف نصرفُ ما تبقّى لدينَا مِن طعامٍ وغيرِهِ بأنْ نعطيَهُ مَن يستحقُّ أو نضعَهُ للحيوانِ في أماكنَ لا يُداسُ فيها ولا يُهانُ، قال ﷺ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَبِيتُ وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ جَائِعٌ» (الحاكم وصححه)، كما حذرَنَا القرآنُ مِن كفرانِ النعمةِ بعدمَا يُعطَاهَا الإنسانُ فلا يؤدِّي شكرَهَا، فعليهِ إذًا أنْ يسخرَهَا في الطاعةِ وفيمَا ينفعُ البشرُ، قالَ تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾، وقال:﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾، وما قصةُ سبأٍ إلّا أكبرُ شاهدٍ على ذلك حتى خصتْ باسمِ سورةٍ في القرآنِ الكريمِ “سورة سبأ” .
ثالثًا: سيادةُ القانونِ: مِن أجلِ استتبابِ الأمنِ في المجتمعاتِ جاءتْ الشريعةُ الغراءُ بالعقوباتِ الصارمةِ، وحفظتْ للأمةِ في قضاياهَا ما يتعلقُ بالحقِّ العامِ والخاص، فعندمَا يسودُ القانونُ في بلدٍ مِن البلادِ يطمئنُ أهلُهَا، ويهدأُ بالُهُم، ويشعرُ كلُّ فردٍ في المجتمعِ بأنّهُ في مأمنٍ مِن أيِّ متجاوزٍ يتطاولُ على مالهِ أو حياتهِ أو عيالهِ، وليس مِن الغريبِ أنْ نجدَ أنّ المجتمعاتِ التي يسودُ فيها القانونُ ينتشرُ فيها الأمنُ والاستقرارُ، فالبشرُ بلا قانونٍ أشبهُ بالحيواناتِ التي تعيشُ بالغاباتِ، بل أضلُّ سبيلًا؛ إذ الحيواناتُ قد يحكمُهَا بعضُ القوانين فيمَا بينها، لذا قال سيدُنَا عثمانُ بنُ عفان رضي اللهُ عنه: «إنّ اللهَ ليزعُ بالسلطانِ ما لايزعُ بالقرآنِ»، مِن هنَا وضعَ اللهُ عقوباتٍ مختلفةً تتناسبُ مع الجرمِ المرتكبُ كي يزجرَ ويرتدعَ الإنسانُ عن أنْ يؤذِي أخاهُ الإنسانَ، ولذا وجهنَا نبيُّنَا ﷺ إلى وجوبِ ذكرِ الْفَاجِرِ بِمَا فِيهِ للتحذيرِ مِنْهُ حتى يعيشَ الناسُ آمنينَ مطمئنينَ في أوطانِهِم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر حَتَّى يعرفهُ النَّاس إذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس» . (الطبراني في الكبير) .
تابع / خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
رابعًا: التكافلُ المجتمعِيُّ: مِن مقوماتِ المجتمعِ الآمنِ وجودُ التعاطفِ والتواددِ بين أعضائِه، كلُّ فردٍ فيهِ ينظرُ إلي أخيهِ الإنسانِ يسددُهُ بالنصيحةِ إذا كان محتاجًا لها، ويقدمُ له المالَ عندَ الحاجةِ، ويعرضُ عليهِ خدماتِه كلّمَا ألمتْ بهِ مصيبةٌ، تلك صفةُ المجتمعِ الإنسانِي في توادِّهِ و تراحمِهِ حتي يصيرَ كالجسدِ الواحدِ يشدُّ بعضُهُ بعضًا، وهكذا يشعرُ الإنسانُ أنّه لا يعيشُ لنفسهٍ وبنفسِهِ، فعَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (مسلم)، وقال ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . (مسلم) .
خامسًا: التسامحُ ونبذُ العنفِ، ونشرُ الوعيِ، وحفظُ العقولِ مِمّا يفسدُهَا: أمرنَا دينُنَا بالتسامحِ، والعفوِ عندَ المقدرةِ، وإقالةِ العثرةِ والزلةِ، وقبولِ العذرِ، وغفرانِ الذنبِ، والرفقِ بعبادِ اللهِ، وجعلَ ثمنَ ذلك أنْ تتنزلَ الرحمةُ الإلهيةُ يومَ القيامةِ على هذا العبدِ، قالَ ربُّنَا: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ﴾، وقال ﷺ: «أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ لَا يَقِيلُ عَثْرَةً وَلَا يَقْبَلُ مَعْذِرَةً وَلَا يَغْفِرُ ذَنْبًا أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» (الحاكم وصححه)، فرغبَنَا الشارعُ الحكيمُ في الرفقِ والبعدِ عن التشددِ حتى لا يصبحُ المجتمعُ عرضةً للتطرفِ والمغالاةِ، فعَنْ ابنِ مسعودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا» (مسلم)، وقال ﷺ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» (مسلم) .
لقد بالغَ الإسلامُ في نبذِ العنفِ حتى في النظرةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ نَظَرَ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ نَظْرَةً يُخِيفُهُ بِهَا أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . (شعب الإيمان) .
العنصر الرابع من خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
(4) دروسٌ وعبرٌ حولَ معجزةِ الإسراءِ والمعراجِ:
العاقلُ الفَطِنُ هو مَن يعتبرُ بالمواقفِ التي تجرِي حولَهُ، والأحداثِ والمشاهدِ التي تقعُ خلفَهُ؛ فينظرُ الخيرَ فيأتيه، ويحذرُ الشرَّ فيتجنبهُ؛ لئلا يكونَ عبرةً ومحلَّ سخريةٍ مِن غيرِهِ، «فالسعيدُ مَن اتعظَ بغيرِهِ، والشقيُّ مَن وُعظَ بهِ غيرهُ»، وقد حوَى «الإسراءُ» الكثيرَ مِن العِبرِ والفوائدِ التي لا يحصيهَا عدٌّ، ولا يحويهَا قلمٌ ومدٌّ، منها:
أولاً: بيانُ قدرةِ اللهِ – عزَّ وجل-: الإيمانُ بمعجزةِ الإسراءِ والمعراجِ جزءٌ لا يتجزأُ مِن عقيدةِ المسلمِ؛ إذ أيدَ اللهُ بهَا نبيَّهُ ﷺ، وثبتَ بهَا فؤادَهُ، ونصرَهُ على مَن كذَّبَهُ، فالإسراءُ وقعَ على الأرضِ مِن مكَّةَ المكرمةِ إلى الأقصى، والمعراجُ حدثَ في السماءِ مِن بيتِ المقدسِ ثُمّ إلى السمواتِ العُلا، وبعدَ ذلك إلى سدرةِ المنتهَى حتى لقائِهِ باللهِ تباركَ وتعالى، حيثُ جيءَ بالبراقِ وهي دابةٌ بيضاءُ تضعُ حافرَهَا عندَ مُنتهَى طَرْفِهَا، فركبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورافقَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى وصلا المسجدَ الأقصَى، وقد سمَّى اللهُ إحدَى سورِ القرآنِ الكريمِ ب «الإسراء»، وافتتحَهَا بقولِهِ تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾، وهذا التعجبُ يدلكَ على عجائبَ ما رأهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى عظمِ تلكَ الرحلةِ، ولذا جمهورُ العلماءِ قديماً وحديثاً على أنَّ «الإسراءَ والمعراجَ» قد وقعَ بالروحِ والجسدِ معاً حسبمَا دلَّ عليهِ قولُهُ تعالى: ﴿أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ﴾، وإلّا فما وجهُ الإعجازِ إذا كان ذلكَ بالروحِ لا بالجسدِ؟، وإذا كانت مجردَ رؤيَا رأهَا فلِمَا أخبرَ بهَا قومَهُ، والحقائقُ العلميةُ تشيرُ أنَّ القوةَ تتناسبُ تناسباً عكسياً مع الزمنِ، فكلّمَا زادت القوةُ قلَّ الزمنُ، فكيف إذا كانت القوةُ هنا هي قوةُ الحقِّ سبحانه التي تتاطيشُ معهَا كلُّ القوى والقُدرِ ؟ قال تعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾، وإذا كان الإنسانُ في هذا العصرِ بعلمِهِ وقدرتِهِ المحدودتينِ أمكنَهُ مِن خلالِ المخترعاتِ والمكتشفاتِ الحديثةِ اختراقَ حجبِ الأرضِ، وغزوَ السماءِ وهو المخلوقُ الضعيفُ، فكيف يستبعدُ عن الخالقِ جلَّ وعلا أنْ يسريَ بمصطفَاهُ وحبيبِهِ؛ فقدرةٌ صالحةٌ لإحداثِ تلك المعجزةِ كما قالَ ربُّنَا: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، وللهِ درُّ أحمد شوقي:
مَشيئَةُ الخالِقِ البارِى وَصَنعَتُهُ … وَقُدرَةُ اللَهِ فَوقَ الشَكِّ وَالتُهَمِ
ثانياً: عقبُ المحنِ تأتِي المنحُ: لم يجدْ رسولُنَا ﷺ في مكةَ – بعد موتِ زوجِهِ ورفيقةِ دربِهِ خديجةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وعمّهِ أبي طالبٍ – آذاناً صاغيةً، وقلوباً واعيةً فاضطرَّ للخروجِ إلى الطائفِ كي يعرضَ دعوتَهُ على أهلِ ثقيفٍ، لكن لم يلقَ منهُم استجابةً، بل آذوهُ ونالُوا منه، وأغروا به سفهاءَهُم وعبيدَهُم يرمونَهُ بالحجارةِ حتى دميتْ قدماهُ الشريفتانِ، فينصرفُ مهموماً حزيناً على عدمِ إيمانِ هؤلاءِ، فإذا به يجدُ نفسَهُ في «قرنِ الثعالبِ»، فأخذَ يُناجِي ربَّهُ، ويتضرعُ إليهِ مبتهلاً قائلاً: «اللَّهم إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سُخْطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِكَ» (دلائل النبوة، وأحمد)، ثم يعودُ إلى مكةَ في جوارِ «الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِي»، وفي ظلِّ هذه الأجواءِ الكالحةِ، والظروفِ المظلمةِ، والمحنِ المتعاقبةِ، تأتِي المنحُ الإلهيةُ بدعوةِ سيدِ البريةِ للقاءِ الذاتِ العليةِ، فيسليه ربُّنَا، ويثبتهُ على الحقِّ، فيمنّ عليهِ برحلةٍ لم ينلْ شرفهَا قبلهُ لا نبيٌ مرسلٌ ولا ملكٌ مقربٌ ألا وهي رحلةُ «المعراجِ»، وهكذا لطفُ اللهِ بعبادِهِ، ورحمتُهُ بأوليائِهِ، وعنايتُهُ بخلقِهِ، فالإنسانُ مهما اشتدت عليهِ خطوبُ الحياةِ، وضاقت عليهِ سبلُ النجاةِ، لا سبيلَ سوىَ الاعتصامِ باللهِ، ورفعِ أكفَّ الضراعةِ إلى مولاه، لعلّهُ ينجيهِ مِن بلواه، ويكشفُ عن كرباهُ، ويذهبُ عنه همّهُ وغمّهُ فعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ ﷺ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» (أبو داود)، فما على المسلمِ إلّا أنْ يصبرَ، ويأخذَ بالأسبابِ، ويتوكلَ على ربِّهِ، ويوقنَ بأنّ فرجَهُ آتٍ لا محالةَ، وأنّ نصرَهُ قريبٌ لا مريةَ فيهِ، وقد قال ربُّنَا في محكمِ كتابِهِ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾، وقد كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلى أَبي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قائلاً: «فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ يَجْعَلْ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» (الحاكم وصححه ووافقه الذهبي) .
تابع / خطبة الجمعة القادمة 24 يناير : نعمة الأمن
ثالثاً: بناءُ الرجالِ، والرجالُ لا يمكنُ بناؤهُم إلّا مِن خلالِ المواقفِ: عندمَا أخبرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمرِ الإسراءِ والمعراجِ طفقَ قومُهُ بينَ مصفقٍ وبينَ واضعٍ يدَهُ على رأسِهِ تعجباً؛ إذ الأمرُ يحتاجُ إلى يقينٍ بقدرةِ ربِّ العالمين، وحسنِ صدقٍ بسيدِ العالمين، فالشدةُ تفرزُ معادنَ الرجالِ، فكمَا كشفَ الإسراءُ المنافقين، أفرزَ أيضاً رجالاً مِن المتقينَ كأبي بكرٍ الصديق: فقد «أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَسَعَوْا بِذَلِكَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فِي اللَّيْلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قال: أو قال ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ: أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ »، (دلائل النبوة)، إنّهُ إيمانٌ ثابتٌ لا تزعزعهُ زخارفُ الحياةِ، ولا تقلبُهُ رياحُ المصلحةِ، ولا تثنيهِ المنفعةُ، فما أحوجنَا إليهِ في زمنٍ عزَّ فيهِ الصديقُ، وندرَ فيهِ الحبيبُ، وصدقَ الإمامُ الشافعيُّ حينما قال:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيْرٍ … وَإنْ كانت تُغصّصُنِي بِرِيقِي
وَمَا شُكْرِي لهَا حمْداً وَلَكِن … عرفتُ بها عدوّي من صديقي
نسألُ اللهَ أنْ يرزقنَا الأمنَ والأمانَ، وحسنَ العملِ، وفضلَ القبولِ، إنّهُ أكرمُ مسؤولٍ، وأعظمُ مأمولٍ، اللهُمّ اجعلْ بلدَنَا مِصْرَ سخاءً رخاءً، أمناً أماناً، سلماً سلاماً وسائرَ بلادِ العالمين، ووفقْ ولاةَ أُمورِنَا لِمَا فيهِ نفعُ البلادِ والعبادِ.
كتبه: الفقير إلى عفو ربه الحنان المنان
د / محروس رمضان حفظي عبد العال
مدرس التفسير وعلوم القرآن – كلية أصول الدين والدعوة – أسيوط
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
وللإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
وللمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف