أحمد نورالدين يكتب : جبر الخواطر على الله
الأخلاق في ديننا الإسلامي الحنيف شأنها عظيم ومكانتها عالية ، ولذلك دعانا نبينا الكريم إلى التحلي والأخذ بها وتنميتها في نفوسنا، فعَنْ أَبِي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال رسول اَللَّهِ – صلى الله عليه وسلم ( ما مِنْ شىء في اَلْميزان أَثْقل مِنْ حُسْنِ الْخلق ) أَخْرَجَهُ أَبُو داود, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق ), وهي أحد الأصول الأربعة التي تقوم عليها شريعتنا الغراء ( الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات) .
ومن أخلاق ديننا العظيم الذى حث عليه وطبقه نبينا الكريم قولا وعملا, خلق جبر الخواطر, لما فيه من توثيق عرى الإخاء والمودة والألفة بين المسلمين, وهو خلق وأدب إسلامي رفيع عظيم لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس التقية ، ومن أهميته ما جعل أهل السنة والجماعة ، ما يفردون له فى مصنفاتهم في العقيدة، إذ يقول إسماعيل بن محمد الأصبهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة: “ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، ومواساة الضعفاء والشفقة على خلق الله” .
وهذا كتابنا المقدس –القرآن الكريم – يحوى نماذج عديدة تطييبا للضعفاء والمساكين واهل الحاجة , فطيب خاطر المطلقة بالتمتيع، وهو حق على المحسنين، متاعاً بالمعروف، فإذا لم يفرض لها مهر كان المتاع والتمتيع واجباً على المطلق، وإذا كان لها مهر أخذته، فإن تمتيعها بشيء تأخذه معها وهي ترتحل من مال غير المهر، أو ثياب، أو حلي، ونحو ذلك؛ جبراً لخاطرها، وتطييباً للقلب المنكسر بالطلاق، {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} سورة البقرة (236)، {فتعالين أُمتعكن وأُسرحكن سراحا جَمِيلًا} سورة الأحزاب(28)، لماذا؟ لأن القلب النفس كسرا بالطلاق ، وأُقرت الدية في قتل الخطأ؛ جبرا لنفوس أهل المجني عليه، وتطييبا لخواطرهم، كما قال ابن قدامه -رحمه الله-، وهل شرعت الحدود والتعزيرات إلا جبرا لخاطر المعتدى عليهم؟
و كان يجبر خاطر كل من تكلم معه, فكان إذا تكلم معه إنسان نظر في عينيه، وهذا من جبر الخواطر, و إذا صافحه أحد لا يفلت يده حتى يفلت الطرف الآخر، وإذا ناداه أحد لا يلتفت إليه بجنبه بل يلتفت إليه بكله جبرا لخاطره.
وقد حوت السيرة النبوية وحياة السلف والتابعين العديد من نماذج تطييب وجبر خاطر المسلمين الضعفاء جبرا لكسر قلوبهم ونفوسهم وتعزيزا لأواصر المحبة , وهذا ربنا –تبارك وتعالى – يعاتب نبيه -صلى الله عليه وسلم- في ابن ام مكتوم الأعمى, تطييبا لخاطره لأنه أعرض عنه ، وقد جاءه ليعلمه دينه ,قائلا يا رسول الله: علمني مما علمك الله، فانشغل عنه النبى واعرض عنه ، فأنزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} سورة عبس:(1 – 4)، قال القرطبي في التفسير: “فعاتبه الله على ذلك؛ لكي لا تنكسر قلوب أهل الإيمان”
وهذا الغلام الصغير زيد بن أرقم , ينزل الله قرآناً في تطييب نفسه وخاطره في قصته: (أنه لما سمع قول عبد الله بن أبي لأصحابه وكان بمعزل عن جيش المسلمين، ولم يأبهوا لذلك الغلام، فقال عبد الله المنافق لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، أبلغ زيد عمه، وأبلغ العم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلمة خطيرة جداً، أرسل النبي لعبد الله بن أبي، جاء، وحلف، وجحد، قال زيد: فصدقه رسول الله,وصار اللوم على زيد، كيف تنقل مثل هذا الكلام الخطير، أنت غلام لا تعلم ماذا يترتب على مثل هذا الكلام، قال زيد: فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد، فبينما أنا أسير قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله فعرك أذني، وضحك في وجهي، فما كان يسرني أني لي بها الخلد في الدنيا).
ويطيب رسولنا الحبيب القدوة والأسوة خاطر الصحابى الجليل جليبيب وكان دميم الوجه , ويزوجه من احدى بنات الانصار , ليعلمنا ان الخيرية بالتقوى وليس بحسن الوجه والجاه والحسب , ويطيب الرسول جبر خاطر عكرمة بن أبى جهل رضي الله عنه بعد اسلامه آمرا الصحابة ألا يتكلموا وأن لا يعيروه بأبيه ، جبرا لخاطره.
وها هو النبى يجلس في المسجد بعد فتح مكة , فيأتيه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده قائلا: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فيجيبه رسول الله : (أين عثمان بن طلحة فيأتى به, فيعطيه مفتاح الكعبة , قائلا ومقررا له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف).
ونستمر مع قدوتنا وتاج رؤوسنا ومعلمنا – بأبى وأمى ونفسى يارسول الله- أهل الوفاء والمعروف, وكيف طيب وجبر خاطر الأنصار, معترفا بفضلهم وحقهم عليه, حيث غزوة حنين وعند توزيع الغنائم ما رواه أبو سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا ، في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم ؟ حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم : لقد لقي والله رسول الله قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء , قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي , قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة, قال : فخرج سعد ، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة , قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم ، فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم , فلما اجتمعوا له أتاه سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار : ما قالة ، بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا : بلى ، الله ورسوله أمن وأفضل . ثم قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل , قال: أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فآسيناك . أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا . ووكلتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار . اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار, وأبناء أبناء الأنصار , قال : فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسما ، وحظا , ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرقوا.
وكان سلفنا الصالح يعتبرون جبر الخواطر عبادة يتقربون بها الى ربهم-عز وجل – , فهذا سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: “ما رأيت عبادة أجل وأعظم من جبر الخواطر” , وهذا حسان بن سعيد المخزومي أراد أن يبني جامعاً، فأتته امرأة بثوب لتبيعه، وتنفق ثمنه في بناء ذلك الجامع، وكان الثوب لا يساوي أكثر من نصف دينار، فطيب خاطرها، واشتراه منها بألف دينار، وخبأ الثوب كفناً له .
والأمثلة في ذلك كثيرة ولا تعد , ويضيق بها مقامنا , وعلينا ان أردنا الحياة بمجتمع يسوده الحب والمودة والعرفان بين أفراده , أن نتلمس ذلك الخلق القويم سمتا لصفاتنا السلوكية بين بعضنا البعض, اقتداء برسولنا وقدوتنا المعلم , فنتبسم في وجه بعضنا –وهى صدقة-, ونتعامل بأدب جم مع الجميع, صغيرا وكبيرا ,عاليا أم متواضعا ,نثنى ونشكر من يسدى لنا عملا , حتى وإن كان ذلك من صميم عمله ,جبرا لخاطره, نساعد المحتاج ومن أثقلته الهموم, ونغيث الملهوف , ونحسن الى اليتامى والأرامل وذوى الحاجة والعوز والفقراء, بالكلمة والافعال الطيبة, نقبل اعتذار من أخطأ في حقنا , نلتمس العذر لإخواننا , نشجع وننمى الدعم النفسى المثمر الداعى لكل رقى وعلو ونجاح في نفوس غيرنا , وحتى نقترن بعلامات حسن الخلق كما قال بعض العلماء : ” أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً رضياً حكيماً رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق “.. رزقنا الله وإياكم حسن الخلق وجبر خواطر المنكسرين .. وصدق مثلنا العامى :” جبر الخواطر على الله ” .
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف