خالد بدير : المجتمع المعاصر يحتاج إلى خلق السماحة
المجتمع المعاصر يحتاج إلى خلق السماحة
قال الدكتور خالد بدير : إن الأمة الإسلامية في افتقار إلى خلق السماحة؛ لأن المسامح كريم الطبع عفيف النفس؛ يعم خيره وبركته كل مكان؛ وما أجمل وصف الأستاذ عبدالرحمن حبنكة الميداني للنفس السمحة حيث يقول: ” والنفس السَّمحة كالأرض الطَّيِّـبَة الهيِّنَة المستوية، فهي لكل ما يراد منها من خير صالحة، إن أردت عبورها هانت، وإن أردت حرثها وزراعتها لانت، وإن أردت البناء فيها سهلت، وإن شئت النوم عليها تمهدت”.( الأخلاق الإسلامية) .
إن خلق السماحة لا يظهر إلا عند التعامل بالدرهم والدينار، إنك حينما تجلس مع أحد يقول لك كلاما معسولا تحسبه صالحا تقيا ورعا؛ ولكن حينما تعامله بالدينار والدرهم تظهر حقيقته؛ لذلك قيل ( الدين المعاملة ) وهذه الأخلاق والمعاملة السمحة كان يطبقها النبي – صلى الله عليه وسلم- على أرض الواقع، حتى أصبحت منهج حياة. فعَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:
جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَفَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ؛ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى وَوَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ؛ فَاشْتَرَى مِنَّا سَرَاوِيلَ؛ فَقَالَ لِلْوَزَّانِ:” زِنْ وَأَرْجِحْ “. ( أحمد وأبو داود والترمذي وصححه). فكان صلى الله عليه وسلم يعطي زيادة في ثمن السلعة تسامحاً منه وكرماً، لأن الدنيا لا تساوي عنده شيئاً .
بهذه الأخلاق السمحة كان الرجل لا يكاد يعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويسلم إن كان كافراً:
أو يزيد إيمانه إن كان مسلماً، إننا يجب أن نكون دعاة بتعاملنا وتسامحنا قبل أقوالنا، يجب أن نكون سمحاء رحماء بإخواننا حتى تسود المودة، وينتشر الإخاء، لأن غياب التسامح يمزق شملنا، ويفرق جمعنا !!
انظروا إلى سلفنا الصالح ومدى سماحتهم مع من عاملهم؟!! روي أن قيس بن عبادة – وكان من الأجواد المعروفين – مرض يوماً فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم فقيل له : إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين!! فقال أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة!! ثم أمر منادياً ينادي: من كان عليه لقيس مال فهو منه في حل، فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده وزاره!!
هكذا فلتكن الأخلاق، هكذا فليكن الصفح، وهكذا فلتكن السماحة !!
أخي المسلم: هل أنت ممن يتصف بخلق السماحة ؟! إذا بعت، إذا اشتريت، إذا أخذت أجرة عملك، إذا دفعت للأُجراء أجرهم، هل أنت ممن يتصف بهذا الخلق؟، تجد بعض الناس – سبحان الله – إذا باع، نزّل للناس من الثمن دون أن يطالبوه، وزاد لهم في السلعة، وتبسّم في وجوههم، فإذا بالقلوب مقبلة على الشراء منه، محبة له، وترى بعض الناس إذا باع، ما أنقص من الثمن قرشاً، ولا زاد في السلعة شيئًا، وفوق هذا إذا كاسرته أو فاوضته، رد عليك بكلمة قاسية، فنفرت القلوب منه، ففاز ذاك بمحبة الناس، ورواج ببضاعته، ومحبة رب الناس قبل ذلك، وباء هذا بعداوة الناس، وبوار تجارته، وفقد هذا الخلق الذي أحبه الله سبحانه.
وتابع الدكتور خالد بدير، كثير من الناس يقول الكلمة الشائعة والمعروفة : إنني أعامل فلانا بمعاملته، أعامله بغلظة وعنف وشدة!! ولكني أقول لك:
عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به؛ فعاملهم بطبعك لا بطبعهم . وأذكر لكم هذه القصة الرائعة في هذا المضمون: جلس عجوز حكيم على ضفة نهر وفجأة لمح قطاً وقع في الماء، وأخذ القط يتخبط؛ محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق؛ فقرر الرجل أن ينقذه؛ ومدّ له يده فخمشه القط؛ فسحب الرجل يده صارخاً من شدّة الألم؛ ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية لينقذه، فخمشه القط مرة أخرى؛ فسحب يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم ؛ وبعد دقيقة راح يحاول للمرة الثالثة !! على مقربة منه كان يجلس رجل آخر ويراقب ما يحدث ؛ فصرخ الرجل:
أيها الحكيم ، لم تتعظ من المرة الأولى ولا من المرة الثانية ، وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة ؟لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل ، وظل يحاول حتى نجح في إنقاذ القط ، ثم مشى الحكيم باتجاه ذلك الرجل قائلاً : يا بني … من طبع القط أن يخمش ومن طبعي أنا أن أُحب وأعطف وأسامح ؛ فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعي !!؟ يا بني :
عامل الناس بطبعك لا بطبعهم!!
فكثير من الناس في واقعنا المعاصر يخمشونك في تعاملاتهم وأقوالهم وأفعالهم كالقط أو يزيد ؛ وليس هذا مسوغاً لك ان تعاملهم بمعاملتهم ؛ ولكن عليك أن تظهر لهم سماحة الإسلام وأخلاقه في التعامل مع الغير؛ فإن قالوا لك شراً فقل لهم خيراً؛ فقد روى أن عيسى عليه السلام مر على قوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً ، فقالوا: يقولون لك شراً فتقول لهم خيراً ؟! قال عليه السلام: كل واحد ينفق مما عنده!! وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ؛ وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ؛ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ:” لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ “(مسلم).
قال الإمام النووي: ” معناه كأنما تطعمهم الرماد الحار ، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ، ولا شيء على هذا المحسن ، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته ، وإدخالهم الأذى عليه . وقيل : معناه إنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف المل . وقيل : ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالمل يحرق أحشاءهم ” . وانظر إلى عبدالله بن مسعود فقد جاءه رجل فقال: “إن لي جار يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ فقال ابن مسعود: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه” (إحياء علوم الدين) .
ولذلك ضرب بالأحنف بن قيس المثل في الحلم والصفح والتسامح، فقيل له:
كيف وصلت إلى هذه المنزلة؟ فقال: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث : إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضّلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه.
فما أحوجنا إلى الخلق الجليل في زمن بلغ فيه البغض غايته، ورفع فيه الحسد رايته، ما أحوجنا إلى السهولة واليسر، والسماحة والتجاوز، حتى نعيش في هذه الدنيا بهناء، ونكون يوم القيامة سعداء !!