القنوت في الصلاة لصرف فيروس كورونا ، مفتي الجمهورية يجيب
أفادت منظمة الصحة العالمية (WHO) على موقعها الرسمي، أن فيروس الكورونا منذ ظهوره في آخر ديسمبر الماضي في مدينة ووهان الصينية، يُمَثِّلُ بلاءً داهمًا وخطرًا بالغًا؛ سرعان ما انتشر في مدن الصين وغيرها؛ حتى استوجب ذلك إعلان حالة الطوارئ الصحية العالمية.
وهذا الفيروس وإن لم يُعدّ وباءً عالميًّا، لكنه وباءٌ موضعيٌّ، والذي عليه المحققون أن الداء الذي يُسبب المرض لكثيرٍ من الناس في جهةٍ مُعيَّنة من الأرض دون سائر الجهات، لا يخرجه عن كونه وباءً:
قال الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في “المنتقى شرح الموطأ” (7/ 198، ط. دار السعادة): [الوباء هو الطاعون، وهو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات دون غيرها، بخلاف المعتاد من أحوال الناس وأمراضهم، ويكون مرضهم غالبًا مرضًا واحدًا، بخلاف سائر الأوقات، فإن أمراض الناس مختلفة] اهـ.
وقد اتفق العلماء على مشروعية الدعاء واللجوء إلى الله تعالى عند حلول الوباء، وتواترت الأحاديث بالاستعاذة من وطيس الأمراض وسيئ الأسقام؛ لما في ذلك من الخضوع والتذلل لله تعالى، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وُعِكَ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما.. قالت: فجئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرتُه، فقال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» رواه البخاري.
قال الإمام النووي في “شرح مسلم” (9/ 150، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه: الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم والبركة فيها، وكشف الضر والشدائد عنهم، وهذا مذهب العلماء كافة] اهـ.
والدعاء هو من جنس القنوت وأحد معانيه؛ قال العلامة الملا علي القاري الحنفي في “مرقاة المفاتيح” (3/ 958، ط. دار الفكر): [والظاهر: أن المراد بالقنوت هنا الدعاء، وهو أحد معاني القنوت كما في “النهاية” وغيره، وكذا نقل الأبهري عن زين العرب] اهـ.
والمأثور عن السلف الصالح، وهو مذهب جماهير العلماء من الفقهاء والمحدثين: مشروعية القنوت عند النوازل؛ قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “مجموع الفتاوى” (23/ 108): [القنوت مسنون عند النوازل، وهو قول فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم] اهـ.
كما اتفق العلماء أيضًا على مشروعية قنوت المسلمين في صلاة الفجر لرفع البلاء وكشف الضُّر عن البلاد والعباد إذا ألمَّت بهم نازلة، غير أنهم اختلفوا في القنوت للنازلة في غير الفجر مِن الصلوات المكتوبة:
فالحنفية: لا يرون مشروعية القنوت في الفجر ابتداءً بلا سبب، فإذا نزلت بالمسلمين نازلةٌ فالقنوت عندهم مشروع في كل الصلوات الجهرية.
قال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في “البناية شرح الهداية” (2/ 504، ط. دار الكتب العلمية): [إن نزل بالمسلمين نازلة: قنَتَ الإمام في صلاة الجهر، وبه قال الأكثرون وأحمد. وقال الطحاوي: إنما لا يقنت عندنا في صلاة الفجر من غير بلية، فإن وقعت فتنة أو بلية: فلا بأس به، فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام] اهـ.
وقال العلامة الملا علي القاري الحنفي في “مرقاة المفاتيح” (3/ 958، ط. دار الفكر): [أطبق علماؤنا على جواز القنوت عند النازلة] اهـ.
والمالكية: يرون الاقتصار في القنوت على صلاة الفجر ومشروعيةَ استدامتِه؛ حيث عللوا استدامة القنوت في الفجر بأنه مشروع لمطلق الحاجة لدرء الشرور وجلب الخيور، لا لخصوص النوازل، وأن حاجة المسلمين للدعاء مستمرة، وهذا يتضمن مشروعية القنوت للنوازل عندهم بطريق الأوْلَى؛ لأن حاجة المسلمين إلى الدعاء في النوازل أشد، بل إنهم نصوا أيضًا على مشروعية الصلاة لدفع الوباء والطاعون، فرأوا في ذلك مزيد تضرع وشدة التجاء، وهذا متضمن لمشروعية الدعاء بدرء البلاء وصرف الوباء في القنوت من باب أولى؛ من جهة أن مشروعية الأشد تقتضي مشروعية الأخف:
قال القاضي عياض المالكي في “إكمال المعلم” (2/ 658، ط. دار الوفاء): [اختلف العلماء في القنوت في صلاة الفجر وفى الوتر في رمضان، وغيره، وما عدا ذلك، فلم يعملوا به إِلا أن ينزل نازلة؛ كما نزلت بأصحاب بئر معونة، أو يحتاج إلى الدعاء في أمر مهم؛ فقد أرخص بعضهم أن يقنتوا في سائر الصلوات ويدعوا في ذلك] اهـ.
وقال الإمام ابن العربي المالكي في “القبس في شرح موطأ مالك بن أنس” (1/ 348، ط. دار الغرب الإسلامي): [ورأى أحمد بن حنبل أن قنوتَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لسببٍ فيما كان ينزل بالمسلمين، والأحكامُ إذا كانت معلَّقة بالأسباب زالت بزوالها، ورأى مالك رضي الله عنه والشافعي أن ذلك مِن كَلَبِ العدو ومُقارعتِه معنى دائم؛ فدام القنوت بدوامه] اهـ.
وقال الإمام القرافي المالكي في “الذخيرة” (2/ 231، ط. دار الغرب): [جوابه: منع التعليل بخصوص تلك الوقائع؛ بل لمطلق الحاجة لدرء الشرور وجلب الخيور، وهو أولى؛ لعمومه، فيجب المصير إليه] اهـ.
وقال العلامة الخرشي المالكي في “شرح مختصر خليل” (1/ 351، ط. دار الفكر): [(قوله: ودل كلامه على أن الصلاة إلخ) أي: للزلزلة ونحوها، أي: ويدخل في ذلك الصلاةُ لدفع الوباء والطاعون] اهـ.
والصحيح عند الشافعية: تعميم القنوت في جميع الصلوات المكتوبة، ومثَّلوا النازلة بوباءٍ، أو قحطٍ، أو مطَرٍ يَضُرُّ بالعُمران أو الزرع، أو خوف عدُوٍّ، أو أَسْرِ عالِمٍ، ونحو ذلك:
وقال الإمام النووي الشافعي في “شرح مسلم” (5/ 176): [(باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة) والعياذ بالله.. مذهب الشافعي رحمه الله: أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائمًا، وأما غيرها: فله فيه ثلاثة أقوال؛ الصحيح المشهور: أنه إن نزلت نازلةٌ؛ كعدوٍّ، وقحطٍ، ووباءٍ، وعطشٍ، وضررٍ ظاهرٍ في المسلمين، ونحو ذلك: قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة وإلَّا: فلا] اهـ.
وقال الإمام القسطلاني الشافعي في “إرشاد الساري” (2/ 234، ط. الأميرية): [فإن نزل نازلة بالمسلمين، من خوفٍ أو قحطٍ أو وباءٍ أو جرادٍ أو نحوها: استحب القنوت في سائر المكتوبات] اهـ.
ونص الحنابلة على مشروعية القنوت في صلاة الفجر إذا نزلت بالمسلمين نازلة:
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (2/ 115، ط. مكتبة القاهرة): [فإن نزل بالمسلمين نازلة: فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح، نصَّ عليه أحمد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سُئل عن القنوت في الفجر؟ فقال: إذا نزل بالمسلمين نازلة، قنت الإمام وأمَّن مَن خلفه] اهـ.
وقد رجَّح جماعة من العلماء مذهب القائلين باستحباب القنوت في جميع الصلوات المكتوبة إذا نزلت نازلة، ولم يأت ما يخصُّ ذلك بصلاة دون غيرها:
قال العلامة الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (4/ 1230، ط. نزار الباز): [اعلم أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائمًا، وأما في غيرها ففيه ثلاثة أقوال، والصحيح المشهور: أنه إذا نزلت نازلة، كعدوٍّ وقحطٍ، أو بلاءٍ وعطشٍ وضررٍ ظاهر في المسلمين ونحو ذلك، قنتوا في جميع الصلوات المكتوبة، وإلا فلا] اهـ.
وقال العلامة الشوكاني في “نيل الأوطار” (2/ 401، ط. دار الحديث): [إذا تقرر لك هذا علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال: إن القنوت مختص بالنوازل، وإنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة] اهـ.
وقال العلامة المباركفوري في “مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” (4/ 301، ط. الأبحاث العلمية بالهند): [والراجح عندي: هو ما ذهب إليه الشافعي وجمهور أهل الحديث؛ لأن الأحاديث الصحيحة صريحة في طلب القنوت في الصلوات الخمس، ولم يجئ حديث مرفوع صحيح أو ضعيف في تخصيصه بالجهرية أو الصبح فقط] اهـ.
والقنوت لصرف البلاء مشروعٌ دفعًا ورفعًا؛ فكما يُشرَع لرفع البلاء والوباء وكشف الضُّر والقحط عن البلاد والعباد إذا ألمَّت نازلة، يُشرَع كذلك لدفع الضرر الذي يُخشَى حصولُه، وإن لم يتحقق بالداعين نزولُه؛ فيكون جائزًا رفعًا ودفعًا.
ونص الشافعية على مشروعية القنوت في الصلوات المكتوبات لدفع الضرر عن المسلمين أو بعضهم، ولو واحدًا، لكن بشرط تعدي نفعه؛ كالعالم والشجاع، ودفع الخوف من نحو عدو ولو من المسلمين، والقحط، والجراد، والوباء، والطاعون، ونحو ذلك:
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في “المنهاج القويم” (ص: 103، ط. دار الكتب العلمية): [“المكتوبات للنازلة” إذا نزلت بالمسلمين أو بعضهم، إن عاد نفعه عليهم؛ كالعالم، والشجاع، والخوف من نحو عدو ولو من المسلمين، والقحط، والجراد، والوباء، والطاعون، ونحوها؛ لما صح أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك شهرًا لدفع ضرر عدوه عن المسلمين، وخرج بالمكتوبة النفل والمنذورة وصلاة الجنازة؛ فلا يُسَنُ فيها] اهـ.
وقال العلامة سليمان الجمل الشافعي في “فتوحات الوهاب” (1/ 369، ط. دار الفكر): [(قوله على قاتلي أصحابه إلخ) وكان الحامل له على القنوت في هذه القضية دفع تمرد القاتلين لا النظر إلى المقتولين لانقضاء أمرهم وعدم تداركهم، وإلا فقد وقع له صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أعظم من ذلك ولم يدع] اهـ.
كما نص فقهاء الشافعية على أن القنوت لرفع النوازل والبلايا يُسن ولو لغير من نزلت به:
قال العلامة البجيرمي الشافعي في حاشيته على شرح المنهج المُسمَّاة “التجريد لنفع العبيد” (1/ 207، ط. الحلبي): [(قوله: لنازلة) أي: “لرفعها ولو لغير من نزلت به؛ فيسن لأهل ناحية لم تنزل بهم فعل ذلك لمن نزلت به” اهـ حلبي، وعبارة “شرح الرملي”: بأن نزلت بالمسلمين ولو واحدًا على ما بحثه جمع، لكن اشترط فيه الإسنوي تعدي نفعه؛ كأسرٍ لعالم أو شجاع، وهو ظاهر. اهـ. وخرج بالواحد الاثنان، ومقتضاه: أنه يقنت لهما وإن لم يكن فيهما نفع متعد. اهـ. “الشبراملسي على الرملي”] اهـ.
والدعاء بالصحة والعافية ليس مقصورًا على المسلمين وحدهم؛ بل يشرع الدعاء لغير المسلمين أيضًا بالشفاء والصحة والبركة وغير ذلك من منافع الدنيا؛ فإن الإسلام دين سلام ورحمة وأمان للبشرية؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، والبشر كلهم إخوة في الإنسانية؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
والدعاء بذلك جائزٌ في الصلاة وخارجها؛ لما تقرر عند جماعة من الفقهاء:
فعن إبراهيم النخعي، قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اُدْعُ الله لي، فقال: «كَثَّرَ اللهُ مَالَكَ، وَوَلَدَكَ، وَأَصَحَّ جِسْمَكَ، وَأَطَالَ عُمُرَكَ» رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في “تحفة المحتاج” (2/ 88، ط. دار إحياء التراث العربي): [ويجوز الدعاء للكافر بنحو صحة البدن والهداية] اهـ.
وقال الحافظ زين الدين المناوي في “فيض القدير” (1/ 345، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ويجوز الدعاء للكافر أيضًا؛ بنحو هداية، وصحة، وعافية] اهـ.
ونص جماعة من العلماء على أن كل ما جاز الدعاءُ به خارج الصلاة جاز الدعاءُ به فيها؛ قال الإمام النووي الشافعي في “المجموع” (3/ 471، ط. دار الفكر): [مذهبنا: أنه يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدين والدنيا] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فيجوز القنوت لصرف مرض الكورونا؛ لِكونه نازلةً من النوازل، ومصيبة من المصائب حلَّت بكثير من بلدان العالم، سواء كان القنوت لرفعه أو دفعه، وذلك من عموم المسلمين؛ الموبوئين بالكورونا وغيرهم، والدعاء بصرف المرض والوباء يكون عامًّا للمسلمين وغير المسلمين، في الصلاة وخارجَها، كما يجوز القنوت لذلك في جميع الصلوات المكتوبات؛ عملًا بقول بعض العلماء، أو الاقتصار عليه في صلاة الفجر خروجًا مِن خلاف مَن قصره عليها من الفقهاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.