خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 27 جماد أول 1446هـ ، الموافق 29 نوفمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م بصيغة word بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : الحياء خير كله ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م بعنوان : الحياء خير كله .
أولًا: خُلقُ الإسلامِ الحياءُ.
ثانيـــًا: كيفَ يكونُ الحياءُ؟
ثالثــــًا: عندمَا يسقطُ جدارُ الحياءِ !!.
رابعا وأخيرًا: نماذجُ مشرفةٌ في الحياءِ!!
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 29 نوفمبر 2024م بعنوان : الحياء خير كله : كما يلي:
الحياءُ كلُّهُ خيرٌد. محمد حرز
بتاريخ: 27 جمادى الأولى 1446هــ – 29 من نوفمبر 2024م
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشهدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللهُمَّ صلِّ وسلمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأطهارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوى العزيزِ الغفارِ{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران :102) .
عبادَ الله : ( الحياءُ كلُّهُ خيرٌ)،عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا .
عناصرُ اللقاءِ:
أولًا: خُلقُ الإسلامِ الحياءُ.
ثانيـــًا: كيفَ يكونُ الحياءُ؟
ثالثــــًا: عندمَا يسقطُ جدارُ الحياءِ !!.
رابعا وأخيرًا: نماذجُ مشرفةٌ في الحياءِ!!
أيُّها السادةُ: بدايةً ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ أنْ يكونَ حديثُنَا: ” الحياءُ كلُّهُ خيرٌ” ، وخاصةً ونحنُ نعيشُ زمانًا قلَّ فيهِ الحياءُ عندَ الكثيرينَ مِن الرجالِ بلْ والنساءِ، وخاصةً على مواقعِ التواصلِ الاجتماعِي بدأنَا نرَى البيوتَ معظمهَا إلّا ما رحمَ اللهُ تمثلُ على مواقعِ التواصلِ، هذه تمثلُ بضربِ حماتِها، وهذا يمثلُ بضربِ أبيهِ، وهذا يتحدثُ مع الاجنبياتِ أمامَ بناتِهِ، هذه تمثلُ علاقةً محرمةً مع رجلٍ آخر، ودخلَ في التمثيلِ معهُم كبارُ السنِّ الذينَ بينَهُم وبينَ الموتِ شبرًا كمَا يُقالُ، وهذه عائلةٌ بل عائلاتٌ وربِّ الكعبةِ مِن الصباحِ حتى غروبِ الشمسِ الأبُّ والأمُّ والأولادُ يرقصونَ ويصفقونَ ويطلقونَ على أنفسهمِ عائلةً فرفوشةً وغيرَ ذلكَ لجمعِ اللايكاتِ وجمعِ الأموالِ المحرمةِ، دياثةٌ ما بعدَهَا دياثة، وصدقَ المعصومُ ﷺ عندمَا قال: ( ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ ، والمرأةُ المترجِّلةُ ، والدَّيُّوثُ )، يا ربِّ سلِّم، والديوثُ الذي لا يغارُ على أهلِ بيتِهِ، وما أكثرهُم في هذا الزمانِ زمنِ الانترنتِ والفيس والتيك توك، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ، وتموتُ الحرةُ ولا تأكلُ بثديهَا يا سادةٌ ؟ أين الدينُ يا سادةٌ ؟ أين الحياءُ يا سادةٌ؟ أينَ القيمُ والمبادئُ يا سادةٌ؟ أين الضميرُ يا سادةٌ؟ أين مراقبةُ اللهِ يا سادةٌ؟. وخاصةً ولَقَدْ تَسَاهَلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ فِي الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالتَّجَمُّعَاتِ، وَفِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ قَالَ: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: ( اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ). وللهِ درُّ القائلِ:
إذا قَلَّ ماءُ الوَجهِ قلَّ حياؤهُ****فلا خيرَ في وَجهٍ إذا قَلَّ ماؤهُ
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله
أولًا: خُلقُ الإسلامِ الحياءُ.
أيُّها السادةُ: خُلُقُ الحَيَاءِ مِنْ أَفْضَلِ الصِّفَاتِ، وَأَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأكرمِ القُرُبَاتِ، الحَيَاءُ خَصْلَةٌ حَمِيدَةٌ، تَكُفُّ صَاحِبَهَا عَمَّا لَا يَلِيقُ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَهُوَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، الحَيَاءُ قَرِينُ الإِيمَانِ، فَإِذَا نُزِعَ أَحَدُهُمَا نُزِعَ الآخَرُ، وَهُوَ مِمَّا أَدْرَكَهُ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى، وَمَا انْتَشَرَتِ الفَوَاحِشُ وَالذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي إِلَّا بِسَبَبِ نَزْعِ الحَيَاءِ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ.
الحَيَاءُ لَهُ فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَأَجْرٌ جَسِيمٌ، فَهُوَ نِعْمَةٌ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ، نِعْمَةٌ كُبْرَى، وَمِنْحَةٌ عُظْمَى، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ وَالفَلَاحِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، الحياء خلقٌ من أخلاق العظماء، وهو خُلق الإسلام الأول، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ)”. موطأ مالك، وسنن ابن ماجه.
الحياءُ شعبةٌ مِن شعبِ الإيمانِ، ولا دينَ لمَن لا حياءَ لهُ، والحياءُ زينةُ النفوسِ وجمالُ الأخلاقِ وطهارةُ الأرواحِ. والحياءُ طريقُ العبادةِ ومادةُ الصلاحِ وعنوانُ الكرامةِ. والحياءُ كما فسرَهُ العلماءُ هو خُلقٌ يَحملُ على فِعلِ كلِّ جميلٍ، وترْكِ كلِّ قبيحٍ، وعلى معرفةِ قدرِ أهلِ القدرِ، والبعدُ بالنفسِ عمَّا يشِينُهَا، ولا يناسبُ ما فطرَهَا اللهُ عليهِ.
الحياءُ خُلقٌ رفيعٌ مِن أخلاقِ الإسلامِ يدلُّ على حياةِ القلوبِ، وأقربُ القلوبِ إلى اللهِ القلوبُ الحيّةُ الرحيمةُ، صاحبةُ الإحسانِ، القريبةُ مِن الرحمنِ، المستحقةُ لدخولِ الجنانِ لأنَّهَا تراقبُ اللهَ الذي لا تخفَى عليهِ خافيةٌ فيتولدُ عندهَا فعلُ الطاعاتِ واجتنابُ المعاصِي والإحسانُ إلى الخلقِ، وأقربُ الناسِ مِن رسولِ اللهِ يومَ القيامةِ أصحابُ الأخلاقِ، وقد سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ عن أكثرِ ما يدخلُ الناسُ الجنةَ فقال: (تقوَى اللهِ وحُسنُ الخلقِ).
والحياءُ صفةٌ مِن صفاتِ اللهِ جلَّ وعلا التي تليقُ بجلالِهِ، عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رضي اللهُ عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ ) [رواه الترمذي والبيهقي]، وصَعِدَ ﷺ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ». قال ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: “وأمَّا حياءُ الربِّ تعالَى مِن عبدِهِ، فذاكَ نوعٌ آخرٌ، لا تُدرِكهُ الأفهامُ، ولا تُكيِّفه العقولُ، فإنَّهُ حياءُ كرمٍ وبرٍّ وجودٍ وجلالٍ. وفي الأثرِ يقولُ الربُّ -جلَّ جلالُهُ: ” مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي، يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي“. والحياءُ شريعةُ جميعِ الأنبياءِ، فهو مِمَّا توارثوهُ عليهمُ السَّلام، ففي صحيحِ البخارِي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدري رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ))، والمعنى: أنَّ الرَّادعَ عن القبيحِ إنَّمَا هو الحياءُ، وبغيابِ الحياءِ تُدمَّرُ الأخلاقُ، وتُرتكَبُ الفواحشُ والموبقاتُ، فمَن لم يستحِ فإنَّهُ يصنعُ ما شاءَ.
والحياءُ خُلُقُ الأنبياءِ، والملائكةِ الأصفياءِ والصحابةِ الأطهارِ. فقد اتصفَ بهِ موسَى عليهِ السلامُ، كما قالَ النبيُّ ﷺ: (إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ))؛ [رواه البخاري) وفي هذا الحديثِ إخبارٌ مِن النبيِّ ﷺ عن حَياءِ موسَى عليهِ السَّلامُ، فكان مِن حيائِهِ ألَّا يغتسِلَ عاريًا، على الرَّغمِ مِن أنَّ بنِي إسرائيلَ كانُوا يَغتسلونَ عُراةً، ولا يجِدونَ في ذلكَ شيئًا، ففِي صحيحِ البخارِي كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، وكانَ مُوسَى ﷺ يَغْتَسِلُ وحْدَهُ، فَقالوا: واللَّهِ ما يَمْنَعُ مُوسَى أنْ يَغْتَسِلَ معنَا إلَّا أنَّه آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ علَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى في إثْرِهِ، يقولُ: ثَوْبِي يا حَجَرُ، حتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلى مُوسَى، فَقالوا: واللَّهِ ما بمُوسَى مِن بَأْسٍ، وأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بالحَجَرِ ضَرْبًا فَقالَ أبو هُرَيْرَةَ: واللَّهِ إنَّه لَنَدَبٌ بالحَجَرِ، سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ، ضَرْبًا بالحَجَرِ.
وقد كان النبيُّ ﷺ المَثَلَ الأعلَى في الحياءِ، ففي الصحيحينِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنهُ، قَالَ: “كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ“. ومِن حيائِهِ ﷺ أنَّهُ لم يكنْ فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواقِ، روى الترمذيُّ عن السيدةِ عائشةَ رضي اللهُ عنها قالتْ: (لمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَلا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ).
واتَّصَفَ بهِ الملائكةُ الكِرامُ، فقد قالَ النبيُّ ﷺ في عثمانَ رضي اللهُ عنهُ: (أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟)، [رواه مسلم]. واتَّصَفَ بهِ الصحابةُ الأخيارُ فهذا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ -رضي اللهُ عنهمَا- كانَ غلامًا في مجلسِ رسولِ اللهِ ﷺ فيقولُ: “إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ :( إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟” قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “هِيَ النَّخْلَةُ“. (رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ). فلقد كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَابِعُوهُمْ يَعْتَنُونَ بِخُلُقِ الْحَيَاءِ وَيَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ)، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (رَأْسُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْحَيَاءُ)، وَيَقُولُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (الْحَيَاءُ وَالتَّكَرُّمُ خَصْلَتَانِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، لَمْ يَكُونَا فِي عَبْدٍ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهِمَا).
تابع / خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله
والحياءُ شُعبةٌ مِن شعبِ الإيمانِ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ، أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ).
وفي الصحيحينِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: “مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ”، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (دَعْهُ؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ).وعن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهمَا قال: قال النَّبيُّ ﷺ: (إنَّ الحياءَ والإيمانَ قرنَا جميعًا فإذا رُفِعَ أحدهُمَا رُفِعَ الآخرُ)، والحياءُ مِفتاحٌ لكلِّ خيرٍ، ففي الصحيحين عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (الحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ)، وفي رواية: (الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ).
والحياءُ أبهَى زينةً يتزيَّنُ بهَا المؤمنُ، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ ﷺ قال: (ما كانَ الفحشُ في شيءٍ إلّا شانَهُ، وما كانَ الحياءُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ).
والحياءُ خُلُقٌ يحبُّهُ اللهُ جلَّ وعلا، فعن أشجِ عبدِ القيسِ رضي اللهُ عنه قال: قالَ لي النَّبيُّ ﷺ: (إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَينِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ) قُلتُ: وَمَا هُمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الحِلمُ وَالحَيَاءُ)، [الأدب المفرد].
وَعَن يَعلَى بنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى رَجُلًا يَغتَسِلُ بِالبَرَازِ بِلَا إِزَارٍ، فَصَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثنَى عَلَيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسَّترَ، فَإِذَا اغتَسَلَ أَحَدُكُم فَليَستَتِر).
والحياءُ يقودُ إلى الجنَّةِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الْحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ). [رواه التِّرمذي، وابن ماجه. فاللهَ اللهَ في الأخلاقِ، اللهَ اللهَ في التحلِّي بالحياءِ، فالمسلمُ الحييُّ يعلمُ أنَّ لهُ ربًّا يراهُ في كلِّ حالٍ، فهو مستحٍ منهُ، فلا يراهُ في معصيتِهِ سبحانَهُ ولا مقصرًا في واجباتِهِ، قالَ جلَّ وعلا: )الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ( [الشعراء: 218-219]، وقالَ جلَّ علا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5). وإذا كان الأمرُ كذلكَ وجبَ على كلِّ مسلمٍ أنْ يتخلقَ بهذا الخُلقِ في سائرِ حياتهِ، ولعلَّ الباعثُ للحديثِ عن هذا الخلقِ العظيمِ إنّمَا هو الرغبةُ في الرقيِّ بأخلاقِنَا لأنَّ حالَنَا اليوم لا يسرُّ عدوًّا ولا صديقًا، إنَّنَا وللأسفِ الشديدِ شاهدونَ على انتكاسةٍ كبيرةٍ للقيمِ والأخلاقِ، فقد اختلطَ الحابلُ بالنابلِ، وتدنَّى المستوَى الأخلاقِي إلى الحضيضِ، تناسَى الآباءُ دورَهُم ومسؤولياتِهِم التربويةَ تجاهَ الأبناءِ، وأصبحَ تطاولُ الأبناءِ على الآباءِ موضةَ العصرِ، تخلَّى الكبارُ عن وقارِهِم وتجردتْ النساءُ مِن حشمتهِنَّ، وأصبحَ العريُ والفجورُ وانتهاكُ الحرماتِ أمورًا عاديةً، وشاعتْ الفحشاءُ والمخدراتُ والخمورُ والجنسُ وكلُّ الموبقاتِ الى درجةٍ جعلتنَا نسألُ أنفسَنَا هل نحن فعلًا خيرُ أمةٍ أُخرجتْ للناسِ؟ وإلى أين نحنُ سائرونَ؟ أينَ نحنُ مِن أخلاقِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم ؟ أينَ نحنُ مِن أخلاقِ سلفِنَا الصالحِ ؟ لقد ضعفَ الوازعُ الدينيُّ لدَى الغالبيةِ العُظمَى. أتدرونَ لماذَا؟ لأنَّنَا وبكلِّ بساطةٍ فَقَدْنَا خُلُقَ الحياءِ، فانتبهْ قبلَ فواتِ الأوانِ، وللهِ درُّ القائلِ:
إذا لم تَخْشَ عاقبةَ اللَّيالي****ولم تستَحِ فاصنَعْ ما تشاءُ
فلا واللهِ ما في العَيشِ خَيرٌ****ولا الدُّنيا إذا ذهَب الحَياءُ
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله
ثانيـــًا: كيفَ يكونُ الحياءُ؟
أيُّها السادةُ: الحياءُ دليلٌ على رجاحةِ العقلِ، وهو أدبٌ في التعاملِ مع الخلقِ، وطريقُ خيرٍ وصلاحٍ، وسعادةٍ وفلَاحٍ في الدنيا والآخرةِ، الحياءُ شعارُ المتقينَ، ودثارُ الصالحينَ وجلبابُ سترِ اللهِ على عبادهِ المؤمنين، لكنْ كيفَ يكونُ الحياءُ؟ الحياءُ على ثلاثةِ أنواعٍ: حياءٌ مع اللهِ وحياءٌ مع الناسِ وحياءٌ مع النفسِ.
الحياءُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ: يكونُ بمقابلةِ نِعَمِهِ بالشُّكْرِ، وأوامرهِ بالامتِثالِ، ونواهيهِ بالاجتنابِ، ومراقبتهِ جلَّ وعلا في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، فإيّاكَ أنْ تكونَ مِمَّن يستحيونَ مِن الناسِ ولا يستحيونَ مِن ربِّ الناسِ فتكونَ مِن الخاسرينَ، فقد روَى الإمامُ أحمدُ وأصحابُ السُّننِ عن بَهْزِ بنِ حَكيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ)، وروى الطبرانيُّ عن سعيدِ بنِ يَزيدَ الأزديِّ رضي اللهُ عنه، أنَّه قال للنَّبيِّ ﷺ: أوْصنِي، قالَ: ((أُوصيكَ أنْ تستحْييَ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ كمَا تستحِيي مِنَ الرَّجلِ الصَّالحِ مِن قومِكَ)، فمِن قلةِ الحياءِ أنْ يفقدَكَ اللهُ حيثُ أمرَكَ ويراكَ حيثُ نهاكَ.. قال النَّبِيُّ ﷺ: (استَحيُوا مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ)، قال: قُلنا يا نبيَّ اللهِ، إنَّا لنَستَحيي والحمدُ للهِ، قال: ((ليسَ ذلكَ، ولكن الاستِحياءُ مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ؛ أن تحفَظَ الرأسَ وما وَعَى، وتحفَظَ البطنَ وما حوَى، ولتذكُر الموتَ والبِلَى، ومَن أرادَ الآخرةَ ترَكَ زينةَ الدُّنيا، فمَن فعل ذلكَ فقد استَحيا مِنَ اللهِ حقَّ الحياءِ)، رواهُ الترمذي، أنْ تحفظَ الرأسَ وما وعَى، فلا تسجدْ لغيرِ اللهِ ولا ترفعْ هذا الرأسَ تكبرًا على خَلْقِ اللهِ. وأنْ تحفظَ البطنَ عن أكلِ الحرامِ وما اتصلَ بهِ مِن القلبِ واليدينِ والفرجِ والرجلينِ، ففي صحيحِ البخارِي أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: ” مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ“، وكلمَا كانَ القلبُ مليئًا بالحياءِ مِن اللهِ بعثهُ حياؤهُ على حفظِ رأسِهِ وبطنِهِ عمَّا حرّمَ اللهُ -تعالى-، ثم ذكرَ ﷺ أمرينِ عظيمينِ فقالَ:” وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا” ، فمَن تذكرَ أنّهٌ سيموتُ ويبلَى وسيقفُ بينَ يدَيِ اللهِ -جلَّ وعلا- وأنَّ اللهَ سيحاسبُهُ يومَ القيامةِ على ما قدَّمَ في هذه الحياةِ الدنيا استحيَا مِن اللهِ حقَّ الحياءِ مِن أنْ يلقاهُ يومَ القيامةِ بأعمالٍ سيئةٍ مشينةٍ. حضرَ الموتُ أحدَ التابعينَ فأخذَ يبكِي بكاءً شديدًا، فلمَّا عوتبَ في ذلكَ قالَ: ” واللهِ لو أُتِيتُ بالمغفرةِ مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- لأهمَّنِي الحياءُ منهُ مِمَّا قد صنعتُ، إنَّ الرجلَ ليكونَ بينَهُ وبينَ آخرِ الذنبِ الصغيرِ فيعفُو عنهُ فلا يزالُ مستحييًا منهُ”. ولمَّا دخلَ أبو حامدٍ الخلقانِي على الإمامِ أحمدَ إمامِ أهلِ السنةِ فنظرَ إليهِ أبو حامدٍ وقالَ لهُ:
إذا ما قالَ لِي ربِّي أمَا استحييتَ تعصينِي
وتُخفِي الذنبَ مِن خلقِي وبالعصيانِ تأتينِي
فمَا قولِي لهَ لما يعاتبنِي ويقصينِي
قال لهُ الإمامُ أعدهَا عليَّ فأعادهَا عليهِ أبو حامدٍ الخُلْقَانِي، فقامَ الإمامُ أحمدُ ودخلَ دارَهُ وهو يبكِي ويرددُ أبياتِ أبِي حامدٍ، ويقولُ الإمامُ أحمدُ وهو يبكِي:
إذا ما قالَ لِي ربِّي أمَا استحييتَ تعصينِي
وتُخفِي الذنبَ مِن خلقِي وبالعصيانِ تأتينِي
فمَا قولِي لهَ لما يعاتبنِي ويقصينِي
ولمَّا نامَ على فراشِ الموِت الأسودُ بنُ يزيدٍ بكَى وعلا صوتُهُ بالبكاءِ، وقالَ لهُ مَن حضرَهُ لِمَا هذا الجذعُ؟ فقالَ: ومالِي لا أجزعُ ومَن أحقُّ بذلكَ منِّي واللهِ وإنْ عفَا عنِّي وغفرَ لِي فو اللهِ إنِّي لأستحِي منهُ مِمَّا قد صنعتُ فو اللهِ إنِّي لأستحِي منهُ مِمَّا قد صنعتُ)، وهذا الفضيلُ بنُ عياضٍ لَمَّا وقفَ على عرفاتٍ في يومِ الحجِّ الأكبرِ بكَى وقبضَ على لحيتِهِ وعلا صوتُهُ وقال وَاسَوْأَتَاهُ وإنْ عفوتَ وَاسَوْأَتَاهُ وإنْ عفوتَ وَاسَوْأَتَاهُ وإنْ عفوتَ، هؤلاءِ أهلُ الايمانِ، قالَ جلَّ وعلا: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا (36)}الإسراء.
حياءٌ مع الناسِ: فمِن المروءةِ أنْ يفعلَ المرءُ ما يحمدُهُ الناسُ عليهِ ويبتعدُ عمَّا يذمونَهُ بهِ، ومَن شهدَ لهُ الناسُ بالخيرِ فهو مِن أهلِ الخيرِ، ومَن شهدُوا لهُ بالشرِّ فهو مِن أهلِ الشرِّ، فالمؤمنُ يستحِي أنْ يُؤذِيَ الآخرينَ سواءً بلسانِهِ أو بيدِهِ، فلا يقولُ القبيحَ ولا يتلفَّظُ بالسُّوءِ، ولا يطعنُ أو يغتابُ أو ينمُّ على الآخرينَ، وكذلكَ يستحِي مِن أنْ تنكشفَ عوراتُهُ فيطَّلِعُ عليهَا النَّاسِ. ففي الصحيحينِ عن عائشةَ رضي اللهُ عنهَا، أنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: (أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ).
والحياءُ مِن النَّاسِ يكونُ بِحِفْظِ ماءِ الوجْهِ لهُم، ولا يتمُّ ذلكَ إلَّا بكفِّ الأذَى عنهُم، وترْكِ ما يُغضِبهُم أو يزعجهُم وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِالْقَبِيحِ، قالَ أحدُ الحكماءِ: “مَن كساهُ الحياءُ ثوبَهُ، لم يرَ الناسُ عيبَهُ”، وقالَ بعضُ البلغاءِ: “حياةُ الوجهِ بحَيائِهِ، كمَا أنَّ حياةَ الغَرْسِ بمائه”. فالمسلمُ الحقيقيُّ مَن يا سادةٌ كما قالَ المعصومُ ﷺ: ( المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه).
حياءٌ مع النفسِ: فيستحِي العبدُ مِن أنْ تُشوَّهَ سُمعتُهُ، فهذا النبيُّ ﷺ، لَمَّا خرجَ ليلًا؛ لِيوصِلَ إحدَى زوجاتِهِ إلى دارِهَا، فمرَّ بهِ رجلانِ فأسرعَا، فناداهُمَا قائلًا: (عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ)، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا).
يستحِي العبدُ مِن ارتكابِ الفواحشِ والكبائر، فهذا يوسفُ عليهِ السلامُ لمَّا دعتْهُ امرأةُ العزيزِ وغلَّقت الأبوابَ، وقالتْ: ﴿ هَيْتَ لَكَ ﴾ [يوسف: 23]، أجابَهَا: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ [يوسف: 23]. قالَ أحدُ السلفِ: “مَن عملَ في السِّرِّ عملًا يستحِيي منهُ في العلانيةِ فليسَ لنفسِهِ عندَهُ قدر”. ويستحِي مِن أنْ ينقضيَ العُمرُ في المعاصِي، ففي صحيحِ البخارِي قال النبيُّ ﷺ: (أَعْذَرَ اللَّهُ إلى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً)).فاستحِ مِن نفسِكَ وقُلْ لهَا :
يا نفسُ لاتتكبرِي ****فسيأتِي يومٌ وترحلِي
إنْ طالَ أو قصرَ الزمانُ ***فعلَي الأعناقِ ستحملِي
ستزورِي بيتَ الدودِ حتمًا*****وفي الترابِ ستدفنِي
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله
ثالثــــًا: عندمَا يسقطُ جدارُ الحياءِ !!.
أيُّها السادةُ: إذا سقطَ جدارُ الحياءِ رأيتَ صورًا متعددةً لفسادِ الأخلاقِ والقيمِ والمبادئِ في المجتمعاتِ ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ.
عندمًا سقطَ جدارُ الحياءِ: ظهرت المجاهرةُ بالذُّنوبِ والمعاصِي وعدمُ الخوفِ مِن اللهِ تعالَى، نعمْ لمَّا غابَ الحياءُ مِن اللهِ عندَ كثيرٍ مِن النَّاسِ، تجرؤُوا على محارمِ اللهِ، ففِي الصحيحينِ عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ( كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَاهرةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) .وقد جاءَ في الأثرِ: “أنَّ اللهَ تعالَى إذا أبغضَ عبدًا نزعَ منهُ الحياءَ، فإذا نزعَ منهُ الحياءَ لم تلقِهِ إلَّا بغيضًا مبغضًا“.
عندمَا سقطَ جدارُ الحياءِ: ظهرَ إفشاءُ أسرارِ الزوجيةِ، فقد قالَ النبيُّ ﷺ: (هَلْ مِنْكُمُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَاسْتَتَرَ بِسِتْرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلْتُ كَذَا؟ فَسَكَتُوا، فَأَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ؟ فَسَكَتْنَ، فقالت امرأةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَتَحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُنَّ لَيَتَحَدَّثْنَه، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ ذَلِكَ؟، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانَةٍ لَقِيَتْ شَيْطَانًا فِي السِّكَّةِ، فَقَضَى مِنْهَا حَاجَتَهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، رواه أبو داود.
عندمَا سقطَ جدارُ الحياءِ: ظهرت الدياثةُ والتشبهُ بالنساءِ وعدمُ الغيرةِ على نسائِنَا إلّا ما رحمَ اللهُ، عن عبدِاللهِ بنِ عمرو رضي اللهُ عنهمَا قال: سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: ( سيكونُ في آخِرِ أُمَّتي رجالٌ يَركَبونَ على سُروجٍ كأشباهِ الرِّحالِ ، يَنزِلونَ على أبوابِ المسجدِ، نساؤُهم كاسياتٌ عارياتٌ على رؤوسِهِنَّ كأسنِمةِ البُختِ العِجافِ، العنوهُنَّ فإنَّهُنَّ ملعوناتٌ، لو كانت وراءَكم أُمَّةٌ منَ الأممِ لَخدَمَهُنَّ نساؤُكم كما خَدَمَكم نساءُ الأممِ قَبلَكم)، وفي صحيحِ البخارِي مِن حديثِ ابنِ عباسٍ رضى اللهُ عنه ( لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ، والمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ)، وفي حديثِ عمارٍ رضى اللهُ عنهُ ( ثلاثةٌ لا يدخلون الجنَّةَ… الدَّيُّوثُ، والرَّجِلَةُ من النِّساءِ، ومُدمنُ الخمرِ قالوا يا رسولَ اللهِ ! أما مدمنُ الخمرِ فقد عرفْناه، فما الدَّيُّوثُ ؟ قال : الذي لا يُبالي من دخل على أهلِه قلنا : فما الرَّجِلَةُ من النساءِ ؟ قال : التي تشبَّه بالرجالِ).
عندمَا سقطَ جدارُ الحياءِ: ظهرَ عدمُ إجلالِ ذِي الشَّيبةِ الكبيرِ، وفي هذا يقولُ النبيُّ ﷺ: ( إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ)، رواه أبو داود.
عندمَا سقطَ جدارُ الحياءِ: وجدْنَا الابنَ يتجرأُ على أبيهِ وأمهِ، ليسَ بالسبِّ وحدَهُ بل بالضربِ والقتلِ، أيُّ تعاسةٍ وصلَ إليهَا هذا الإنسانُ؟! وصدقَ رسولُ اللهِ ﷺ حينَ قالَ: “إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت“.
وأينَ نحنُ مِن كلامِ ربِّنَا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23- 24)، ولقد سمعَ رسولُ اللهِ ﷺ حارثةَ بنَ النعمانِ يقرأُ القرآنَ في الجنةِ ببرهِ بأمّهِ يا شبابَ الإسلامِ، فعن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ -رضي اللهُ عنها- قالتْ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ : ” دخلتُ الجنةَ فسمعتُ فيهَا قرآنًا فقلتُ مَن هذا قالوا: حارثةُ بنُ النعمانِ كذلكُم البرُّ كذلكم البرُّ وكان أبرَّ الناسِ بأمِّه”.
عندمَا سقطَ جدارُ الحياءِ: ظهرت النساءُ على مواقعِ التواصلِ كاشفاتِ عوراتِهِنَّ لجمعِ الأموالِ ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ، وصدقَ المعصومُ إذْ يقولُ كما في الصحيحينِ (صِنْفانِ مِن أهْلِ النَّارِ لَمْ أرَهُما، قَوْمٌ معهُمْ سِياطٌ كَأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا)، وللهِ درُّ القائلِ:
إذا ما خـلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ *** والنفسُ داعيةٌ إلى الطغيانِ
فاستحِيِ مِن نظرِ الإلهِ وقُلْ لهَا *** إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يرانِي
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكُم
الخطبةُ الثانيةُ الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلَّا لهُ وبسمِ اللهِ ولا يستعانُ إلَّا بهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ ……..وبعدُ
العنصر الرابع من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : الحياء خير كله
رابعًا وأخيرًا: نماذجّ مشرفةٌ في الحياءِ!!
أيُّها السادةُ: في عُجالةٍ سريعةٍ نماذجُ مشرفةٌ تتحدثُ عن نفسِهَا حياءً وأدبًا واحترامًا فقد خلَّدَ القرآنُ الكريمُ ذكرَ امرأةٍ مِن أهلِ الحياءِ، كمَا قالَ اللهُ تعالَى عنها: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].
وهذا نموذجٌ رائعٌ للحياءِ، ففي الصحيحين عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هذِهِ المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتكَشَّفُ، فَادْعُ الله لِي، قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ، صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ الله أَنْ يُعَافِيكِ)). فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتكَشَّفُ: فَادْعُ اللهَ أَلَّا أَتكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا”.
ويكونُ الحياءُ في الرجالِ ورعًا وجمالًا وزينةً، وفي النساءِ عفةً وطاعةً وطهارةً، هذه أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي اللهُ عنهَا- قَالَتْ: “كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ، وَأَبِي، فَأَضَعُ ثَوْبِي، فَأَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي، فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ إِلَّا وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي حَيَاءً مِنْ عُمَرَ”. الله الله فأَجْمَلُ مَا في المَرْأَةِ حَيَاؤُهَا، وَعِنْدَمَا عَلِمَ أَبْنَاءُ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ هَذَا تَوَجَّهُوا إلى هَذَا الحَيَاءِ بِسِهَامِهِمْ، حَتَّى جَرَّدُوا المَرْأَةَ مِنْ ثِيَابِ الحَيَاءِ، وَجَعَلُوهَا مُهَانَةً وَعُرْضَةً للذِّئَابِ البَشَرِيَّةِ ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ.
ماذا نقولُ لنساءِ المسلمينَ اليوم، الذينَ نراهُم على مواقعِ التواصلِ بلا حياءٍ ولا خجلٍ؟! أينَ الحياءُ مِن اللهِ؟! وأينَ التربيةُ على قيمِ الإسلامِ وأخلاقِهِ؟! وأينَ الاستعدادُ ليومٍ (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج:2(هناكَ فارقٌ كبيرٌ بينَ عاصٍ وعاصٍ، هناكَ عاصٍ يرتكبُ المعصيةَ سرًّا، حياءً مِن الناسِ، غيرَ مبرِّرٍ للمعصيةِ وغيرَ معاندٍ، ولكنْ لضعفِهِ يقعُ في المعصيةِ ويتوبُ ويستغفرُ كلمَا وقعَ فيهَا. وهناكَ عاصٍ مستكبرٌ يرتكبُ المعصيةَ جهارًا نهارًا، لا يستحِي مِن اللهِ تعالى، ولا يستحِي مِن الخلقِ، يستخفُّ بأوامرِ اللهِ عزَّ وجلَّ وبأوامرِ سيدِنَا رسولِ اللهِ ﷺ. فالأولُ عاصٍ مستحيٍ، والآخرُ عاصٍ مستكبرٌ، فلنتخلقْ بخُلقِ الحياءِ، ولنُزَكِّ بهِ نفوسَنَا، ونربِّ عليهِ أبناءَنَا، وننشرهُ في بيوتِنَا ومجتمعاتِنَا، وذلك بمراقبةِ اللهِ جلًّ وعلا، وأداءِ الفرائضِ، والخوفِ مِن سوءِ الخاتمةِ، والشوقِ إلى ما عندَ اللهِ مِن نعيمٍ، والاقتداءِ بالأنبياءِ والعظماءِ، وعلينَا مطالعةَ سِيَرهِم وأخبارهِم لنسعدَ في الدنيا والآخرةِ.
ومِمّــــــا زادنِي فخـــــــــرًا وتيهـــــــًا وكـــــدتُ بأخمــــــــــصِي أطــــأُ الثــــــــــريّـا
دخولِي تحتَ قولِكَ يا عبادِي وأنْ صــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَّرتَ أحمدَ لي نبيّـــــــًا
حفظَ اللهُ مصرَ قيادةً وشعبًا مِن كيدِ الكائدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف