خطبة الجمعة القادمة رمضان شهر الإنفاق والبر والصلة لا القتل ولا الإرهاب ولا التخريب 16 من رمضان 1436هـ ، 3 يوليو 2015م
أولاً : العناصر :-
- فضل الإنفاق والكرم في رمضان .
- جود النبي صلى الله عليه وسلم وعطاؤه .
- رمضـان شهر البر للأقارب والصـلة للأرحام .
ثانياً: الأدلـــة:-
الأدلــة مـن القـرآن:-
- قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185].
- وقال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92] .
- وقال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [الإنسان:8 – 11].
- وقال عز وجل: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261] .
- وقَال اللَّهِ تعالى:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ }[الإسراء: 26] .
- وَقَالَ تعالى:{ … وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء:36] .
الأدلــة مـن السنة:-
- عَن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: ” كُلُّ امْرِئٍ فِى ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ ” أَوْ قَالَ: ” حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ ” مسند أحمد بإسناد صحيح .
- وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قال أنس: فَلَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية : [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أنزل عليك: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أراك الله فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وإني أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فقَالَ أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ » متفق عليه .
- وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (رضي الله عنه) عن النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرُهُ ، من غير أن يُنقَصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ » رواه الترمذي وابن ماجه .
- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه .
- وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قَالَ : “كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فيدارسه القرآن ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ “متفق عليه .
- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقِه ، ويُنسأ له في أثرِه ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَه ) متفق عليه.
- وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ” لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ” أخرجه البخاري .
ثالثاً: المـوضـــوع:-
إن شهر رمضان الكريم فرصة عظيمة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث جعله الله تعالى لمضاعفة الحسنات ، ومغفرة الذنوب والذلات ، ولذا تكثر فيه الأعمال الصالحات من تلاوة القرآن ، وعبادة الله وقيام الليل ، والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185].
هذه الآية الكريمة تبين لنا فضل هذا الشهر العظيم ، وفضل العمل فيه ، وإن من الأعمال الفاضلة في هذا الشهر الإنفاق والجود والكرم ، بها نرعى الفقراء المحتاجين ، ونسعى في الإنفاق والبذل ، ولقد حث الإسلام الحنيف على الجود والإنفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وتضافرت الآيات والأحاديث الحاثة على ذلك :
قال الله تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92].
وانظر إلى عصر الصحابة كيف تعاملوا مع الآيات التي تحث وترشد إلى الإنفاق ، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ ، قال أنس: فَلَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية : [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أنزل عليك: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أراك الله فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وإني أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فقَالَ أبو طلحة: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ » متفق عليه .
وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما جاءته سهامه من خيبر جعلها في سبيل الله تعالى ؛ فعن ابن عمر (رضى الله عنهما) أن عمر أصاب أرضا بخيبر ، فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) يستأمره فيها ، فقال يا رسول الله ، إنى أصبت أرضا بخيبر ، لم أصب مالاً قط أنفس عندى منه ، فما تأمر به قال: « إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها » ؛ قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، وتصدق بها في الفقراء وفى القربى ، وفى الرقاب ، وفى سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم غير متمول» . رواه البخاري ومسلم .
وعن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ (رضي الله عنه) قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: « كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ حَتَّى يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ » مسند أحمد . ومعنى ذلك أن الصدقة تحمى صاحبها من حر الشمس في أرض المحشر حتى انقضاء الفصل بين الناس .
ولهذا فإن من أعظم الطاعات وأجل القربات في شهر رمضان الإنفاق وإطعام الجائعين ، وتقديم الصدقات ، وتفطير الصائمين ، فما أعظم من أن يغتنم العبد هذه الفترة في فعل الخير وأعمال البر ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: « مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرُهُ ، من غير أن يَنْقص مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ » . أي: أنك إذا فطَّرت صائماً كتب الله لك أجراً كأجر الصائم دون أن ينقص من أجره شيء ؛ فالحرص على إفطار الصائم الفقير ، و المسكين ، والمحتاج ، مما تجود به النفس ، ولو بقليل من تمر ، أو مذقة لبن ، أو قطعة خبز ، فهذا موسم الصدقات والأعطيات ؛ إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد الفقير فيربيها الله تعالى لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوه .
وروي أن ابن المبارك كان كثير الإطعام للناس لأنه أدرك ما أعده الله تعالى لعباده من وقاية وحماية من هول الموقف في عرصات القيامة ، بسبب إطعامهم الطعام ، وجودهم على الأنام ، قال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [الإنسان:8 – 11].
أما حين ننظر في جزاء الصدقات والإنفاق في سبيل الله ، والجود والكرم على الفقراء والمساكين ، نجد أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وهذا شطر من حديث معَاذ قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا قَرِيبا مِنْهُ إِلَى أَن قَالَ: ” أَلا أدلك عَلَى أَبْوَاب الْخَيْر ؟ الصَّوْم جنَّة وَالصَّدَقَة تُطْفِئ الْخَطِيئَة كَمَا يُطْفِئ المَاء النَّار ، وَصَلَاة الرجل فِي جَوف اللَّيْل ثمَّ قَرَأَ تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع ” رواه الترمذي. فالحرص كل الحرص على الصدقة ، ومراعاة الفقراء والمحتاجين ، والاغتنام بالإنفاق في سبيل الله .
وفي الحديث الصحيح عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي ، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ) رواه مسلم . أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل ، أو ثياب تبلى ، أو صدقة تبقى .
ومما يدل على فضيلة الإنفاق وأنها تبقى له عند الله سبحانه وتعالى ، ما روته عائشة أنها ذبحت شاة ، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة فقالت: ذهبت كلها وبقي الذراع ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بل بقيت كلها وذهب هذا الذراع ) ، أي: أن الذي تنفقه في سبيل الله باق لك ، ومدخر ثوابه عند الله سبحانه وتعالى كما قال الله عز وجل: { مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل:96] .
وما أعظم الإنفاق في سبيل الله في هذا الشهر وغيره ، حيث يبشر العبد بالزيادة ، وأن الله تعالى يخلف على العبد المتصدق بل ويزيد له في الحال ، فهذا أحد مفاتيح الرزق التي يستنزل بها رزق الله عز وجل، يقول الله تعالى: { وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [سبأ:39] ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
إن الله تعالى يحذرنا مما قد يتصوره البعض من نقص للمال بالصدقة والإنفاق ، ويبين لنا أن ذلك محض وسوسة وتزيين من الشيطان يقول تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] .
إن فضل وأجر الإنفاق في سبيل الله عظيم ، والثواب على الصدقة كبير ، إنه يضاعف أضعافا كثيرة ، قال عز وجل: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة:261] ، إن ذلك ليس مختصاً برمضان فحسب ، لكن رمضان فيه مزيد من فضل الله عز وجل ومضاعفة الأجور ، فهل من مشمِّر ؟ وهل من منفق ومتصدق ؟ هل نحرص على أن نقوم بأعمال الخير ، ونفزع إليها ، ونرتبط بها ؟ إن ذلك ما ينبغي أن نتواصى به في هذا الشهر الكريم ، فإن للصدقة في رمضان خصوصية ليست في غيره ، فهو شهر الإنفاق ، وهو شهر الصدقة .
وإذا كنا بحاجة إلى كرم الله وجوده لا سيما في هذه الأيام المباركة ، فعلينا المسارعة إلى البذل والإنفاق والجود ، فإن الله عز وجل يكرم من يكرم عباده ، ويعطي السخي من عباده ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: ” قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ ” رواه البخاري ومسلم ؛ فشهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة و المغفرة و العتق من النار لا سيما في ليلة القدر ، فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء و الفضل، و الجزاء من جنس العمل ، ولهذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يزداد جوده وبذله في رمضان .
فأما عن جوده (صلى الله عليه وسلم) في رمضان:
فقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ؛ كما بيّن ذلك ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) حيث قَالَ : ” كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ” متفق عليه ؛ فينبغي الإكثار من الجود اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم في سائر الأحوال عامة ، وفي رمضان خاصة .
وفي هذا الحديث دلالة على زيادة جود النبي (صلى الله عليه وسلم) في رمضان عن غيره من الأزمان، وفي تشبيه جوده (صلى الله عليه وسلم) بالريح المرسلة وتفضيل جوده على ذلك يقول ابن حجر :” قال الزين بن المنير وجه التشبيه بين أجوديته (صلى الله عليه و سلم) بالخير وبين أجودية الريح المرسلة: أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة ، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة “
وأنواع جوده صلى الله عليه وسلم لا تنحصر ، والكلام في جوده يبدأ ولا ينتهي ، فهو أجود الناس على الإطلاق ، يتفنن صلى الله عليه وسلم في أنواع الجود ، ويعطي كل من سأله ، لا يرد سائلاً ، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد يسأله رجل ثوباً عليه فيدخل بيته ويخرج وقد خلع ثوبه وأعطاه إياه ، وربما اشترى الشيء فأعطى ثمنه ورده على بائعه ، وربما اشترى وأعطى الثمن وزاده ، وربما استعار شيئاً فرده بأكثر وأطيب وأكبر منه ، وربما أهدى وتصدق ، وأعطى ، وربما قبل الهدية وأثاب عليها أكثر منها وأعظم وأوفر ، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأن يعطي أكثر مما يفرح الآخذ بما يأخذ ، ففرحه صلى الله عليه وسلم بالعطاء أعظم من فرح الآخذ بالأخذ ، حتى إنه ليصدق عليه وحده عليه الصلاة والسلام قول القائل: (تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله) فكان يجود صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ، ويصفح عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويعفو عمن أساء إليه .
لقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان ، وما منع النبي صلى الله عليه وسلم سائلاً سَألهُ أبداً ، بل لقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى المصطفى فسأله ، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى غنم بين جبلين ، فقال: ( انظر إلى هذه الغنم ، سقها فهي لك ! فساق الرجل الغنم كلها بين يديه ، وذهب إلى قومه قائلاً: يا قوم ! أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ) .
إن جود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الكريم ، واقتداءنا به عليه الصلاة والسلام في ذلك ، إنّما جاء ضمن دلالات خاصة يختص به هذا الشهر المبارك ، أهمها :
جود الله وعظيم فضله على عباده في رمضان ، ومدارسة القرآن وأثرها على النفس وغناها ، ومجالسة الصالحين وأثرها في استقامة السلوك وعلو الهمّة ، ومن ذلك : أن يبذل الإنسان ما له فيما ينفعه ، وفضل الصدقة عموماً ، فكيف إذا كانت في رمضان .
ولما كان رمضانُ شهرَ الرحمةِ والجودِ ، فهو شهر بر وصلة ، فما ألطفَ أن يتعهد العبدُ أهلَه وأولي الأرحام منه في هذا الشهرِ المبارَك ، فيُدخِل عليهم الفرحةَ والسُّرور ، ويتقرَّب إليهم ، احتراما للكبير ورحمةً للصغير وصلةً للرحم . فالصائم يَتشبَّه بأخلاقِ النبي (صلى الله عليه وسلم) ، حيث كان (صلى الله عليه وسلم) يعتني في كلِّ أحوالِهِ بنفعِ الناسِ وإسداءِ الخيرِ لهم ، كما قالت له زوجه خديجة (رضي الله عنها): ( كلا والله لا يُخزيك اللهُ أبداً ؛ إنّك لَتَصِلُ الرَّحِم ، وتحمِل الكَلَّ ، وتَكْسِب المعدوم ، وتَقْرِي الضيف ، وتُعين على نوائبِ الحق ) رواه البخاري .
ولا ريبَ أنَّ الصائمَ يجد في شهرِ رمضان فرصة إلى صِلَةِ أرحامِه وزيارةِ أهله وإكرام ذوي القربى منه ، وتعهدهم بالزيارة والسؤال ، وقد روى الشيخان عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( من أحَبَّ أن يُبسَطَ له في رزقِه ، ويُنسأ له في أثرِه ؛ فلْيَصِلْ رَحِمَه ) . وما أعظم من أن يَتفقَّدَ العبدُ المؤمن أهله وأقاربه في رمضان ؛ فيُعين فقيرَهم ويرحم ضعيفَهم ويُنفِّس كربَ المبتلى منهم ؛ فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ نَفَّسَ عن مؤمنٍ كُربَةً مِن كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة ) .
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو (رضي الله عنهما) عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ : ” لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ” أخرجه البخاري .
كما أخرج الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِى قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِني ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَىَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ ، فَقَالَ: ” لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ” ، وَمَعْنَاهُ كَأَنَّمَا تُطْعِمهُمْ الرَّمَاد الْحَارّ ، وَهُوَ تَشْبِيه لِمَا يَلْحَقهُمْ مِنْ الْأَلَم بِمَا يَلْحَق آكِل الرَّمَاد الْحَارّ مِنْ الْأَلَم ، وَلَا شَيْء عَلَى هَذَا الْمُحْسِن ، بَلْ يَنَالهُمْ الْإِثْم الْعَظِيم فِي قَطِيعَته ، وَإِدْخَالهمْ الْأَذَى عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ إِنَّك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ تُخْزِيهِمْ وَتُحَقِّرهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ لِكَثْرَةِ إِحْسَانك وَقَبِيح فِعْلهمْ مِنْ الْخِزْي وَالْحَقَارَة عِنْد أَنْفُسهمْ كَمَنْ يَسُفُّ الْمَلّ .
وَقِيلَ : ذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ مِنْ إِحْسَانك كَالْمَلِّ يُحَرِّق أَحْشَاءَهُمْ، وَاَللَّه أَعْلَم”(شرح صحيح مسلم للإمام النووي) ، إذًا فالأذى واقع على المسيء المقاطع ، أما المحسن الواصل فثوابه على الله تعالى الذي يعينه ويتولى أمره .
وفي دعوة صريحة لتفقد الأهل ، وتعاهد الأقارب وأولي الأرحام ، أمر الله بإعطائهم من الحقوق الواجبة لهم على أقاربهم الأغنياء ، من بر وصدقة ، قَال اللَّهِ تعالى:{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ }[الإسراء: 26] . وَقَالَ تعالى:{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء:36] ، فَأَوْجَبَ الله تَعَالَى حَقَا لذَوي الْقُرْبَى والأرحام ، وَافْتَرَضَ الإِحْسَانَ إليهم , وَالإِحْسَانُ يَقْتَضِي التعاهد بزيارتهم ، والإنفاق عليهم ، والقيام على مصالحهم
فما أعظم أن نسعى في هذا الشهر الكريم من إقبالٍ على الخير وحرص على إفطار الصائمين وإكرامٍ للأقارب والأرحام ؛ إن رمضان جاء ليحرك الخير فينا ، فالخير في نفوسنا أصلاً لكن رمضان حرك ما كان راكدًا ، وساعد بنفحاته وجوده الإيماني على ظهوره ، ألا فليكن رمضان بداية لنا لا نهاية للجود والكرم والبر وصلة الأرحام ، والإقبال على الخير .
على أن من يسعى في جانب الجود والكرم والبر والصلة لا يمكن أن يسلك طريق الهدم أو التخريب أو الإرهاب أو الإفساد.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين