الأزهر
الإمام الأكبر: غياب الإنصاف من أخلاق التعامل بين الناس يفتح الأبواب للظلم
واصل اليوم فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في برنامجه اليومي، الذي يذاع طوال شهر رمضان المبارك، على الفضائية المصرية في الساعة 18:35 قبيل الإفطار – الحديث عن إنصاف الإسلام للمخالف للدين.وقد أكد فضيلته خلال اللقاء: أن غياب قيمة الإنصاف من لائحة أخلاق التعامل بين الناس يفتح الأبواب على مصارعها للظلم الذي هو ظلمات يوم القيامة، والقرآن الكريم يقدم للمؤمنين به أنموذجًا رائعًا في قيمة العدل والإنصاف مع الآخر المخالف للدين، بل للعدو الذي يخشاه ويتقيه، يحدثنا أهل التفسير أن رجلًا من المسلمين على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقال له: طعمة بن أُبَيْرق، سرق درعاً من جار له يقال له: قتادة بن النعمان؛ وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب، حتى انتهى إلى الدار، وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين؛ فالْتُمسَتْ الدرع عند طُعْمَةَ، فلم تُوجَدْ عنده، وأقسم بالله أنه ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: بلى، والله قد أَدْلَجَ علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق: فلما أن حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهَوا إلى منزل اليهودي، فأخذوه فقال: دفعها إِليَّ طُعْمَةُ بن أُبَيْرِق، وشهد له أناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر – وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وكاد النبي – صلى الله عليه وسلم – يصدق أهل طُعمة بن أُبيرق، ويصدق أن اليهودي هو الذي سرق هذا الدرع، وهمَّ أن يعاقب اليهودي، فإذا بتسع آيات من القرآن الكريم في سورة النساء{105-113} تُبرِّيء اليهودي من السرقة، وتصف طُعمة المسلم وأقاربه بالخيانة: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) فيها عتاب للنبي – صلى الله عليه وسلم – لماذا؟ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – كاد يصدق أن اليهودي هو الذي سرق، فالآية تقول: (وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) أي: لا تدافع عن طُعمة (وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)؛ لأنه همَّ أن يصدق هؤلاء، فالأنبياء يعاتبون على الهمّ، حتى قبل الفعل (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) {يوسف:24}، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لما هَمَّ أن يصدق – لم يصدق- ولكن هَمَّ أن يقتنع بكلامهم، فكان العتاب من الله له: (وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا)، (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) أي: لا تدافع عن الخونة، طُعمة وأقاربه، فهؤلاء (يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) ثم يقول جل وعلا: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) فهم يستترون من الناس خوفاً من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه، وهو عزَّ شأنه معهم بعلمه، مطلع عليهم حين يدبِّرون، ليلا، ما لا يرضى من القول، وكان الله – تعالى – محيطاً بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه منها شيء، وذلك أنهم رتبوا ماذا يقولون للنبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يذهبوا إليه، وهذا معنى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها (هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) هذا تقريع آخر؛ أي: إذا استطعتم يا قومَ طُعمة أن تجادلوا عنه في الحياة الدنيا، فمن يحاجج الله – تعالى – عنه يوم البعث والحساب حين ينكشف أمره؟ ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة؟ (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا) ذنباً يسوء به غيره كرمي طعمة اليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) يعمل ذنبا قاصرا عليه (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) منه، أي يتب (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)، (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ، وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) أي طعمة (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهو اليهودي (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).فهذه تسع آيات نزلت؛ لتبرئ اليهودي المظلوم، وتسميه بريئاً، وتدين المسلم الظالم وتعاتب النبي – صلى الله عليه وسلم؛ لهمه أن يصدقهم، وفي ذلك دلالة قاطعة على أن الإسلام دينُ إنصاف بالدرجة الأولى.ثم توقف فضيلته عند أنموذج آخر من السنة النبوية المطهرة عَنْ اَلْمُسْتَوْرِدِ اَلْقُرَشِيِّ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: “تَقُومُ اَلسَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ اَلنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ اَلنَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ…” فحين تقوم الساعة سيكون عدد الروم – وهم المسيحيون – أكثر الأعداد، فقال عمرو بن العاص – رضي الله عنه- للمستورد: انظر ماذا تقول؟ أي: تأكد، فقال له المستورد القرشي: أقول ما سمعته من النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال عمرو بن العاص: لَئِنْ قُلْت ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالاً أَرْبَعًا: “إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ اَلنَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ”؛ أي: عندما تحدث الفتن تجدهم أهل حلم وأهل عفو، “وأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ” بمعنى أنهم إذا نزلت بهم المصيبة أو ابتلاء، سرعان ما يفيقون، فالحزن عندهم لا يطول، فهم لذلك أسرع الناس إفاقة حينما تصيبهم مصائب، “وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ”، بمعنى أنهم إذا قاتلوا أو قوتلوا يكرون على العدو، فإذا فرَّوا فبسرعة يعيدون الكرَّة مرة أخرى، ولما كان عمرو بن العاص أدرى الناس بالكرّ والفرّ، أُعجِبَ بسرعتهم في الكر والفر، “وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ” وهذه الميزة قد جمعت الأخلاق من أطرافها حيث إنهم خير الناس للمساكين ولليتامى وللضعفاء وللبؤساء…ومن منطلق شهادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص التي جاءت في حديث المستورد القُرَشي- أكد فضيلته أنه يعتز بأن إسلامه ونبيه – صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام ينصفون الآخرين، ولو ما قال ذلك عمرو بن العاص فما كان أحدٌ سيلومه، ولكنه حين يوضح ذلك، فهذا معناه قمة الإنصاف. |
إتبعنا